رشيد خشانة – إذا كان الفصل بين القوات المتقاتلة خطوة لا بد منها، لتثبيت الهدنة في ليبيا، فإن الالتجاء إلى قوات افريقية لن يُحقق الهدف، بالنظر لتواضع إمكاناتها وعدم قدرتها على تحييد الجماعات المسلحة المتمردة. وكانت أسماء أربعة بلدان افريقية، من بينها أثيوبيا وافريقيا الجنوبية، ترددت في كواليس القمة الافريقية الأخيرة، في أديس أبابا، الشهر الماضي، التي انتقدت التداخلات الأجنبية في الأزمة الليبية، وقررت لعب “دور أوسع” في البحث عن حل سياسي. إلا أن تعثر المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة في جنيف، بعد مقاطعة كل من المجلس الأعلى للدولة (الغرب) ومجلس النواب (الشرق) أعاد الجدل حول الشرعية إلى المربع الأول. فإصرار مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة غسان سلامة على عقد الاجتماعات في جنيف “بمن حضر” أثار حنق المؤسستين المنبثقتين من اتفاق الصخيرات، وهما مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، اللذين اعتبرا ذلك تهميشا لدورهما وتبجيلا للمستقلين.

إخفاق تكتيكي

مع ذلك يمكن اعتبار تلك المقاطعة إخفاقا تكتيكيا للموفد الأممي، فهو سيعمل بالتأكيد على إقناع الطرفين، بالعودة إلى المشاركة في اجتماعات جنيف، مع احتمال تسليط ضغوط عليهما من بعض الأعضاء في مجلس الأمن، وإن بدا مجلس النواب مُصمما على المُضي في المقاطعة. وأتى موقفا مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، هذه المرة، متطابقين في رفض صيغة الحوار، لأنهما يخشيان من تمييع دورهما في كومة “المستقلين” الذين اختارهم سلامة بمفرده للمشاركة في حوار جنيف. وما من شك بأن الموفد الأممي سيعتمد على أعضاء مجلس الأمن ذوي التأثير في الطرفين، للضغط عليهما من أجل الانضمام إلى مسار المفاوضات. لكن حُجتهما في تعليق المشاركة ليست ضعيفة، كونهما المؤسستين الشرعيتين الوحيدتين المنبثقتين من اتفاق الصخيرات. وعليه فلا المجلسان قادران على الذهاب بعيدا في رفضهما، ولا البعثة الأممية قادرة على تجاوزهما، وإنجاز خطوات عملية من دونهما.

ورطة فرنسا

ومن هنا فإن فكرة إرسال قوات افريقية للفصل، لا تجد لها صدى في مناخ التجاذب الشديد السائد بين المجلسين، خصوصا أن تجارب الدول المجاورة أثبتت قلة نجاعة الدور العسكري الخارجي في إنهاء الصراعات المسلحة. وكانت فرنسا، على سبيل المثال، أرسلت 4500 جندي إلى منطقة الساحل لمطاردة الجماعات الارهابية، في إطار عملية “برخان” وأضافت إليهم أخيرا 600 جندي، لكن العدد يبقى غير كاف لتغطية الدائرة التي تتحرك فيها تلك الجماعات. والوضع في ليبيا، وخاصة الجنوب، حيث الدولة غائبة، لا يختلف كثيرا عن أوضاع النيجر ومالي وبوركينا فاسو. مع ذلك لوحظ أن موسكو هي الأكثر حماسة حتى الآن لإرسال بعثة مراقبين عسكريين افارقة إلى ليبيا، إذ رحبت على لسان الناطقة باسم وزارة خارجيتها ماريا زاخاروفا، بتلك الخطوة.

غير أن الروس حريصون في الوقت نفسه على ألا تكون الخطوة في معزل عن المبادرات الأخرى، وإنما في إطار “تنسيق وثيق مع الأمم المتحدة”. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هو هل سترفع تلك القوات الافريقية علم الأمم المتحدة، أم ستكون قوات الاتحاد الافريقي فحسب، أم الاثنين معا؟ الأرجح على ما أفادت مصادر مطلعة، أن الاتحاد الافريقي سيكتفي، في مرحلة أولى، بإرسال بعثة محدودة العدد، من الخبراء العسكريين لتقدير الأوضاع، وخاصة في التخوم الجنوبية والشرقية لطرابلس، على أن توضع خطة للفصل، في ضوء نتائج تلك المهمة، إن ثبتت نجاعةُ إرسال مراقبين للفصل بين المتحاربين.

