قبل أربعة عقود كان الحد الممكن من التضامن والتماسك واللقاء في منتصف الطريق سبيل التسويات ومواجهة الأزمات الصعبة وتخفيف حدة الخلافات والصراعات، والحال الذي تغير إلى العكس تماما يعود لأسباب أشرنا لبعضها في مقال السبت الماضي، وأكدت نجاح مخططات التحريض واعتماد الفتن، حتى أضحى الاقتتال الأهلي والبيني هو الخيار الأول والأخير، وما زال غياب مصر؛ برصيدها ودورها التاريخي، وثقلها الحضاري مؤثرا داخليا وخارجيا، ويأتي عدم إدراك «المشير السيسي» لدور مصر المحوري، ليخل بموازين القوى الداخلية والإقليمية والقارية والدولية، وها هو يتأكد يوم الثلاثاء الماضي (28/ 01/ 2020) بإعلان «مؤامرة القرن»؛ من دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو.
وهناك إصرار غريب على السير في «طريق الندامة»، منذ أن وطأت قدم السادات أرض مطار بن غوريون في فلسطين المحتلة، وخطابه في «الكنيست» الصهيوني، وما تلاه من توقيعه على معاهدات إذعان مالت بالموازين، وفتِحت طريق التبعية، حتى وصولة لمحطة «الصهينة»، فطَبَعَت السياسة الرسمية، وتدنت بها إلى حضيض ما تحت الصفر، وتوالت تراجعاتها وانكساراتها وتنازلاتها. وصار منفذو هذه السياسة مثار سخرية العدو والصديق، وهناك إصرار غريب على الهروب من تبعات أي دور وطني وقومي؛ سياسي وإنساني وأخلاقي، وصب ذلك الهروب في قناة المشروع الصهيوني ومخططاته، واستهدافها الوجود العربي برمته، وليس الوجود الفلسطيني وحده.
وفي هذا المناخ برز الموقف من الصراع على ليبيا واضحا، وشواهده ما يجري لقواها الوطنية والداخلية من تهميش، وإبعادها عن المشاركة الفعلية فيما هو مطروح من مشروعات ومقترحات وتسويات، وتُرِك ذلك للقوى الخارجية، بأطماعها وانحيازاتها الاستعمارية والصهيونية، وهي التي لعبت دورا سلبيا انحرف بمسار الحراك الشعبي، واتجهت به صوب العنف المسلح، وهو ما وضع الغالبية العظمى من القوى الوطنية في مأزق شديد التعقيد.
وكشفت القوى الخارجية الغربية عن وجهها الاستعماري العنصري، وأحيت تراث العُبودية، والإبادة الجماعية، وكان العالم قد تصور أن ذلك زمن ولى، وكشرت القوى المقصودة عن أنيابها فور انهيار الاتحاد السوفييتي، واتجهت لوسط أوروبا، صوب يوغوسلافيا؛ بالتفتيت والتقسيم والمحو؛ وتدخل مباشر من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وانفجار براكين النار والدم، التي لم تهمد أو تهدأ بعد، واتسعت مجالات الحروب، وظلت كل حرب تلد أخرى؛ بعد تقطيع أوصال الاتحاد اليوغوسلافي وتفتيته؛ تحت غطاء أممي جاهز بقرارات مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأضحى ما جرى ليوغوسلافيا هو المَعْلَم الأبرز لعودة «القرصنة الدولية»، ودورها في تفكيك دولة اتحادية غير منحازة؛ ناهضة ومؤثرة، ومن مؤسِّسي حركة «عدم الانحياز»، فاختفت من خريطة أوروبا والعالم، وانشطرت لثمانية كيانات ودويلات هي: صربيا، وكرواتيا، وسلوفينيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وجمهورية مقدونيا. وهكذا قُسِّمت أهم الدول الاتحادية بوسط أوروبا، وعلى نفس المنوال يتم تقسيم المُقَسَّم وتفتيت المُفتَّت من الأقطار العربية!.
و«القرصنة الدولية» تتحرك على مستويات ثلاثة؛ 1) صهيو غربية، 2) أنكلو أمريكية، 3) صهيو أمريكية. وبرعت في تفكيك الدول الموحدة وتقسيمها ومحوها، وبدا ذلك مبكرا منذ نهاية القرن الثامن عشر مع وصول الحملة الفرنسية لمصر والشام، أي قبل تفكيك يوغوسلافيا، وانهيار الاتحاد السوفييتي بزمن؛ استعادت دورها بإشعال الحرب الإيرانية العراقية، وسيستمر ذلك ما استمر العرب على حالهم الراهن.

تصريحات ومبارزات كلامية تجعل اللقاء والتفاهم والتنسيق بين الطرفين اللدودين صعبا إن لم يكن مستحيلا، وقد تعني الملاسنات بين الأطراف الليبية والخارجية مدخلا لوضع «المسألة الليبية» قيد التدويل

