رشيد خشــانة – على خلاف المبادرتين الفرنسية والإيطالية للحل السياسي في ليبيا، مهد الألمان لمبادرتهم الأخيرة بستة اجتماعات تحضيرية، في مستوى المسؤولين السامين، عُقد أولها في 17 أيلول/سبتمبر في برلين، برئاسة مشتركة بين الأمم المتحدة والحكومة الألمانية، وحضرته وفود من ثمانية بلدان، إلى جانب مندوبين من الاتحاد الافريقي والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي. وتتالت الاجتماعات، بمشاركة الأطراف نفسها، وأدمجت توصياتها في القرارات الختامية لمؤتمر برلين، بينما كانت الجزائر أحد الغائبين الكبار عن تلك الاجتماعات، إذ لم تبلغها الدعوة الألمانية إلا قبل تسعة أيام من ميقات المؤتمر. والظاهر أن أمريكا لم تكن مرتاحة لهذا الغياب، إذ اتجه السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند إلى الجزائر بعد اجتماع برلين الثاني، واجتمع مع وزير الخارجية صبري بوقادوم، واستمع إلى مخاوف الجزائريين من انعكاسات تدهور الأوضاع الأمنية في ليبيا على الاستقرار في دول الجوار، ومن ضمنها الجزائر، التي تجمعها مع ليبيا حدود برية بطول ألف كلم.

أمريكا وميركل

وحذر الموفد الأمريكي من أن تدهور الوضع في ليبيا، سيُعطل الحرب على الإرهاب، ويُربك النمو الاقتصادي في منطقة شمال افريقيا بأسرها. وبعد الجزائر توجه السفير نورلاند إلى الإمارات ثم إلى مصر، فروسيا وأخيرا تركيا، في ما يُشبه الجولة المكوكية التنسيقية. ودلت تلك الجولة على أن واشنطن كانت من المساهمين في إنجاح مؤتمر برلين حول ليبيا، الأحد الماضي، بمشاركة 11 دولة هي الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا والصين وألمانيا وتركيا وإيطاليا ومصر والإمارات والجزائر والكونغو، وأربع منظمات دولية وإقليمية، أبرزها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. وساهمت تلك المساعي الأمريكية في توجيه المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل الدعوة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لحضور القمة، وعرض الأخير، بدوره استضافة الحوارات الليبية الليبية في إطار مبادرة برلين.

أكثر من ذلك، لم يُخف الأمريكيون قلقهم من التصعيد العسكري من جانب قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي أوقع من جديد ضحايا في المعارك الدائرة على تخوم طرابلس، وأبدوا استعدادهم للتعاون مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية، من أجل “إنهاء الصراع، وتمكين المواطنين الليبيين من استئناف حياتهم الطبيعية”. واللافت أن الأمريكيين لم يدعموا إقدام حفتر على احتلال الحقول النفطية، بدعوى المطالبة بتوزيع عادل للثروات الطبيعية، على أقاليم البلد، فحسب نورلاند من الأولويات المحافظة على وحدة المؤسسات الليبية الرئيسة، وفي مقدمتها “المؤسسة الوطنية للنفط” التي تعتبر حجر الزاوية في الاقتصاد الليبي الريعي، وكذلك مصرف ليبيا المركزي (مقره في طرابلس) في رد غير مباشر على الحديث عن مشروع لتقسيم المؤسستين، بما يمثله ذلك من مخاطر على وحدة البلد.

