رشيد خشــانة – كان الإعلام إحدى الوسائل الأساسية التي بواسطتها حكم زين العابدين بن علي، على مدى 23 عاما، لكنه كان أيضا السلاح الذي عجل بإسقاط نظامه. وخلال السنوات التسع التي مضت منذ انطلاق مسار الانتقال السياسي أبصر المشهد الإعلامي تغييرات جوهرية مع ظهور عشرات القنوات والمحطات الإذاعية الخاصة والحزبية، فيما تراجعت الصحافة الورقية، واحتجب بعضها تماما. وأفادت دراسة إحصائية مولها الاتحاد الأوروبي أن 60 في المئة من الجمهور بات يعتبر أن هذه الصحافة تجاوزها الزمن، وهو ما يُفسر تراجع الإيرادات والصعوبات المالية الكثيرة التي باتت تواجهها. وعزت الدراسة تراجع الإقبال على الصحف إلى ضعف الإخراج الفني وسوء استخدام الصور، وكذلك إلى تركيز 90 في المئة من المواد الإخبارية على إقليم تونس الكبرى، أي العاصمة وضواحيها.

اختناق مالي

ويتجلى تهميش الصحافة الورقية من خلال حصتها الضئيلة من موازنات الإعلان، التي لا تتجاوز 7 في المئة، وذلك نتيجة استئثار القنوات التلفزيونية، وبدرجة أقل، المحطات الاذاعية، بالقسم الأكبر من نفقات الإعلان. وأنتج الاختناق المالي احتجاجات وأزمات اجتماعية في أكثر من صحيفة، من بينها “لابراس” (الصحافة) اليومية الناطقة بالفرنسية (قطاع عام)، وهي أعرق صحيفة في البلد. كما أن الصحيفة اليومية العريقة الأخرى “الصباح” معروضة للخصخصة منذ سنوات، لأنها مُدرجة ضمن الأملاك المصادرة من أسرة الرئيس الأسبق بن علي، إذ كان صهره صخر الماطري يمتلك 70 في المئة من أسهمها. وكثيرا ما يقوم الصحافيون في دار “لابراس” ودار “الصباح” بحركات احتجاجية لمعرفة مصير مؤسستيهم، فيما يشكو الإداريون من حجم الديون التي يتلكأ زبناء الصحيفتين في تسديدها.

مكسب وحيد

في ظل تراجع الصحف الورقية ازدهرت الصحف الالكترونية وتحول كثيرٌ من اليوميات والأسبوعيات إلى مواقع الكترونية، تبث مواد إعلامية باللغتين، أما الغالبية فاحتجبت واندثرت. مع ذلك، إذا سألت تونسيا “ماذا استفدت من الثورة” (2011)؟ يُجيبك فورا: “حرية التعبير”. ولا يختلف التونسيون على أن حرية التعبير هي المكسب الوحيد، الذي حصدوه من ثورة 2011، إذ فشلت الحكومات المتعاقبة في تشغيل الشباب، العاطل عن العمل، وأخفقت في التخفيف من عبء المديونية، وعجزت عن لجم التضخم واستقطاب الاستثمارات الداخلية والخارجية.

ولا تقتصر حرية التعبير على المساحات الواسعة المُتاحة لوسائل الإعلام وحسب، بما فيها التقارير الجريئة التي تبثها الصحافة الاستقصائية، ومنها موقع “انكفاضة” (وليس انتفاضة)، وإنما تشمل أيضا مساحات النقد على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر). واستهدف النقد منذ 2011 جميع المسؤولين في الدولة والأحزاب والمجتمع المدني، من دون استثناء، بمن فيهم رؤساء الجمهورية المتعاقبون. وتكمن قوة هذه التجربة في أن البلد لم يعرف شخصا تعرض للاعتقال أو التعذيب أو الملاحقة القضائية، بسبب نقد لاذع أو شتيمة لمسؤول في الدولة. وهذا ما جعل كثيرا من المراقبين يعتبرون أن المسار التونسي هو تجربة الانتقال الديمقراطي الوحيدة الناجحة في “الربيع العربي”.

مسار مختلف

على أن أوضاع القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية اختلفت عن مسار الصحف الورقية، إذ ازدهرت في مرحلة ما بعد الثورة بشكل واسع، وتقدمت القنوات الخاصة سريعا على الإعلام العمومي، مُستقطبة فئات كبيرة من المشاهدين. وبالرغم من تشكيل “الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري” (المعروفة بـ”هايكا”) في وقت مبكر، لم تتسن السيطرة على الانفلاتات المتعددة. ودخل المال السياسي على الخط، إذ باتت بعض القنوات بضاعة تُباع وتُشترى، وتعاقب على ملكيتها رجال أعمال مختلفون. وأدار رجل الأعمال المقيم في بريطانيا الهاشمي الحامدي، حملته الانتخابية في 2011 عبر قناته “المستقلة” التي تبث من لندن، وحل حزبه “العريضة الشعبية” في المرتبة الرابعة. وعاود استخدام القناة وسيلة لحملته الرئاسية في 2014 لكنه لم يُوفق. كما استخدم رجل الأعمال نبيل القروي، أيضا قناته “نسمة تي في” التي حصل على إجازتها في عهد بن علي (2007) لتغطية حملته الانتخابية الرئاسية في مخالفة صريحة للقوانين. وبفضل الدعاية السياسية التي كانت القناة تبثها، على مدى ثلاث سنوات، تحت عنوان أعمال خيرية، استطاع أن يحل في المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فيما فاز حزبه بـ38 مقعدا في البرلمان وحلَ ثانيا أيضا. وضرب القروي عرض الحائط بالعقاب الذي قررته في شأنه “الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري” إذ استمرت القناة في البث، حتى بعد سجنه بتهم تتعلق بالتهرب الضريبي.