ونلاحظ أن جميع الاتصالات ممكنة، وكل الحوارات مقبولة، ومجمل الصفقات معروضة ما دامت لحساب «القرصنة الدولية»، وأتباعها؛ أعداء الحق والعدل والسلام. وبدأت مرحلة جديدة في التعامل مع «المسألة الليبية» بانعقاد «مؤتمر برلين» في كانون الثاني/يناير الماضي (2020)، وأشادت بنتائجه المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقالت: «المؤتمر قدم إسهامًا كبيرًا في دعم جهود الأمم المتحدة في عملية السلام، وحلفاء لخريطة الطريق، التي أعلنها الأمين العام للأمم المتحدة ومبعوثها إلى ليبيا؛ حلفاء من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، والأطراف ذات العلاقة بـ«المسألة الليبية»؛ الصين، وفرنسا، وروسيا، وأمريكا، وبريطانيا، ومصر، والإمارات، والكونغو، وإيطاليا، والجزائر، ومنظمات إقليمية؛ الاتحاد الأوروبي والاتحاد الافريقي، وجامعة الدول العربية؛ اتفقوا على حل سياسي، وشددوا على عدم وجود فرصة لحل عسكري!!، وأضافت ميركل: «اتفقنا على خريطة سياسية شاملة بخطوات مستقبلية»، ووافق الجميع على احترام حظر الأسلحة، والإشراف عليه بشكل جدي، وإلا يبقى الحل العسكري مطروحا دائمًا» وأدركت أطراف أن طريق الحل ليس عسكريا، أما مراقبة وقف اطلاق النار تبقى مسؤولية الأمم المتحدة.
ذلك فحوى كلام رئيسة المؤتمر ميركل، لم يخرج عن النص المتبع في مثل هذه المؤتمرات من أطراف قوية ونافذة، وأخرى باهتة ومهمشة؛ أُغرِقت في تفاصيل تكرر «السيناريو السوري»، رغم الفارق بين طبيعتين؛ واحدة صحراوية قبلية في ليبيا، والثانية مدنية تجارية زراعية في سوريا، وجاء حضور «المشير» خليفة حفتر قائد «الجيش الوطني الليبي»، وفايز السراج رئيس «حكومة الوفاق الوطني»؛ جاء شكليا!!. وأكدت ميركل، أنهما «لم يلتقيا في المؤتمر ولم يكونا جزءا منه». وأضافت: «تحدثنا معهما بشكل منفرد، فالخلافات بينهما لا زالت كبيرة». و«لم يكونا جزءا من المؤتمر ولم يتواجدا في قاعة المحادثات»، ومكنهما حضورهما من الإطلاع على المشاورات مباشرة، و«كل منهما توقع من الآخر تطبيق الالتزامات»!!.
ونظرت ميركل وهي تعلن الخطة الشاملة للتسوية إلى «النقطة الأهم» كانت موافقة السراج وحفتر على اتخاذ خطوات لاحقة بينها «تشكيل لجنة عسكرية لمراقبة الهدنة»، من 5 ممثلين لكل طرف.. وبذلك يعد المسرح ليلائم التسويات والتنازلات؛ قسرا أو طوعا، فالمطلوب هو نفط ليبيا وغازها وموقعها؛ كمنطقة عازلة بين إفريقيا وأوروبا؛ تصد الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، ونأتي لنقطة العمل العسكري، فمسموح به للأقوياء والمتنفذين، وتملكه جماعات الإسلام السياسي، خصوصا الجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية والانعزالية، ولديها ما يزيد عن حاجتها، بجانب أساطيل، وقواعد، وطائرات مقاتلة ومُسَيَّرة، من أجل الاستحواذ على ثروات وخيرات وأراضي ليبيا.
تُرك للمهمشين؛ التشدد والاختلاف والاقتتال، أما الأقوياء والمتنفذون، فلهم الاجتماعات والمفاوضات، وتحديد حصص الأصول السائلة والمنقولة؛ الموجودة على السطح، وفي عمق الماء، وتحت السح، وجوف الأرض؛ يتشدد السراج وحفتر؛ يختلفان، ويتناوشان. ففي منتصف كانون الثاني/يناير (2020) صرح مصدر عسكري بأن «المشير خليفة حفتر لا يقبل التفاوض مع حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج، بحضور الأتراك والأجسام غير الشرعية». وللتذكرة زار حفتر السعودية قبل تحرك قواته صوب طرابلس واجتمع بالملك سلمان.
وجاء رد السراج سريعا، فوجه دعوة لـ«قوة حماية دولية»؛ «إذا لم يُنه خليفة حفتر هجومه، سيتعيَّن على المجتمع الدولي التدخّل عبر قوّة دوليّة لحماية السكّان الليبيّين». وبعد أربع وعشرين ساعة (19/ 01/ 2020) صرح الرئيس التركي أردوغان بأن بلاده «أصبحت مفتاح السلام في ليبيا»؛ أي أصبحت مستعدة للتدخل. وأعلن الرئيس الفرنسي «ماكرون» الأربعاء الماضي (29/ 01/ 2020)؛ حسب موقع RT العربي بأن أردوغان، أخل بتعهدات اتفاق برلين، وأشار لرصد باريس لسفن تركية تنقل «مرتزقة» لداخل ليبيا. وحَمَّل المتحدث باسم الخارجية التركية، حامي أقصوي فرنسا «المسئولية عن المشاكل التي عمت ليبيا منذ بداية أزمة 2011»، وأضاف «لم يعد سرا تقديم فرنسا دعم غير مشروط لـ«قائد الجيش الوطني الليبي المشير حفتر، لتكون صاحبة الكلمة في موضوع الموارد الطبيعية الليبية».
تصريحات ومبارزات كلامية تجعل اللقاء والتفاهم والتنسيق بين الطرفين اللدودين صعبا إن لم يكن مستحيلا، وقد تعني الملاسنات بين الأطراف الليبية والخارجية مدخلا لوضع «المسألة الليبية» قيد التدويل؛ قي ظل تصريحات ماكرون وأردوغان، بجانب طلب السراج لـ«قوة حماية دولية»، ويبدو أن الليبيين، والمتعاطفين معهم من العرب وغير العرب خارج الصورة؛ «لم يتعلموا الحكمة من رأس الذئب الطائر»!.

تعليقات