رشيد خشانة – جديدة صادرة عن منظمات أممية، النقاب عن التداعيات الإنسانية لاستمرار الاشتباكات في مدن ليبية عدة، وخاصة في التخوم الجنوبية للعاصمة طرابلس، منذ حوالي سنة. وأفاد أحد التقارير أن “التوتر ظل طاغيا على الوضعية الأمنية في وسط ليبيا”. وسجلت المنظمة نزوح 153 أسرة إضافية (أي قرابة 765 فردا) إلى مصراته، وبذلك بلغ مجموع الأسر النازحة ما لا يقلّ عن 558 أسرة (حوالي 2.790 فرد) أجبرت على مغادرة بيوتها، بسبب تجدُد النزاع المسلّح. وتجددت المعارك في الأسبوع الأخير من كانون الثاني/يناير الماضي، في ظل انتقال السيطرة على منطقة سرت إلى قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر. وحسب التقرير شهدت الوضعية الإنسانية، في مواقع قريبة من خطّ المواجهة، تدهورا تدريجيا، وفقا لملاحظين ميدانيين تابعين لمنظمات أممية. وفي يوم 26 كانون الثاني/يناير، تدهورت الوضعية الأمنية أكثر في أبو قرين، الواقعة على بعد 130 كلم غرب سرت. وأدّى ذلك إلى نزوح ما لا يقلّ عن 120 أسرة على مدار 72 ساعة، باتجاه مصراته ومنطقة سرت، وكذلك نحو الجنوب، في اتجاه الجفرة.

 

موجات نزوح جديدة

وحسب إحصاءات أممية حديثة، ارتفع عدد النازحين والمُهجرين داخل ليبيا إلى أكثر من 417 ألف نازح ومُهجَر، تقلُ سن نصفهم عن 18 سنة. ونزح هؤلاء في ثلاث فترات عصيبة، إذ كانت الموجة الأولى في 2011 والثانية بين 2012 و2014 أما الثالثة، وهي الأكبر فتزامنت مع اندلاع القتال بين قوات “فجر ليبيا” (غرب) والقوات التابعة لـ”عملية الكرامة” (شرق) بقيادة حفتر، أواسط 2014.

وأظهرت التقارير أن 47 في المئة من المُهجَرين داخل ليبيا يتحدرون من بنغازي، التي عرفت معارك طاحنة بين قوات حفتر وجماعات مسلحة على مدى سنوات، فيما أتى الباقون من طرابلس وسرت. ومع اندلاع معارك مطلع العام الجاري في سرت، لجأ النازحون إلى كل من بني وليد وترهونة. ويُتوقع أن يزيد تدفق النازحين نحو المدينتين مع استمرار الأوضاع الحالية في سرت.

أربعون بلدا

وتعود حالات النزوح الجديدة إلى تواصل الاشتباكات في غرب ليبيا، وتحديدا منطقة طرابلس والمناطق المجاورة لها. وفي هذا السياق أظهرت نتائج جمع البيانات، الذي قامت به وكالات الأمم المتحدة، أن عدد المهاجرين في ليبيا تجاوز 654 ألف مهاجر، قدموا من أربعين بلدا، غالبيتهم من دول الجوار (65 في المئة) وخاصة النيجر (137 ألفا) وتشاد (103 آلاف) ومصر (100 ألف) والسودان (75 ألفا). وتطرقت عدة دراسات إلى سوق العمل، وما تستطيع أن تؤمنه من فرص تشغيل للمهاجرين. وتغطي هذه الدراسات مناطق الجنوب الليبي، مثل سبها والكُفرة، وتشمل مراقبة حركة تنقل النازحين والمهاجرين في 100 بلدية.

إلى ذلك، تُسلم المنظمات الأممية عيادات متنقلة للبلديات الليبية، من أجل مساعدتها على مجابهة الأوضاع الصعبة، التي باتت أكثر عُسرا من ذي قبل، مع استمرار القتال حول طرابلس. ومُنحت إحدى تلك العيادات المتنقلة إلى بلدية جنزور في ضواحي طرابلس. وتسببت المعارك، الدائرة منذ أحد عشر شهرا، بإلحاق أضرار كبيرة بالبنية الأساسية، ومنها المنشآت الصحية، التي أصبحت غير قادرة على تأمين الخدمات الأساسية لسكان البلدية وللمهاجرين. كما وضعت الأمم المتحدة طواقمها الطبية في خدمة النازحين والمهاجرين. وباشرت المنظمات الأممية أخيرا إعداد دراسة جديدة عن الاتجار بالمهاجرين، والانتهاكات التي يتعرضون لها. وتوقعت أن ينتهي العمل في الدراسة أواخر السنة، حاملة أجوبة عن الأوضاع الحقيقية للمهاجرين، على الصعيدين الصحي والاجتماعي، بالإضافة لحركة تنقل أموال التهريب. ويشترك في هذا العمل 400 باحث وموظف.

