حسن أوريد – يعود مصطلح «اللعبة الكبرى» للكاتب الإنكليزي روديار كيبلينغ حين كان الصراع على أشده في القرن التاسع عشر على أفغانستان، ما بين بريطانيا وروسيا القيصرية، وأصبح منذ ذلك التاريخ تعبيرا متداولا لصراع الكبار، في سباق محموم يخفي أكثر ما يُظهر، في غياب المعنيين، أو على حساب الصغار.
الوضع في ليبيا هو كذلك لعبة كبرى، في صراع متدخلين عديدين، بمستويات عدة، في قوتهم وحجمهم وطموحهم، بل وأطماعهم، في غياب الليبيين الذين يرددون فيما يرفعه المتظاهرون: «كُفوا أيديكم عنا.»
على خلاف ما كان منتظرا، لم يسهم لقاء برلين حول ليبيا في حلحلة الوضع. أضحى شبيها بالحالة المعروفة «لا حرب ولا سلم»، فهو كذلك لا اتفاق ولا عدم اتفاق، مما يجعل الوضع قابلا لكل الاحتمالات بما فيها الأسوأ، مع إعلانات عامة، هي أشبه ما تكون بخطب إنشائية، من قبيل شجب التدخل الأجنبي، وحظر التسليح، ورفض الحل العسكري، وما شابه ذلك من المقتضيات المكررة. رُعاة لقاء برلين لم يكسبوا، ومعارضوه لم يخسروا، لكن الملف ازداد تعقيدا. موقف روسيا يظل متأرجحا بين دعم الحكومة الشرعية، وإبقاء العلاقة مع الجنرال حفتر، أو عبر المليشيات الروسية المحاربة بجانبه. ليس هناك تطابق تام ما بين الموقف الروسي والتركي حول ليبيا، رغم التنسيق الأخير الذي أفضى للقاء موسكو.
التطور الأخير في برلين، يضعف المجموعة الأوروبية، التي كان من المفترض أن تتكلم لغة واحدة، في القضايا الدولية، وفقا لما كان يريده منشؤوها، كي تكون قوة مؤثرة غير تابعة للولايات المتحدة. برز التصدع بين فرنسا وإيطاليا جليا في الملف الليبي، ما جعل إيطاليا تقترب من تركيا. دخول ألمانيا على الخط ليس مما يروق لفرنسا، وقد يحرك كوامن التاريخ، والأحلاف السابقة بين ألمانيا والامبراطورية العثمانية، ويتهدد من ثمة الثنائي الفرنسي الألماني الذي هو عماد الاتحاد الأوروبي. لا تربط تركيا وجود قواتها في ليبيا إلى جانب حكومة الوفاق، ومساندتها له إلى الشرعية الدولية وحدها، بل لاعتبارات تاريخية، أي أنها تربط الصلة بالماضي العثماني، و»استعادة» هذا الإرث ومن ثمة الدور. تسعى تركيا لأن تستثمر في هذا الإرث العثماني مع الدول التي كانت تابعة للحكم العثماني في المنطقة، تونس والجزائر، إلى جانب ليبيا، وتركز على الجزائر خاصة. وليس من قبيل المصادفة أن يحل الرئيس التركي الطيب رجب أردوغان بالجزائر، ويتم الإعلان أن من الملفات التي تعول عليها أنقرة، في لقاء الرئيس التركي بنظيره الجزائري عبد المجيد تبون، الملف الليبي.
إلا أن إحياء البعد العثماني من قبيل تركيا، يثير ردود فعل قوية من لدن مصر، التي بنت دولتها الحديثة مع محمد علي بالانفصال عن الباب العالي، وتنظر إلى تدخل تركيا في جوارها بتوجس شديد، يؤجج الخلافات القائمة، الناجمة عن موقف تركيا من النظام المصري. للمغرب كذلك حساسية مفرطة حيال تركيا، أو على الأصح حيال العثمانية الجديدة، لأن المغرب تاريخيا لم يخضع لسيطرة العثمانيين. تهديد وزيرالتجارة الخارجية المغربي بإعادة النظر في اتفاقية التبادل الحر مع تركيا، أعمق من أن تكون بواعثه اقتصادية صرف. ويلتقي البلدان، مصر والمغرب مع فرنسا، التي لا تنظر بعين الارتياح لتحركات تركيا، فيما تعتبره فرنسا مجالها الخاص أو الحيوي. يضاف طبعا دور الإمارات التي تدعم الجنرال حفتر، عسكريا، ولوجستيا وسياسيا. تواري الولايات المتحدة في التطورات الأخيرة، لا يعني انسحابا نهائيا من الملف، وهي تفضل عدم الانخراط، مرحليا، بالنظر إلى تضارب مواقف حلفاء الولايات المتحدة. الحياد الأمريكي غير نهائي ويرقب تطور الأوضاع.

