رشيد خشانة – رسميا، عزا سلامة قرار الاستقالة إلى أسباب صحية (69 عاما) مؤكدا في الرسالة التي وجهها إلى الأمين العام للأمم المتحدة أن صحته لم تعد تسمح له بتحمُل مزيد من الضغط النفسي. وهذا الأمر واقعي، بالنظر للجهود المضنية التي بذلها في اجتماعات جنيف الأخيرة، عبر المسارات الثلاثة السياسي والعسكري والاقتصادي، إذ كان واضحا أنه يعمل على أكثر من جبهة. لذا فالأرجح أن تعثر محادثات جنيف كان ضربة قوية لمعنوياته، خاصة أنها أتت بعد خيبات سابقة، لعل أبرزها إجهاض مؤتمر غدامس (2019) واندلاع “حرب طرابلس”. وحاول سلامة، منذ تعيينه في هذا المنصب في 22 حزيران/يونيو 2017 خلفا للألماني كوبلر، أن يُطفئ الحرائق التي اندلعت في أكثر من منطقة في ليبيا، في أعقاب الإطاحة بنظام معمر القذافي وانتخابات مجلس النواب (2014). ولذلك استمع إلى السياسيين وزعماء القبائل ونشطاء المجتمع المدني، كما جال على العواصم الإقليمية والدولية، التي لها ضلع في الصراع الليبي. وكان هاجسه دوما إقناع تلك العواصم بالحد من تداخلاتها في الأزمة الليبية. ويمكن القول إن سلوك تلك الدول، التي قوضت، الواحدة بعد الأخرى، البناء الغض الذي توفق في وضعه على الأرض، كان من العناصر المهمة التي حملته على الاستقالة.

مؤتمر غدامس

ونذكر من تلك المبادرات المُجهضة، مشروع المؤتمر الجامع في غدامس، الذي صرف سلامة وقتا طويلا في إعداده، قبل أن يُطيح به اللواء المتقاعد خليفة حفتر، باجتياح قواته للتخوم الجنوبية للعاصمة طرابلس، في الرابع من نيسان/ابريل الماضي. كان مقررا أن يُعقد المؤتمر في غدامس (غرب) بين 14 و16 من الشهر نفسه، وكان من المفترض أن يجمع ما يزيد عن 150 ليبيا من جميع أنحاء البلد، وسط أجواء حماس شعبي بشأن ما يمكن للملتقى أن يُسفر عنه من نتائج. وسبق ذلك عقد 77 اجتماعا شارك فيها 6000 ليبي وأنتجت 80 ألف ورقة، لُخصت في 22 ورقة، وشملت الأوراق كل المجالات. وفي خط مواز كان عدد من كبار الضباط يقطعون شوطا مهما نحو توحيد المؤسسة العسكرية، بعد اجتماعات عقدوها منذ 2016 وصاغوا خلالها المبادئ الحاكمة للمؤسسة، بما فيها البنية التنظيمية. ووضعوا رئيس الأركان العامة محمد الشريف ونائبه سالم جحا في الصورة، على أساس أن تكون المبادرة جزءا من المشروع الوطني العام الذي كان منويا مناقشته واعتماده في مؤتمر غدامس. غير أن بعض القوى الإقليمية وضعت فيتو على عقد المؤتمر، فاستبق اللواء حفتر ميقات غدامس، بالحملة التي أطلقها للسيطرة على طرابلس.

بعد الفرصة المهدورة في أبو ظبي، واجه سلامة خيبة جديدة مع إجهاض مؤتمر غدامس، مثلما أسلفنا. وخلافا لبعض الأصوات التي تُهون من قيمة الاستعدادات التي مهدت للمؤتمر، أكد سلامة في حوار مع وكالة الأنباء الفرنسية، أنه عمل مع فريقه، طيلة سنة بالتمام والكمال لإعداد حدث غير مسبوق في ليبيا، يتمثل بندوة وطنية تضم الجميع. ولاحظ، بمرارة، أن جميع تلك الجهود ذهبت أدراج الرياح. وأوضح أن مؤتمر غدامس “كان سيضع خريطة طريق تُخرج ليبيا من الفوضى، إلا أنه ألغي بعد الهجوم على طرابلس”.

استبدال حكومة

وتلقى سلامة طعنة أخرى من الأطراف نفسها، بإفشال اتفاق أبو ظبي، الذي رفض اللواء حفتر التوقيع عليه في اللحظة الأخيرة. وكان مطروحا في المحادثات التي عُقدت في 27 شباط/فبراير 2019 استبدال حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وحلّ الحكومة الموازية في البيضاء، وتشكيل حكومة وطنية موحّدة وشاملة للجميع، كان من شأنها أن تقود البلاد إلى إنهاء الفترة الانتقالية، من خلال العملية الانتخابية.

أكثر من ذلك، حصل توافقٌ على حزمتين من القرارات، الأولى تتمثل بتقليص عدد أعضاء المجلس الرئاسي من تسعة إلى ثلاثة فقط (السراج من الغرب وسيف النصر من الجنوب والعبَار من الشرق) وتحت المجلس حكومةٌ من التكنوقراط، إذ كان هناك اتفاق على أن تكون حكومة تسيير أعمال لا تتخذ قرارات استراتيجية، ومهمتها الأولى هي تنظيم انتخابات عامة. وهناك شخصيتان فقط يمكن أن تضعا فيتو على القرارات، هما السراج وحفتر. أما الحزمة الثانية من القرارات، فتخص تشكيل مجلس الدفاع والأمن القومي المؤلف من أربعة أعضاء هم السراج والقائد العام (حفتر) ووزيرا الداخلية والخارجية.