وتنشر المنظمات إحصاءات شهرية عن تدفق المهاجرين نحو أوروبا، فعلى سبيل المثال وصل إلى أوروبا، في الفترة من 25 كانون الأول/يناير إلى 25 شباط/فبراير الماضيين، 13223 مهاجرا منهم 11724 عبر البحر، والباقون عن طريق البر. وتُظهر المقارنة بين 2016 و2019 تراجعا كبيرا لأعداد المهاجرين، تبعا لتشديد الرقابة في البحار وفي نقاط الانطلاق، ففي 2016 بلغ عدد المهاجرين 390 ألفا، وفي 2017 نزل العدد إلى 188.372وتراجع في 2018 إلى 147.683 ثم إلى 128.536 فقط في السنة الماضية.

ديون في رقابهم

يأتي المهاجرون أساسا من منطقة الساحل والصحراء، ويستلف كثير منهم مبالغ مالية للوصول إلى ليبيا، ومن ثم يُصبح هاجسُهم الأول هو البحث عن عمل لتسديد ديونهم. وتقدم المنظمة الدولية للهجرة مساعدات لتشجيع المهاجرين على العودة إلى بلدانهم، وتشتري للمُعوزين منهم بطاقات السفر برا أو جوا. وحدث ذلك أخيرا مع ترحيل 142 يافعا سنيغاليا من مركز احتجاز في مدينة مصراتة، كان المهاجرون يُقيمون فيه، نحو طرابلس في مرحلة أولى، ثم إلى الحدود التونسية، وأخيرا إلى مطار جزيرة جربة صوب دكار. وتكررت هذه العملية مع مهاجرين غينيين وماليين ونيجيريين وبوركينيين كانوا يرغبون في مغادرة ليبيا.

وتتدخل الأمم المتحدة خاصة عندما يتعلق الأمر بحبس أطفال في المعسكرات المخصصة للمهاجرين. وأوضح أحد المسؤولين الأمميين لـ”القدس العربي” أن المنظمة لا تستخدم مصطلح “مهاجرون غير شرعيين” وترفضه تماما “لأننا ننطلق من اعتبارات إنسانية، ولا نبحث عن من هو شرعي ومن هو غير شرعي” على ما قال. وتحظى منطقة الساحل جنوب الصحراء باهتمام خاص لدى منظمة الأمم المتحدة كونها الخزان الرئيسي، الذي تتدفق منه قوافل المهاجرين المتجهين إلى ليبيا، والساحل المتوسطي عموما. وحض مدير عام المنظمة الدولية للهجرة أنطونيو فيتورينو على النظر إلى ظاهرة الهجرة ليس من الزاوية الأمنية، وإنما بوصفها رافدا ممكنا للتنمية في بلد الإقامة.

عبءٌ أم ضرورة؟

في هذا السياق كشفت دراسة ميدانية في غرب ليبيا حول موقف الليبيين من المهاجرين الأجانب، أن 75 في المئة يعتبرونهم عبئا على البلد، فيما رأى 7.4 في المئة أنهم ضرورة لا غنى عنها. واستُفتي خلال الاستبيان، الذي أجرته فرق باحثين من “منظمة التعاون والإغاثة العالمية” 1200 شخص من أربع مدن، في غرب ليبيا، هي صرمان وصبراتة والزاوية وزوارة. وأظهرت نتائج الاستبيان أن 82 في المئة من الليبيين يعتبرون تعاملاتهم مع المهاجرين إيجابية. وحل السودانيون في الرتبة الأولى من حيث الأفضلية لدى الليبيين يليهم المصريون ثم التونسيون.

في المقابل، حمَل 46 في المئة من الليبيين المُستجوبين إيطاليا وفرنسا وتشاد المسؤولية الرئيسة عن تدفق المهاجرين على ليبيا، وإن اعتبروا أيضا أن هناك فئات ليبية مستفيدة من الهجرة، وهم المهربون والتجار وأمراء الميليشيات. كما أظهر الاستبيان أن أهم القطاعات المُشغلة للمهاجرين هي الإنشاءات والخدمات، وخاصة محطات البنزين والزراعة. ورأى 65 في المئة من المُستجوبين أن ليبيا مجرد بلد عبور، فيما اعتبر 23 في المئة أنها بلد استقرار، بينما رأى 11 في المئة أنها بلد استقرار لفترة وجيزة.