خطوات عملية

على أن بيت القصيد في مسارات جنيف الثلاثة (السياسي والعسكري والاقتصادي) هو مدى استعداد الطرفين لإنهاء الصراع بينهما، عن طريق التفاوض. وهذا الاتفاق لن ينطلق من فراغ، إذ أجريت جولات محادثات سابقة في القاهرة وتونس، تطرقت إلى المسائل الاقتصادية، التي تشكل حاليا حجر عثرة أمام تكريس التوافقات الممكنة، بالنظر للاتهامات المتبادلة في شأن توزيع عوائد تصدير النفط والغاز. كما أن المشاركين في اجتماعات الحمامات (تونس) في 2017 توصلوا إلى تحديد إجراءات عملية يمكن أن تشكل أساسا لاتفاق سياسي يُعدل بعض بنود اتفاق الصخيرات، ومن بينها خفض عدد أعضاء المجلس الأعلى للدولة من تسعة إلى ثلاثة أعضاء، وتشكيل حكومة وحدة وطنية وتسمية رئيس للحكومة. على أن مشكل النازحين يبقى عالقا في ظل اختلاف الجانبين على ضرورة التعجيل بإيجاد حلول له. وبتعبير آخر هل سينتظر المُهجَرون والنازحون، الذين يفوق عددهم الـ140 ألف نازح، الوصول إلى اتفاق شامل في جنيف، من أجل الشروع في إعادتهم إلى مناطقهم وبيوتهم، أم أن العودة ستكون تدريجية، وتتزامن مع تقدم المحادثات، بحيث تكون أحد عناصر إعادة بناء الثقة بين الجانبين؟

روس وأتراك

أيا كان الوضع، فإن ضعف ألمانيا، وخاصة عسكريا، جعلها غير قادرة على الضرب على الطاولة والضغط على الفرقاء كي يُقللوا من حجم خلافاتهم. و”مبادرة برلين” التي أتت محاولة لتجاوز إخفاق باريس1 وباريس2 وباليرمو، شكلت الفرصة الأخيرة لأوروبا كي تكون لها كلمة في إدارة الملف الليبي. غير أن أوروبا العجوز لا تملك الوسائل التي يمتلكها الروس وحتى الأتراك، لفرض حلول تفاوضية بين الإخوة الأعداء في ليبيا. ولذلك تظهر في الطريق صعوبات وعقبات أمام تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين، بالرغم من الدعم الأممي القوي لألمانيا. واتضح أن “التقدم الكبير” الذي قالت نائبة الممثل الخاص للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني ويليامز، إنه قد أحرز على المسارين الأمني والاقتصادي، مسألة نسبية جدا. والأرجح أن برلين لن تستطيع أن تذهب إلى أبعد مما ذهبت في مؤازرة البعثة الأممية. وهي لم تقدر على انتقاد التجاوزات واستعراض القوة من هذا الطرف أو ذاك، وخاصة عندما قرر القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء خليفة حفتر غلق مصفاة الزاوية، والمجمع الغازي في مليتة (غرب طرابلس) وهما المنشأتان الرئيستان في المنطقة الشرقية، وبذلك استكمل الجنرال، منذ الأسبوع الماضي، تجميع مفاتيح الحقول والموانئ النفطية بين يديه، شرقا وغربا وجنوبا، بالقوة، من دون أن تقدر الأمم المتحدة، ولا ألمانيا، راعية العملية السلمية الحالية، على اعتراض سبيله.

والظاهر أن الدول المتداخلة في الأزمة الليبية لم تدرك خطورة غلق مصفاة الزاوية اعتبارا من 8 شباط/فبراير إذ سيترتب على ذلك مزيد من استيراد المحروقات، لتأمين حاجات المؤسسات الاستراتيجية. وكانت المصفاة تنتج 120 ألف طن من الديزل و49 ألف طن من البنزين و120 ألف طن من الفيول شهريا، وتودع إيراداتها في مصرف ليبيا المركزي، الذي يُؤمن الموازنات اللازمة لمجلس النواب في الشرق وحكومة الوفاق في الغرب.

