رشيد خشانة – في بلد تتولى فيه الحكومة تأمين الدخل الشهري لغالبية المواطنين، يُشكل تراجع مصادر الدخل الوطني عنصر إرباك إضافي، للحكومة المعترف بها دوليا، برئاسة فائز السراج. وقدرت “مؤسسة النفط الوطنية” الخسارة التي انجرت عن غلق الحقول والموانئ النفطية بـ502 مليوني دولار إلى الإثنين الماضي، فيما قدرها الموفد الأممي غسان سلامة بـ 622 مليون دولار. وقدرت “مؤسسة النفط الوطنية” نسبة انخفاض إنتاج النفط بـ75 في المئة، وهو أدنى مستوى له منذ أغسطس/ آب 2011. وتوقف الإنتاج في أكبر حقل، وهو الشرارة، الذي ينتج 300 ألف برميل يوميا، كما أعلنت حالة القوة القاهرة في موانئ الحريقة والبريقة والزويتينة والسدرة وراس لانوف، بعد إصدار تعليمات بإيقاف التصدير. واعتبر رئيس “مؤسسة النفط الوطنية” مصطفى صنع الله أن غلق الحقول والموانئ، على أيدي جماعات قبلية مؤيدة للقائد العسكري للمنطقة الشرقية، اللواء خليفة حفتر، “عمل انتحاري لأنه يحرم الدولة من أهم مواردها”، ويُعيق إنعاش الاقتصاد المُعطل منذ عشر سنوات، علما أن الايرادات تُحول إلى مصرف ليبيا المركزي، ثم تُوزع على السلطات في المنطقتين الشرقية والغربية.

مُداهنة في برلين

اضطرت بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا لانتقاد الدول المشاركة في مؤتمر برلين، التي تمادت في إرسال مرتزقة وأسلحة إلى أطراف الصراع، من دون أن تُسميها. وأكدت أن مطارات المنطقتين الشرقية والغربية تستقبل طائرات مُحملة بأسلحة متطورة وآليات مصفحة ومستشارين عسكريين ومقاتلين. وكشفت صحيفة “لوموند” الفرنسية النقاب عن دور سعودي في تمويل إرسال مرتزقة، عبر شركة “فاغنر” الروسية الخاصة، إلى جنوب طرابلس لدعم قوات حفتر. وأوضحت الصحيفة أن عدد هؤلاء يراوح بين 300 وألفي عنصر، وقد لعبوا دورا كبيرا في الهجمات التي شنها حفتر على طرابلس، وقُتل منهم ثلاثون في المعارك بحسب الصحيفة. وعلى الرغم من أن الجزائر وتركيا حضتا على إيجاد آلية لمراقبة مدى الالتزام بوقف إطلاق النار، لم يستجب أيٌ من الطرفين لتلك المناشدة، ما دلَ على استخفافهما بالقرارات الأممية، طالما أن هناك فسحة للإفلات من العقاب.

وأفاد مصدر ليبي يقيم في مدينة تقع في الشرق “القدس العربي” أن المرتزقة الروس يتلقون 850 دولارا في اليوم للفرد الواحد، وفي حال الوفاة تحصل أسرته على تعويض بـ1.5 مليون دولار. وكتب الصحافي ديفيد كيرباتريك في “نيويورك تايمز” مُشيرا إلى أن بصمات القناصة الروس باتت واضحة، من خلال نوع الإصابات التي يتعرض لها المدنيون والمسلحون المدافعون عن حكومة الوفاق، إذ لوحظ أن الجرحى والقتلى الذين يُنقلون إلى مستشفى العزيزية، جنوب طرابلس، مصابون برصاص يضرب الرأس ويقتل مباشرة ولا يغادر الجسد، مع بقاء الجراح مفتوحة والأطراف مُهشمة في غالب الأحيان.