إنهاء الفترة الانتقالية؟

كانت تلك القرارات، مثلما قرأها سلامة في إحدى إحاطاته، فرصة حقيقية لاستبدال حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، وحلّ الحكومة الموازية في البيضاء، وإنشاء حكومة وطنية موحّدة وشاملة للجميع، كان من شأنها أن تقود البلاد إلى إنهاء الفترة الانتقالية من خلال العملية الانتخابية.

ولاحت بارقة أمل من جديد مع دخول تركيا وروسيا على خط الأزمة الليبية في مبادرة مشتركة، إذ استطاعتا وضع اتفاق لوقف إطلاق النار في 12 كانون الثاني/يناير الماضي، استقبلته جميع العواصم بحماسة. غير أن الفرحة لم تكتمل، إذ غادر اللواء حفتر موسكو من دون التوقيع على الاتفاق، وتبدد الأمل بإخراج الملف الليبي من أيدي القوى الأوروبية المتنابذة.

استطاع غسان سلامة أن يتجاوز تلك الضربة بما لديه من قدرة على الامتصاص، وشرع، كما سيزيف في الأسطورة اليونانية، يحمل الصخرة على كتفيه، ويُعاود صعود الجبل كاتما مرارته. وفي هذه المرة كانت المناكفات بين الدول الأوروبية على أشدها، وخاصة بين فرنسا وإيطاليا، حول من هو حري بعلاج هذا الملف. واستقوى الإيطاليون بالبيت الأبيض الذي منحهم وكالة على ليبيا، فيما نسج الفرنسيون علاقات متينة مع اللواء حفتر. هذه المعارك الصغيرة، التي تطورت إلى ملاسنات في وسائل الاعلام، عطلت عمل الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، وعرقلت الحل السلمي.

جوقة أوروبية

وكان لابد من تجميع الدول التي تصب الزيت على النار، وتحميلها المسؤولية. لذلك كان سلامة يمنح أهمية كبيرة لتجميع الدول الأوروبية الفاعلة، وإقناعها بالامتناع عن تعطيل الحل السياسي، وتوجه خاصة إلى فرنسا وإيطاليا. واستطاع إقناع المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل باستضافة مؤتمر للمكاشفة والمصالحة يُفضي إلى تعديل أوتار الجوقة الأوروبية، من دون حضور الأطراف الليبية والإقليمية. وكان المؤتمر نجاحا لسلامة، إن من حيث مستوى الحضور، أو لجهة القرارات، إذ أجاز المؤتمر تشكيل اللجان الثلاث التي اقترحها الممثل الخاص، فيما سارع الأخير إلى وضع جدول زمني لاجتماعات اللجان، في إطار المسارات التي اقترحها، وهي السياسي والعسكري-الأمني، والمالي-الاقتصادي. من هنا فإن الانجازين اللذين حاول تكريسهما وبدا فخورا بهما هما “محاولة توحيد الليبيين والحد من التداخلات الأجنبية” كما قال. والأرجح أن القطرة التي أفاضت الكأس، كانت إعلان الوفدين المتفاوضين في جنيف، تعليق مشاركتهما في المحادثات، وسط تجدد الاشتباكات على الجبهات في جنوب طرابلس. والظاهر أن سلامة طلب من عواصم مؤثرة التدخل لحمل الفريقين على استئناف الحوار غير المباشر، لكنها لم تتجاوب معه. والثابت أن الحل العسكري هو الذي سيتغلب في النهاية، بعدما رمى الموفد الأممي الخاص المنديل، وتكسرت محاولات فرض حل سياسي للأزمة.

غدامس، موسكو، أبو ظبي، برلين، جنيف… تعددت الخيبات، وفي كل محطة ترك سلامة حزمة من الآمال المغدورة والفرص المهدورة، والآن لم تعد لدى سيزيف قوة قادرة على حمله وصخرته ليقف من جديد على قدميه، ويخوض تجربة أخرى، وهو يعلم سلفا أنها موءودة. وفوق ذلك بات موقنا من أن “رأب الضرر الذي حدث حتى الآن سيستغرق سنواتٍ، هذا إن وضعت الحرب أوزارها الآن” مثلما قال في أحد التصريحات. ولعله يقصد القتال الجاري على مشارف العاصمة، بالرغم من قرار وقف إطلاق النار، والذي رأى فيه “مجرّد بداية لحرب طويلة دامية، على الضفاف الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، مما يعرّض أمن جيران ليبيا المباشرين، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، بشكل أوسع، للخطر”.

يحتاج الأمين العام للأمم المتحدة إلى فترة انتقالية، قبل تسمية ممثل خاص جديد في ليبيا، سيكون السابع في ظرف عشر سنوات. لكن يبدو أن الخروق اتسعت على جميع الراقعين، وقللت من فرص وقف القتال حول طرابلس. والأرجح أن غوتيريش سيبحث مع سلامة شروط تأمين انتقال سلس على رأس البعثة الأممية في ليبيا “من دون إهدار المكاسب التي تحققت” على ما نقلت عنه مصادر مطلعة. لكن هل ما زال من أمل في معاودة المغامرة، بعدما خطفت القوى الخارجية قرار الحرب والسلم في ليبيا؟

تعليقات