كلفة باهظة

ومع الارتفاع الآلي لكلفة الاستيراد، ستجد المؤسسة الوطنية للنفط نفسها، أمام أحد خيارين، فإما أن تُرفِع من أسعار الوقود، أو تُحمل الزيادة على خزانة الدولة، وفي الحالين ستكون الكلفة باهظة جدا. واعتبر مراقبون هذا الوضع تحديا غير مسبوق تواجهه المؤسسة الوطنية للنفط، ورئيسها مصطفى صنع الله، الذي حافظ على مسافة متقاربة من مجلس النواب في طبرق وحكومة الوفاق في طرابلس، من أجل ضمان بقاء المؤسسة موحدة، بالرغم من ضراوة الصراع بين الغريمين منذ خمس سنوات. ومع أن صنع الله انتقد بشدة تداخل السياسيين في الملف الطاقي ذي الحساسية الشديدة، لا أحد من صناع القرار في الشرق، كما في الغرب، منح الأهمية اللازمة لتلك التحذيرات.

أما على الصعيد العسكري فالأرجح أن الوضع سيراوح مكانه، بالنظر لتقارب القوى، ما يجعل تحقيق نصر عسكري أمرا غير ممكن للطرفين. كما أن دخول القوات الموالية للواء حفتر، إلى وسط طرابلس، خطٌ أحمر، تحرص عليه جميع الأطراف تقريبا، لدواع مختلفة. لذلك لا يبدو من أمل بتبريد الصراع، في الفترة المقبلة، بعد تعثر مسارات برلين، سوى العرض الذي قدمه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال مؤتمر برلين، وعبر من خلاله عن استعداد الجزائر لاستضافة حوار بين طرفي النزاع، لإعادة الاستقرار إلى البلد، الذي تجمعه مع الجزائر أكثر من 1000 كلم من الحدود المشتركة. وللجزائريين خبرةٌ في الوساطات (بين أمريكا وإيران، وبين العراق وإيران) وخاصة في دول الجوار الصحراوي، مثل توسُطها في مالي، بين الحكومة وحركات التمرُد، وهي الوساطة التي أثمرت اتفاقا للسلام بين الطرفين.

ملامح العرض الجزائري

وحدد تبون هدف الوساطة الجزائرية بـ”وضع خريطة طريق، واضحة المعالم ومُلزمة للطرفين، تشمل تثبيت الهدنة، والكف عن تزويد الأطراف الليبية بالسلاح، لإبعاد شبح الحرب عن كل المنطقة” على ما جاء في كلمته أمام مؤتمر برلين. ولا ريب بأن هذا العرض الجزائري ليس بعيدا عن المنافسة المغربية الجزائرية، فهو فرصة للقيادة الجديدة لكي تُعيد الدبلوماسية الجزائرية إلى مدارها الاقليمي، بالاستناد على قوتها العسكرية والاقتصادية. فالجزائر، التي تركت خلفها عشر سنوات من الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، قادرة على نقل خبرتها في “الوئام الوطني” إلى الليبيين. وربما لأن الأطراف الليبية تدرك أن التعاطي مع المزاج الجزائري، ليس مثل التعاطي مع الأوروبيين، ستتفادى الرد بالإيجاب (مؤقتا؟) على عرض تبون. وعلى العكس من ذلك سيُرحب الروس والأتراك بإطلاق مبادرة جزائرية، إذا ما أُجهض مسار برلين، بالنظر لعلاقاتهم المتينة مع الجزائر، والتي زادت متانة منذ صعود تبون إلى سدة الرئاسة. كما أن الأوروبيين لن يكونوا على قلب رجل واحد في التعاطي مع مبادرة آتية من الجزائر، وستكون هناك مسافة بارزة بين فرنسا، التي من المُؤكد أنها ستكون مُتحفظة، وألمانيا وبريطانيا اللتين ستُرحبان بالمبادرة على الأرجح.

تعليقات