كل جماعة مسلحة أو قبيلة قوية، تستطيع أن تسيطر على أحد حقول النفط

على الرغم من أهمية الاعتبارات الجيوستراتيجية والسياسية ذات الطابع الإقليمي والدولي للصراع الجاري في ليبيا منذ سقوط حكم العقيد معمر القذافي، فإن الأطراف الرئيسية في الصراع تعتبر أن النفط هو الجائزة الكبرى التي سيفوز بها المنتصر. ونظرا لتشابك المصالح الجيوستراتيجية والاقتصادية، فإن العالم كله بكل أطرافه الرئيسية حاضر في الصراع على نفط ليبيا. ويعلم الجميع أنه لن يكون بمقدور طرف واحد أن يحصل بمفرده على الكعكة كاملة. ولهذا فإن المشهد الحالي يعبر عن توزيع المصالح والتفاهمات المتبادلة، وسعي كل قوة للفوز بالنصيب الأكبر من الجائزة الكبرى.

وتعتبر ليبيا إحدى أهم الدول المنتجة للنفط في العالم، خصوصا من حيث الاحتياطي المؤكد القابل للاستغلال التجاري. وتعود أحدث تقديرات الاحتياطي إلى عام 2016 حيث يقدر بما يتجاوز 48 مليار برميل، وهو ما يضع ليبيا في المركز التاسع عالميا، بنصيب يعادل 2.9 في المئة من الاحتياطي العالمي. هذا التقدير للاحتياطي يعتبر منخفضا جدا نظرا للتطور الهائل الذي حدث في تكنولوجيا استخراج النفط خلال السنوات الأربع الأخيرة، وتوقف عمليات البحث والتنقيب بسبب الصراعات المسلحة. وإذا أخذنا ذلك في الاعتبار، فإن كمية الاحتياطي المؤكد القابل للاستغلال التجاري في ليبيا يمكن أن تتضاعف عن الأرقام التي كانت متاحة حتى عام 2016. كذلك يجب أن نلاحظ أن تلك التقديرات لا تتضمن جزءا مهما من ثروة النفط والغاز المحتملة في المياه العميقة قبالة الشاطئ الليبي الممتد في جنوب البحر المتوسط.

وطبقا لاتفاقيات الإنتاج بالمشاركة في التكاليف والأرباح التي تمثل النموذج المتبع في العلاقات بين المؤسسة الوطنية للنفط في ليبيا والشركات العاملة في التنقيب البري والبحري، فإن ليبيا تحصل تقريبا على نصف إنتاج النفط المستخرج محليا، بينما تستحوذ الشركات الدولية على النصف الآخر. هذا يعني أننا عندما نقول إن إنتاج ليبيا النفطي يبلغ مثلا مليوني برميل يوميا، فإن نصيب الحكومة الليبية يبلغ مليون برميل فقط وليس مليونين. وتنص هذه الاتفاقيات على أن المؤسسة الوطنية للنفط هي ممثل الحكومة الليبية في اتفاقيات المشاركة، وأن عائدات تصدير النفط تذهب إلى خزانة البنك المركزي الليبي، للإنفاق منها على أوجه الميزانية العامة المختلفة.

وتتركز الثروة النفطية الليبية فيما يعرف بمنطقة الهلال النفطي، وفيها أيضا أهم مصافي التكرير وأهم محطات تصدير النفط إلى الخارج. وتقع منطقة الهلال النفطي منذ عام 2014 داخل نطاق نفوذ قائد الجيش الوطني الليبي الجنرال خليفة حفتر ومجلس النواب الذي يتخذ من طبرق مقرا له. وقد استطاع حفتر خلال السنوات الماضية بالتعاون مع القبائل، مد نفوذه إلى مناطق الثروة النفطية المهمة في جنوب وغرب البلاد، وتمكن فعليا من السيطرة على حقل الشرارة وهو أكبر حقول النفط الليبية، إذ يصل إنتاجه وحده إلى أكثر من 300 ألف برميل يوميا، وهو ما يعادل 25 في المئة من الإنتاج السنوي في المتوسط خلال السنوات الأخيرة والذي يقدر بنحو 1.2 مليون برميل يوميا.