ثلاثة آلاف سوداني

في الطرف المقابل، أفادت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية الأربعاء الماضي، أن حوالي ألفي مقاتل سوري، موالين لتركيا، وصلوا إلى ليبيا، وتمركز بعضهم في شرق طرابلس. وقالت إنهم يتقاضون من حكومة الوفاق ألفي دولار للمقاتل الواحد. وكانت الصحيفة نفسها أشارت إلى وصول حوالي ثلاثة آلاف سوداني، إلى المنطقة الشرقية، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، للمشاركة في القتال، إلى جانب قوات حفتر. وتظاهرت أول من أمس أسر سودانية في الخرطوم، احتجاجا على إرسال شركة أمن إماراتية أبناءها للقتال في ليبيا واليمن. وكان غسان سلامة انتقد اللجوء إلى المقاتلين الأجانب، وطلب إجلاءهم خارج ليبيا. وأوضح في إحاطته إلى مجلس الأمن الخميس الماضي، أن القوات الموالية لحفتر عززت أسلحتها بعد وصول عدة طائرات إلى قاعدة “الخادم” الجوية، شرقي ليبيا، خلال فترة الهدنة، مُضيفا أن “قوات حكومة الوفاق عززت أنظمتها الدفاعية، وركبت منظومات للدفاع الجوي متطورة قدمتها دولة أجنبية” لم يُسمها، لكن من الواضح أنها تركيا.

في هذا الإطار، يمكن القول إن دخول الروس غيَر مسار الحرب في ليبيا، فبحلول العام 2015 أنشأوا قاعدة عسكرية في غرب مصر، لتأمين الدعم اللوجيستي والفني وإصلاح المعدات. وفي العام 2018 أرسلوا مجموعة من المستشارين العسكريين إلى بنغازي. وقبل ذلك، التقطت صور لحفتر مع وزير الدفاع الروسي ومدير شركة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، المقرب من الرئيس بوتين. وحرصا على الظهور في مظهر القوة المحايدة، أقام الروس علاقات مع الحكومة المعترف بها دوليا في غرب ليبيا، بموازاة علاقاتهم مع حفتر في الشرق. وقاموا بطبع عملات ليبية بمليارات الدولارات وشحنوها إلى بنغازي. وبالرغم من أن حفتر التجأ إلى دعم موسكو منذ العام 2015 في مقابل وعود ببيع النفط، ومنح مشاريع السكك الحديدية إلى شركات روسية، لم يحصل على الدعم الفعلي إلا اعتبارا من 2017، وصولا إلى إرسال مرتزقة “فاغنر” الذين عززوا صفوفه في الهجوم على طرابلس.

مجلس الأمن مُعطل

وفي الوقت الذي ظلت فيه الدول الغربية مترددة في توفير الحماية لحكومة طرابلس، ألقى الروس بكل ثقلهم إلى جانب قوات الشرق. وتُعتبر موسكو من المُعطلين البارزين، إلى جانب باريس، لإصدار مجلس الأمن الدولي قرارات تُلزم الأطراف المتحاربة في ليبيا بوقف المعارك، وتُعاقب من يخرق الهدنة. ولهذا السبب لم تتوقف الانتهاكات بعد تعهدات برلين، بل كثفت الامارات ومصر وروسيا من دعمها لحفتر، فيما أرسلت تركيا مقاتلين من المعارضة السورية وطائرات مُسيرة وآليات مصفحة إلى قوات “الوفاق”.

ويتمثل الهدف الأساسي من تأليف اللجنة العسكرية، التي قرر المجتمعون في برلين تشكيلها، من ضباط قوات حفتر وحكومة الوفاق، في العمل على “مغادرة جميع المقاتلين غير الليبيين البلد في أسرع وقت”. وأثبت تقرير فريق الخبراء، التابع للجنة الجزاءات المعنية بليبيا في مجلس الأمن، أن كلا من طرفي النزاع “تلقى أسلحة ومعدات عسكرية ودعما تقنيا وجلب مقاتلين غير ليبيين”. ولفت الفريق الدولي في تقريره عن الفترة بين 5 أيلول/سبتمبر 2018 إلى 20 تشرين الأول/أكتوبر2019 إلى استعانة الطرفين بمسلحين من تشاد والسودان، مضيفا أن كلا من الأردن والإمارات وتركيا قدمت الأسلحة بـ”صورة منتظمة، وأحيانا بصورة شديدة الوضوح للطرفين”.

ولمواجهة خطر الطائرات المُسيرة التي منحتها الإمارات لقوات حفتر، بدأت حكومة الوفاق بشرائها من تركيا، في أيار/مايو الماضي. وتباع الطائرة الواحدة من طراز “بيرقتار تي بي 2” بخمسة ملايين دولار. وقال وزير الداخلية الليبي فتحي باشاغا تعليقا على وصولها إلى ليبيا “لقد أنقذتنا تركيا”، مُعترفا بأن الطائرات المسيرة ساعدت قوات الحكومة على استعادة مدينة غريان في حزيران/يونيو الماضي. ومنذ ذلك الوقت لم تتغير خطوط المواجهة كثيرا، بالرغم من محاولات قوات الشرق المتكررة استعادة مدينة غريان والتقدم نحو وسط طرابلس. وفي السياق أعلن المركز الإعلامي لعملية “بركان الغضب” التابع لحكومة “الوفاق” أول من أمس، عن إسقاط طائرة إماراتية مسيرة، جنوبي طرابلس من طراز “أورلان” روسية الصنع. وهذه هي المرة الثانية التي تُعلن فيها قوات “الوفاق” عن إسقاط طائرة مسيرة، في أقل من أسبوع.

