رشيد خشانة – أظهر تقرير جديد أصدرته منظمات حقوقية اقليمية ودولية، أن مجموعات مسلحة وشبه عسكرية تابعة للدولة في ليبيا، تحتجز احتجازا تعسفيا، آلافا من الليبيين والأجانب، لفترات طويلة، مع عزلهم عن العالم الخارجي. وصدر التقرير عن مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، بالتعاون مع منظمات حقوقية شكلت معا، في 2016، “ائتلاف المنصة”.

وقدمت مُكونات “المنصة”، في 2 إبريل/نيسان الجاري، ورقة مشتركة تطرقت فيها لإخفاق السلطات الليبية، على مدى خمس سنوات، في إنجاز تعهداتها بموجب 171 توصية، كانت أقرت بقبولها في آخر جلسة استعراض أممي خضعت لها، عام 2015. وتتكامل هذه الوثيقة الجديدة، مع تقارير ومذكرات أخرى، في المعنى نفسه. وعرضت المداخلة المقدمة لآلية الاستعراض الدوري بالأمم المتحدة أهم الاجراءات التي قالت إن السلطات الليبية مُطالبة باتخاذها في الأشهر المقبلة، إذا ما كانت ترغب في التدليل على حسن النوايا وامتلاك إرادة سياسية حقيقية للإصلاح والتغيير، بما يعني الامتثال للتعهدات الدولية والالتزامات الأساسية إزاء الشعب الليبي في مجال حقوق الإنسان.

تطرقت الوثيقة إلى فئات اجتماعية ومهنية، في مقدمها القضاة والإعلاميون والحقوقيون، مُستعرضة أعمال الخطف والاغتيال والتعذيب التي تعرضوا لها، على مدى أربعة أعوام، في استهداف مباشر من الجماعات المسلحة في الشرق كما في الغرب.

حقوقيون وصحفيون مستهدفون

وعلى مدى أربع سنوات، استهدفت تلك الجماعات المسلحة، بشكل منهجي، بحسب التقرير/ الوثيقة، نحو247 صحفيًا وإعلاميًا، وأكثر من مئة مدافع عن حقوق الإنسان، بالإضافة إلى تسجيل اعتداءات مسلحة على منظمات المجتمع المدني وأعضائها، لا سيما أثناء تنفيذ فعالياتها. وأبرز التقرير أيضا أن الجماعات المسلحة استهدفت النشطاء الحقوقيين في المطارات ونقاط التفتيش الأمنية، واستخدمت التعذيب لانتزاع معلومات حول أنشطتهم وانتماءاتهم السياسية. يستخدم القتل خارج نطاق القانون ضد المدنيين أيضاً، وخاصة الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام المعنيين بتغطية الفظائع والجرائم التي يرتكبها المقاتلون. ففي 19 يناير 2019، قُتل المصور الصحفي محمد بن خليفة أثناء تغطيته للمناوشات المسلحة بين القوات التي تحمي طرابلس واللواء السابع. وفي 31 يوليو/تموز 2018، عُثر على جثة المصور موسى عبد الكريم في مكان عام في سبها (جنوب) بعد إطلاق النار عليه، بعد مُضي أسبوع على نشر صحيفته تقريرأ حول عمليات الاختطاف والسرقة المسلحة وتزايد الجريمة في سبها، عاصمة اقليم فزان. وفي فبراير/شباط 2015، عُثر على ناشطة المجتمع المدني انتصار الحصايري وخالتها مقتولتين في سيارة في طرابلس، على أيدي مجموعة مسلحة.

مُحصَنون من القتل

وأكد التقرير أن انعدام أي نوع من المساءلة، حال دون اتخاذ خطوات جادة لمحاسبة مرتكبي الاغتيالات وغيرها من الانتهاكات، خلال السنوات الماضية، لذلك “لا يوجد مكان أو شخص في ليبيا، مُحصن من القتل خارج نطاق القانون”. ولا تُستثنى من ذلك المستشفيات والمدارس والمساجد، “التي تتغاضى السلطات الرسمية كالعادة عنها” بحسب ما جاء في التقرير.