عرضة للبيع والشراء

يُرجح كثير من الليبيين أن المهاجرين يمكن أن يكونوا عرضة للبيع والشراء، والاستغلال الجنسي والاعتداء الجسدي والمعنوي، ويعتبرون تلك الانتهاكات جزءا من المعيش اليومي للمهاجرين، بدرجات متفاوتة. ومن تلك الانتهاكات الإتجار العلني بالمهاجرين الافارقة، لا بل أقدمت ميليشيا قوية على إقامة أسواق للعبيد وهي تدير سجونا ومعازل، وتهّرب المهاجرين إلى القارة الأوروبية. أما على صعيد العلاقات الاجتماعية، فأقر أكثر من 90 في المئة من المُستجوبين بأنهم لم يستضيفوا أبدا شخصا أو أسرة مهاجرة في بيوتهم. أما الذين آووا مهاجرين في بيوتهم فهم في الغالب من ذوي التكوين الجامعي. وقال المشرف العلمي على الاستبيان الدكتور محمد الجويلي إن المجتمع الليبي، مثله مثل باقي المجتمعات، يحمل بعض التمثلات تجاه الوافدين، هي مزيج من صور واقعية وأخرى خاطئة وواهمة عنهم. واستطرادا فإن هناك ازدواجية، بين من يعتبر المهاجرين مساهمين في التنمية، ما يمنحهم مقبولية اجتماعية، ومن يرى أنهم يتسببون في انتشار المشاكل الاجتماعية والأمنية والصحية.

وحض المهندس أنيس بوجعامة، رئيس فريق الإحصائيين الذين حللوا الاستمارات، على معالجة ملف الهجرة في ليبيا “معالجة مجتمعية قائمة على التشبيك والشراكة بين الأطراف المعنية، وإفساح المجال أمام المهاجرين أنفسهم والمجتمعات المحلية والمجتمع المدني للمساهمة في تشكيل التمثلات الاجتماعية المرتبطة بالمهاجرين”.

ثقافة القبول بالآخر

وشدد الجويلي وبوجعامة على أن مسألة الهجرة مسألة دولية لا يمكن معالجتها إلا في أبعادها المتعددة والمتداخلة. أما إلقاء كل طرف المسؤولية على الآخر فلا يزيد الوضع إلا تأزما وتعقيدا، لذا يجري الحديث اليوم عن حوار عالمي حول الهجرة ينبثق منه ميثاق عالمي خاص بالموضوع. وحضا على الاعتماد على وسائط صنع الرأي، من قيادات سياسية وزعامات دينية وقيادات مجتمعية وشخصيات تربوية وإعلامية، لترسيخ ثقافة القبول بالآخر. وكان “الاتفاق العالمي من أجل هجرة آمنة ومنظمة ونظامية” الذي صدر عن المؤتمر الحكومي الدولي في مراكش العام 2018 أكد على ضرورة نشر خطاب منفتح على الآخر، في شأن الهجرة والمهاجرين، وأهمية العمل الجماعي الرامي إلى إيجاد فرص للتواصل والحوار ومزيد التعارف بين المهاجرين ومجتمعات الاستقبال.

وعدا عن المهاجرين، تُظهر تقارير المنظمات الدولية المعنية بالدفاع عن الحريات أن الانتهاكات استهدفت أساسا فئات هشة أخرى مثل النساء والإعلاميين والحقوقيين، وكانت الضحية الأخيرة النائبة سهام سرقيوة التي اختُطفت من بيتها في بنغازي على مرأى من القوى الأمنية. وكان أول ضحايا الاغتيال السياسي المحامي والإعلامي عبد السلام المسماري، الذي قُتل لدى خروجه من المسجد في بنغازي عام 2013.

أسلحة غير دقيقة

وفي أحدث تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية، عن انتهاكات حقوق الإنسان في ليبيا، اعتبرت المنظمة أن الأطراف المتحاربة من أجل الهيمنة على طرابلس، هي المسؤولة عن قتل وإصابة عشرات المدنيين، من خلال شن هجمات بلا تمييز، واستخدام الأسلحة المتفجرة غير الدقيقة في المناطق الحضرية المأهولة بالسكان.

وكان مندوبو منظمة العفو زاروا 33 موقعا لضربات برية وجوية في طرابلس وجوارها القريب، واكتشفوا أدلة على ممارسات يُحتمل أن تكون جرائم حرب نفذتها كل من قوات “حكومة الوفاق الوطني” التي تدعمها الأمم المتحدة، وقوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر. وذكرت كبيرة مستشاري برنامج الاستجابة للأزمات لدى منظمة العفو الدولية، دوناتيلا روفيرا، أن التحقيق الذي أجرته المنظمة، على جانبي جبهة القتال، أظهر استخفافا متواصلا بالقانون الدولي. وهذا الاستخفاف يتزايد يوما بعد يوم، جراء الاستمرار في إمداد طرفي الصراع بالأسلحة والذخائر، في انتهاك واضح للحظر الذي فرضه مجلس الأمن على إرسال السلاح إلى ليبيا.

تعليقات