نصف خيبة

بهذا المعنى كان مؤتمر برلين نصف خيبة، إذ لم يستطع وقف الانزلاق مجددا إلى الحرب الجوية. كما أخفق الوسطاء في إقناع حفتر بالجلوس إلى جانب السراج على مائدة واحدة، والتوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار، الذي غادر موسكو من دون أن يوقع عليه، استجابة لـ”نصيحة” الدول الداعمة له. ورأت الباحثة ماري فتزجيرالد، المتخصصة بالشأن الليبي، أن مستقبل الصراع في ليبيا يتوقف على مدى تجاوب مجلس الأمن الدولي مع البيان الختامي لمؤتمر برلين، خاصة بعدما ناشد الأمين العام أنتونيو غوتيريش، أعضاء المجلس أن يتحملوا مسؤولياتهم. وهناك من المراقبين من يعتقد أنه إذا لم يُترجم ذلك البيان الختامي إلى قرارات مُلزمة، فإن الحرب في ليبيا ستستمر، مع الأضرار البشرية والمادية الكبيرة المترتبة على استمرارها. ويُقدر عدد ضحايا “معركة طرابلس” على مدى عشرة شهور، بأكثر من ألفي قتيل من المسلحين و280 من المدنيين، بالإضافة إلى نزوح 150 ألف ليبي من مناطقهم. وبحسب آخر الاحصاءات تمكن سبعون ألفا من أولئك النازحين من العثور على سكن في وسط طرابلس، التي اختنقت بالسكان، فيما توجه الباقون إلى مدن قريبة لا تدور فيها معارك.

ومما يُعرقل التقدم نحو حل سياسي، سيطرة حفتر بالقوة، على حقول النفط في الهلال النفطي، منذ أيلول/سبتمبر 2016 بعدما كان سيطر على موانئ التصدير، وقبلها على حقول النفط في اقليم فزان (جنوب) ما أدى إلى وقف تصدير النفط. وتعتقد الباحثة فتزجيرالد أن اللواء حفتر بات في وضع حرج بعدما مضت عشرة شهور على إطلاقه الحملة العسكرية على طرابلس، من دون تحقيق الهدف المُعلن منها. ولن يتحقق الهدف من دون دعم خارجي أقوى من الذي يتلقاه حاليا. ولمواجهة هذا السيناريو، يؤكد بعض الأطراف أن اجتراح وقف إطلاق النار يعتمد على إرسال قوات أممية للفصل بين المتحاربين، غير أن الجغرافيا المتداخلة للمناطق الواقعة تحت سيطرة كل فريق، تجعل هذه المهمة من الصعوبة بمكان.

تطهير ليبيا من المسلحين؟

عمليا لم يُسفر مؤتمر برلين عن نتائج ملموسة، عدا تشكيل اللجنة العسكرية الأمنية، التي تتألف من خمسة ضباط نظاميين من كل طرف، وهي تندرج في إطار المسارات الثلاثة التي أقرها مؤتمر برلين لحل الأزمة في ليبيا. وكان المبعوث الأممي، غسان سلامة، كشف عن نيته دعوة أعضاء اللجنة إلى الاجتماع خلال أيام بعد تسلمه أسماء أعضائها، مبرزا أنه سيكون على رأس أهدافها “تطهير ليبيا من المسلحين”. غير أن الليبيين لا يثقون في مخرجات مؤتمر برلين، وأظهر تحقيق صحفي أنه لا أحد في طرابلس يبني آمالا على تنفيذ تلك المخرجات. ويعتقد كثير من المحللين أن سيطرة قوات حفتر على طرابلس ستؤدي لإحياء منظومة استبدادية تُعاود إنتاج نظام معمر القذافي، الذي حكم ليبيا بالقمع على مدى 42 عاما. أما إذا أخفقت في تحقيق ذلك الهدف، فستضع الجماعات المسلحة طرابلس في قبضتها، على غرار الوضع الذي كان سائدا في الفترة بين 2011 و2014.

 

 

 

تعليقات