أكثر من ذلك، حالت المجموعات المسلحة والقوات شبه العسكرية، المتحالفة مع السلطتين المتنافستين في بنغازي وطرابلس، دون وصول ضحايا الإنتهاكات إلى النظام القضائي الوطني، جراء الهجمات المتتالية، التي استهدفت أعضاء المجتمع القانوني والقضائي، ومكاتب النيابة العامة والمحاكم ووزارة العدل. واستدل واضعو التقرير باختطاف وليد الترهوني، أحد منتسبي وزارة العدل، في 9 أغسطس/آب الماضي، على أيدي جماعة مسلحة، وقد عُثر على جثته بعد بضعة أيام، أمام الوزارة وعليها آثار تعذيب وجروح.

تضاعُف حالات الخطف

كما وثق التقرير الهجمات على المحاكم، من أجل ترهيب القضاة وإجبارهم على إطلاق المحتجزين من دون مقاضاتهم، في بنغازي ومصراتة والعزيزية (جنوب طرابلس) وتاجوراء وسواها. وبحسب الوثيقة تضاعفت حالات الخطف والاحتجاز التعسفي والاختفاء القسري، خاصة بعد اندلاع “معركة طرابلس” في أبريل/نيسان 2019، إذ أصبح الصحفيون والنشطاء والسياسيون أكثر عرضة للاختفاء القسري وغيره من الانتهاكات، بتعلة التعاطف مع أحد الطرفين المتصارعين، أو بتهم الخيانة أو العمالة لـ “أجندة دولية.” وضربت مثلا بالمهندس عبد الناصر المقطوف (62 عامًا)، خطفته مجموعة مسلحة من مصراتة في يوليو/تموز 2019 مع اثنين من أبناء عمومته شرق طرابلس، واحتجزتهم قوة الردع التابعة لحكومة الوفاق في مكان مجهول، بتهمة دعم القوات الشرقية. ومازالوا رهن الاحتجاز إلى حدود كتابة التقرير، لكن دون أي إجراء من جانب حكومة الوفاق الوطني، بوصفها السلطة الحكومية الشرعية الموكول لها إنفاذ القانون.

الحاسي وسرقيوة

وتجدر الملاحظة أن معظم المختفين قسريًا نشطاء في المجال العام، يتطلعون لأداء دورهم من أجل دولة مدنية ديمقراطية. فقد اختفى قسريًا عبد السلام الحاسي، رئيس وكالة الرقابة الإدارية في البيضاء شرق ليبيا، بعدما قدم تقريرًا حول الممارسات الفاسدة داخل الحكومة المؤقتة في الشرق برئاسة عبد الله الثني، إذ اختطفته جماعة مسلحة بالقوة، من دون تهمة، ولم يتدخل القضاء لحمايته من العقاب على امتثاله لواجبه المهني. وتكرر الاختطاف في 18 يوليو/تموز الماضي، مع النائبة سهام سرقيوة، التي داهمت منزلها، في بنغازي، مجموعة مسلحة، اعتدت بالضرب على أسرتها وحملتها إلى مكان مجهول، وذلك بعد مقابلة مع قناة تليفزيونية مؤيدة للسلطات في شرق ليبيا.

كما تجدر الملاحظة أيضا أن كلا السلطتين المتنافستين، أي الحكومة المؤقتة في الشرق وحكومة الوفاق الوطني في الغرب، لم تتخذ في أكثر حالات الاختفاء القسري، أو الاحتجاز التعسفي، أية تدابير حقيقية للإفراج عن مئات المحتجزين كرهائن، لدى الجماعات المسلحة، بلا سند قانوني أو متابعة قضائية. واعتبر مُحررو الوثيقة أن هذا التقاعس من جانب السلطات، “لن يسفر إلا عن مزيد من عدم الاستقرار، وتقويض الأركان المؤسسية للسلطة والعدالة، بما يُحدث فراغًا قانونيًا وسلطويًا يمكن استغلاله من قبل القوى المتطرفة”.