هدنة هشة

ماذا سيصنع رُعاة مؤتمر برلين بقراراته الخمسة والخمسين، وهو أكبر عدد من القرارات يصدر في نزاع مماثل؟ بالتأكيد، سيعملون على تحويل الهدنة الحالية الهشة، إلى اتفاق دائم لوقف إطلاق النار، وسيضغطون على الدول التي تُزود الطرفين المتقاتلين بالسلاح، كما سيعملون على نزع السلاح من أيدي الجماعات. نظريا، ستساهم هذه الخطوات، لو تمت فعلا، في تبريد جبهات القتال وحلحلة الوضع العسكري. غير أن اللواء حفتر ما زال ممتنعا عن التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، بالرغم من أن حلفاءه الروس هم الذين صاغوه، فضلا عن عدم الوفاء بالالتزامات الأخرى، المُضمنة في قرارات برلين، ما دعا الأمين العام للأمم المتحدة إلى حضه (حفتر) على “القبول بمخرجات برلين”. لكن الواضح أن إيمان القائد العسكري للمنطقة الشرقية باللجوء للحل العسكري لم يتزعزع، ما قد يجعل القرارات الصادرة عن مؤتمر برلين حبرا على ورق.

وتلعب فرنسا، حسب مصادر رسمية إيطالية، دورا معرقلا للمسار السلمي، إذ اعترضت على إصدار بيان يُدين إغلاق حفتر حقول النفط وموانئ تصديره، تقدمت به كل من بريطانيا وإيطاليا، الاثنين الماضي في بروكسل، وباركته الولايات المتحدة. وأفادت المصادر الايطالية أن هذا القرار، جاء بناء على “طلب صريح” من حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. ومن بين المنشآت النفطية التي سيطر عليها حفتر، مجمع شركة “إيني” الايطالية في مليتة (غرب) حيث يعمل مهندسون وفنيون إيطاليون.

مع ذلك نجح الألمان في الحصول على موافقة الغريمين على تعيين ممثليهما في اللجنة العليا لوقف إطلاق النار، التي ستجتمع في جنيف برعاية الأمم المتحدة، وبرئاسة رئيس بعثتها في ليبيا غسان سلامة. وتوقع دبلوماسي مدعوٌ لحضور الاجتماع، أن تعكف اللجنة على درس العناصر التي طلب خليفة حفتر إضافتها لمشروع الاتفاق الروسي التركي، الذي عُرض عليه في موسكو ورفض التوقيع عليه.

تحييد المنشآت النفطية

من الملفات الشائكة التي تُعطل مسار الحل السياسي، الإصلاحات الأمنية، فدعوات مؤتمر برلين إلى دمج الهياكل العسكرية أو شبه العسكرية، بما فيها الميليشيات المنخرطة تحت لواء “حكومة الوفاق” وتلك التي يعتمد عليها “الجيش الوطني” بقيادة حفتر، تبدو غير واقعية، مع أن إيجاد منظومة أمنية موحدة، تعمل تحت سلطة الدولة، أمرٌ لا مناص منه. ومن المهم أيضا تنفيذ أحد بنود مؤتمر برلين، وهو المتعلق بتقديم كافة المُورطين في انتهاكات حقوق الإنسان للمحاكمة الدولية، بالإضافة لتنفيذ البند المتعلق بعدم التعرض للمنشآت النفطية، بعدما أوقف حفتر الإنتاج في تلك الحقول، للضغط على المجتمعين في برلين. ويمكن اعتبار هذه الثغرات من نقاط الضعف في مخرجات برلين. ومن نقاط الضعف أيضا غياب جدول زمني لوقف الأعمال القتالية، وإفلات منتهكي الهدنة من العقاب. ويعود ذلك إلى رفض عدة دول، من بينها فرنسا وروسيا، إيجاد آلية لفرض عقوبات على المنتهكين.

على هذه الخلفية اعتبر وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الأطراف الدولية لم تنجح في إطلاق حوار جاد ومستقر في ليبيا. وقد يكون مردُ هذا التقليل من نجاح المؤتمر إلى خوف الروس من استعادة برلين، ومن ورائها أوروبا، زمام المبادرة من الروس والأتراك في الملف الليبي. كما لوحظ أيضا أن الإعلام الفرنسي قلل، في الغالب، من أهمية مؤتمر برلين، وركز على إبراز “ثغراته” وهذا مفهوم فهو امتداد للمناكفات التقليدية الفرنسية الألمانية، خصوصا أن باريس لن تُقرَ بتوفيق الألمان حيث فشلت هي… مرتين.