وتعرض صاحب قناة “الحوار التونسي” سامي الفهري، بدوره، للاعتقال في العام الماضي، بعد اتهامه بغسيل أموال وإبرام عقود مخالفة للقانون، قبل إخلاء سبيله أواخر الشهر الماضي. وقبل ذلك تم اتهام الفهري بالتلاعب بعقود إنتاج برامج للتلفزيون العمومي، على أيام الرئيس الأسبق بن علي، الذي كان أحد أصهاره شريكا للفهري.

قوانين غير محترمة

وهناك نمط آخر من القنوات “المتمردة” وهي التي يستخدمها حزب سياسي، أسوة بقناة “الزيتونة” التي يتحكم فيها كوادر حزب “حركة النهضة” الحزب الذي لم يغادر الحكم منذ 2011. ويحظر القانون أن تكون القناة أو المحطة الإذاعية تابعة لحزب سياسي، لا بل يحظر أن يكون أحد مُسيريها قياديا في حزب من الأحزاب. ويمكن القول إن غالبية القنوات التي تبث حاليا، عدا القناتين العموميتين، لا تحترم القوانين ولا تكشف عن مصادر تمويلها.

من هنا لعبت وسائل الإعلام، وخاصة القنوات التلفزيونية، دورا سلبيا، إذ صنعت زعامات من فراغ وقزمت قامات سياسية تحظى بالاحترام. وأفضل مثال على صُنع الزعامات رئيس حزب “الاتحاد الوطني الحر”، سليم الرياحي، الذي حل الثالث في انتخابات 2014، ثم سرعان ما تفكك حزبه واندثر، خاصة بعد هروبه إلى الخارج، تفاديا لإدخاله السجن. كما أنفقت سيدة الأعمال ألفة تراس أموالا طائلة على حملتها الانتخابية التلفزيونية، في الخريف الماضي، ولم تظفر سوى بمقعد يتيم في مجلس النواب الحالي.

محكمة دستورية

أما “الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري” ذات الدور التعديلي، فتجاوزت خط النهاية المرسوم لأعمالها منذ مايو/ أيار الماضي. وانتهت ولاية البرلمان السابق، من دون أن يُناقش مشروع قانون، أعدَته الحكومة، تمهيدا لانتخاب هيئة جديدة، طبقا لأحكام الدستور. ومازال البرلمان الحالي غارقا في مناكفات شغلته عن استكمال انتخاب أعضاء اللجان الدستورية، ومن ضمنها المحكمة الدستورية.

وفي مجتمع ديمقراطي يُشكل استقلال وسائل الإعلام وتعددها ركنين من أركان الانتقال الديمقراطي. وعليه، يستعجل التونسيون إيجاد آليات تعديلية، لمجابهة التجاوزات وملاحقة أي خرق للمواثيق المهنية. وتشمل التعديلات المطلوبة سن قانون جديد للإعلام المرئي والمسموع يحل محل المرسوم الحالي، الذي يعود إلى سنة 2012. وتزداد هذه المسألة إلحاحا مع استمرار بث برامج حوارية هي أقرب لصراع الديكة منها إلى الحوار الرصين بين مسؤولين سياسيين.

أما المجال الإذاعي فأبصر تطورا مشابها، لكن بخروق أقل، إذ نجحت ثلاث محطات خاصة هي “موزاييك” و”شمس” و”إكسبرس أف أم” في استقطاب جمهور واسع على حساب الإذاعات العمومية، وتقيدت عموما بمقتضيات توزيع ساعات البث على القوائم المتنافسة في الاستحقاقات الانتخابية الستة، التي مرت فيها تونس منذ 2011. ونسجت على منوالها إذاعات خاصة جديدة، وسط تراجع الإقبال على الإذاعات العمومية التسع.

وفي إطار استعادة الصدقية ومعاودة بناء الثقة، لوحظ في الفترة الأخيرة أن غالبية وسائل الإعلام، أدركت خطورة بث أخبار كاذبة، فأنشأت منصات لتصيُد الإشاعات والأخبار الكاذبة، من أجل ضمان عدم بثها. لكن ما من شك أن سن قوانين جديدة لتصحيح الوضع الراهن وفرض احترام الضوابط المهنية، يظلان شرطين لا مندوحة عنهما لاستعادة الثقة وإبعاد المال الفاسد عن تلويث وسائل الإعلام. كما أن البرلمان مُطالبٌ بانتخاب أعضاء “الهيئة العليا للإعلام السمعي والبصري” في أسرع وقت لتنقية أوضاع القطاع ووضع حد للإفلات من المحاسبة والعقاب.

تعليقات