قوانين قمعية

وفي السياق نفسه، اعتمدت السلطات التنفيذية الرسمية، منذ 2015، على الفراغ الدستوري، فأعادت توظيف القوانين القمعية السابقة على الثورة، بل وأصدرت اللوائح والقرارات المكملة، لمزيد الحيلولة دون تمتع الأفراد بحقوقهم في التعبير والتنظيم والتجمع السلمي، بلا وصاية من الجهات التنفيذية. وبهذه الطريقة انفردت السلطات وحدها، من دون رقابة قضائية، بإصدار تصاريح العمل للجمعيات، ومنحت التصاريح بالتظاهرات والتجمعات، وحتى السماح للصحفيين بممارسة عملهم، سواء لوسائل الإعلام المحلية أو الأجنبية”. وحذرت الوثيقة من لجوء السلطات لمنح تفويض إلى المجموعات المسلحة، بمهمة حفظ الأمن وإنفاذ القانون، بموجب قرارات رسمية، والسماح لها بالاندماج في المؤسسات الأمنية، كمجموعات من دون تدريب أو برنامج وطني موحد، بُغية حصول السلطات، في المقابل، على دعم تلك المجموعات المسلحة.

الهجرة هي الحل؟

أخطر ما في هذا الأمر هو أن غالبية الذين تلقوا تهديدات، وأصبحت حياتهم في خطر، من نشطاء وحقوقيين وإعلاميين وغيرهم، اضطروا للهجرة إلى الخارج ضمانا لسلامتهم من الاغتيال، خاصة بعدما بقي منفذو تلك الانتهاكات بلا عقاب، ما يدل على أنهم سيعاودون ارتكابها ضد كل من يُشتبه بكونه معارضا للسلطات في الشرق والغرب. وتحدث نشطاء عن فرق تحذق تنفيذ الاغتيالات والاختطافات، مؤكدين أنها تتحرك في وضح النهار، لتعتدي وتُعاقب الخارجين عن الصف، بالاعتماد على المدخليين (متشددون سلفيون من أنصار السعودي ربيع المدخلي) الذين باتوا يشكلون، مع جهاز “الأمن الداخلي” قبضة السلطة في بنغازي. وللتخلص من هذا الكابوس فضل كثير من المثقفين والنشطاء الهجرة إلى طرابلس أو مدن أخرى لديهم فيها أقرباء، أو إلى الخارج، إذ بات هؤلاء يهاجرون إلى تونس ومصر والمغرب ومالطا وباريس ولندن، مُعتبرين تلك الهجرة مؤقتة، إلى أن تنفرج الأوضاع في الداخل، وتصبح العودة للاستقرار في البلد مأمونة.

فرصة للتدارك

يعتقد المراقبون أن تأجيل مجلس حقوق الإنسان لجلسته الـ 36، التي كانت مقررة في مايو/أيارالمقبل، بسبب جائحة كورونا، إلى نوفمبر، في إطار آلية الاستعراض الدوري الشامل الأممية، يمنح فرصة جديدة للسلطات الليبية، لاتخاذ بعض الخطوات الأولية الضرورية في مجال حماية حقوق الإنسان وضمان الحريات الأساسية، قبل امتثالها لآلية الاستعراض الدوري لملفها الحقوقي. ومن تلك الخطوات إلغاء القوانين والمراسيم المصادرة للحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات، وضمان حماية المدافعين عن حقوق الإنسان، وإنهاء سياسات الاعتقال التعسفي، وحماية اللاجئين والمهاجرين وطالبي اللجوء وتمكين النساء والأقليات والحد من التمييز، فضلاً عن اتخاذ خطوات جادة في مجال إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية.

وأيا يكن مسار الجلسة المقبلة لمجلس حقوق الانسان، لن يُشرف الحكومة المؤقتة في بنغازي ولا حكومة الوفاق في طرابلس أن تعتمد على تراث القذافي القمعي، وخاصة قانون العقوبات وقانون مكافحة الإرهاب، من أجل توظيفهما للتنكيل بالحقوقيين والصحفيين والنشطاء، بعد قرابة عشر سنوات من ثورة كان شعارها تكريس الحريات والقضاء على الاستبداد.

تعليقات