ثلاثة مسارات

على عكس لافروف، اعتبر الدكتور غسان سلامة أن المسارات الثلاثة (العسكري والاقتصادي والسياسي) لحل الأزمة الليبية بدأت تعمل، ومن بينها اجتماع وزراء خارجية دول الجوار الليبي في الجزائر الخميس الماضي. أما على المسار الأمني، فستجتمع اللجنة الأمنية العسكرية المؤلفة من خمسة ضباط سامين، ينتمون لحكومة الوفاق، ومثلهم من ضباط جيش حفتر، خلال أيام، بعدما تسلم المبعوث الأممي أسماء الضباط من الطرفين، فيما باشرت اللجنة المالية والاقتصادية اجتماعاتها منذ السادس من الشهر الجاري. ويقوم المسار السياسي على اختيار 13 عضوا من مجلس النواب (مقره في طبرق –شرق) و13 آخرين من المجلس الأعلى للدولة (مقره في طرابلس) إضافة إلى عدد من الشخصيات المستقلة والسيدات وممثلي المكونات الاجتماعية، الذين تختارهم البعثة الأممية، ويجتمعون مع المندوبين القادمين من مجلسي النواب والدولة.

ويتمثل القسم الأساسي من خطة اللجنة الأمنية العسكرية، حسب سلامة، بتأمين “مغادرة المقاتلين الأجانب الأراضي الليبية في أسرع وقت”. أما على المسار السياسي، فسيتم البحث في المواضيع العالقة منذ سنوات، وبينها مصير مسودة الدستور، التي تم التفاهم عليها في الهيئة التأسيسية، ومصير قوانين الانتخاب، وتحديد موعد لإجراء انتخابات عامة، وربما إعادة تشكيل حكومة موحدة لعموم ليبيا، تشرف على إجراء الانتخابات.

دور محوري للجزائر؟

في هذا المشهد تبرز الجزائر شيئا فشيئا كشريك غير رسمي للألمان في قيادة المبادرة الحالية للسلام في ليبيا، فهي كانت حاضرة في برلين بمستوى رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، ومن المقرر أن يزورها اليوم الأحد الرئيس التركي اردوغان، بعدما زارها كل من رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي ووزراء الخارجية الفرنسي والتركي والمصري والإيطالي. وسعى الجزائريون للمحافظة على مسافة واحدة من الغريمين السراج وحفتر، وأكد تبون في مؤتمر برلين، استعداد بلاده لاستضافة حوار بين الأطراف الليبية، بُغية “إبعاد شبح الحرب عن كافة المنطقة”. ويُباعد الموقف من الصراع الدائر في ليبيا بين الجزائر وفرنسا، التي تدعم رسميا حكومة الوفاق، بينما تُقدم العون في السر لخليفة حفتر. وتُبرر باريس هذه الازدواجية بكون حفتر هو الوحيد، حسب رؤيتها، القادر على السيطرة على الجماعات المسلحة في جنوب ليبيا، وهي المنطقة التي يعتبرها الفرنسيون بوابة الإرهاب، الذي يُقاتله جنودها في دول الساحل.

أما الجزائر فتطالب بجلاء القوات الأجنبية من منطقة الساحل، وتعترض على إرسال أي قوات إلى ليبيا. لكن في الواقع، يُشجع الإفلات من العقاب الغريمين الليبيين على تعزيز صفوفهما بمرتزقة من روسيا وسوريا والسودان وتشاد، بما يحول دون وضع الصراع على سكة الحل السلمي. لكن دور الجزائر مرشح للتوسع في المرحلة المقبلة، بالنظر لوزنها الجيوستراتيجي والعسكري، وبداية خروجها من أزماتها الداخلية، وخبرتها العتيقة في دبلوماسية الوساطة، وخاصة بين إيران وأمريكا، والعراق وإيران.

تعليقات