لم يسهم لقاء برلين في حلحلة الوضع الليبي فلا هو اتفاق ولا عدم اتفاق، ما يجعل الوضع قابلا لكل الاحتمالات بما فيها الأسوأ

وأخيرا وليس آخرا، هو أن لقاء برلين، زاد من حدة التوتر بين الجزائر والمغرب. عدم استدعاء المغرب للقاء برلين أثار غضبا في الرباط، ورأى الملاحظون في حضور الجزائر، ممثلة في رئيسها، كما كتبت جريدة «لوموند» عودة الدبلوماسية الجزائرية، واحتضنت الجزائر عقبها لقاء لدول جوار ليبيا. وواضح أن هذه الدعوة، هي لتجاوز اتفاق الصخيرات، وعزل المغرب عن الملف الليبي. طبعا، اتفاق الصخيرات، ليس اتفاقا مغربيا، وإنما اتفاق ليبي تحت رعاية الأمم المتحدة، تم في منتجع بالمغرب. والمؤكد كذلك أن انخراط المغرب في الملف، هو استجابة للأطراف الليبية، وهو كذلك تعبير عن وعي المغرب بالتداعيات الممكنة للوضع في ليبيا على أمن المنطقة واستقرارها. ما قد يعاب على المغرب هو عدم انخراطه في الملف الليبي وليس انخراطه. متدخلون عديدون، بأجندات مختلفة، وتطورات درامية، كما في المسرح اليوناني. كثرة المتدخلين تعقد الملف. والأدهى والأمر، هو أن هذه التدخلات بصدد إفراز محاور، وكما يقول المثل المغربي، «يدي ويد القابلة يخرج الصبي أعور»، أي حينما تتعدد الأيادي، من القابلة وسواها، لكي تخرج الجنين من بطن الأم، يصاب بعاهة. وهو ما يحصل في ليبيا. فعوض الأمن والسلم المنشود يزداد الملف تعقيدا بسبب التدخلات، وأضحى الملف مؤشرا على تقاطعات دولية في المنطقة، وهذه التقاطعات من شأنها أن تصبح بؤرة توتر عالمي. يجمع السياسيون والملاحظون أن بؤرة ليبيا تهدد الأمن والاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط والساحل، وتتهدد ليبيا، في وحدتها الوطنية والترابية، ويحذرون من سابقة سوريا، إلا أن الوضع في ليبيا قد يكون أسوأ بالنظر إلى التركيبة القبلية في ليبيا، والامتداد الجغرافي، والطبيعة الصحراوية، والأطماع على ثرواتها.
مَن المتضرر من انفلات محتمل، إلى جانب الشعب الليبي؟ البلدان المغاربية، بدون استثناء، ومصر وبلدان الساحل، أولا. وإيطاليا ثانيا. وهؤلاء ينبغي أن يتكلموا لغة واحدة عوض التنافس والسعي للتموقع. هناك إطار لحل القضية الليبية، ينبغي عدم القفز عليه وهو، الإطار الأممي الذي أفرز اتفاق الصخيرات. بدا جليا، أنه أرضية لا يمكن تجاوزها، وكل تجاوز لها قد يفاقم المشكل. وهو ما يبدو مع التلويح بالخيار العسكري، والخيار العسكري وحده، من قِبل وحدات المشير حفتر.
كاتب مغربي

تعليقات