لكن إنتاج النفط في ليبيا الذي هبط من أكثر من مليوني برميل يوميا قبل سقوط نظام القذافي إلى أقل من 100 ألف برميل حاليا، يتعرض للتذبذب من يوم إلى آخر بسبب الصراع بين الجماعات المسلحة المتنازعة المصالح. ونظرا لأن الدولة انهارت تماما ولم تعد موجودة بالمعنى الوظيفي للكلمة، فإن كل جماعة مسلحة أو قبيلة قوية، تستطيع أن تجمع قوتها وأن تسيطر على أحد حقول النفط لاستخدام عائداته في تمويل احتياجاتها الخاصة، أو وقف الإنتاج تماما لحرمان الدولة منه. هذا المشهد الذي يتكرر من يوم إلى آخر يتسبب عمليا في وقف الإنتاج أو في غلق أنابيب التصدير. ولهذا فإن الشركات الأجنبية العاملة في قطاع النفط والغاز في ليبيا توقفت عمليا عن الاستثمار، وتتعامل مع الحقائق على الأرض يوما بيوم حسبما يكون الأمر.

وعلى صعيد الخريطة النفطية العالمية، فإن ليبيا تدخل ضمن منظومة الطاقة الأوروبية، وتنظر دول الاتحاد الأوروبي إليها على أنها مورد رئيسي قريب جغرافيا لإمدادات الطاقة يتعين تأمينه وتعظيم الاستفادة منه. وفي ظروف الإنتاج العادية تمثل ليبيا ثالث أهم مصدر للإمدادات الأوروبية بعد كل من النرويج وروسيا. وفي هذا السياق فإن مصالح شركات مثل إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية تمثل محركات قوية الأنشطة النفطية في ليبيا. كذلك فإن شركات النفط الأمريكية مثل كونوكو-فيليبس وهيس وماراثون واوكسيدنتال تستحوذ على نصيب كبير من ثروة ليبيا النفطية. وقد انضمت شركات النفط الروسية إلى هذا التجمع من شركات النفط الأوروبية والأمريكية العاملة في ليبيا، وتمكنت من الحصول على عقود ضخمة مبكرا وقبل سقوط نظام القذافي، خصوصا بعد الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2008 حيث التقى العقيد القذافي واتفق معه على إعفاء ليبيا من ديون مستحقة لروسيا بقيمة 4.5 مليار دولار في مقابل موافقة القذافي على منح الشركات الروسية عقودا ضخمة للتنقيب عن النفط وإقامة مشاريع البنية الأساسية هناك. وبهذا الاتفاق أصبحت روسيا أحد اللاعبين الرئيسيين على مسرح الصراع في ليبيا إلى جانب دول حلف الأطلنطي. وهكذا فإن مصالح شركات مثل روس نفط وغاز بروم وتات نفط، تقف جنبا إلى جنب مع إيني وتوتال وكونوكوفيليبس وهيس في شرق وغرب ليبيا، بريا وبحريا ضمن امتيازات تتوزع بين الهلال النفطي في الشرق الذي يسهم بما يقرب من نصف ثروة ليبيا النفطية إلى خليج غدامس في الغرب ومناطق الامتيازات الغنية في جنوب غرب ليبيا. ويعكس هذا التنوع في خريطة المصالح النفطية في ليبيا طبيعة التشابك بين القوى المتصارعة على النفوذ.

إيرادات النفط

وعلى الرغم من أن مجلس الأمن الدولي يعتبر حكومة طرابلس برئاسة فايز السراج هي الحكومة الشرعية في ليبيا، فإن الجنرال خليفة حفتر استطاع خلال السنوات الست الماضية أن يوسع نفوذه السياسي والاقتصادي والعسكري على حساب حكومة الوفاق الوطني في طرابلس. وبعد مرور عام على حملته العسكرية لاستخلاص طرابلس من سلطة حكومة الوفاق، فإن قواته لم تتمكن حتى الآن من اقتحام طرابلس، لكنها استطاعت توسيع سيطرتها على حقول النفط ومرافئ التصدير إلى الخارج ومراكز التحكم في إمدادات النفط عبر خطوط الأنابيب، خصوصا تلك الممتدة بين حقول النفط في الجنوب الغربي مثل الشرارة والفيل وبين موانئ التصدير. بذلك يمكن القول إن خليفة حفتر والقبائل والقوات القبلية الموالية له أصبحت تسيطر الآن على أكثر من 80 في المئة من الثروة النفطية الليبية، وهو ما يمنحه قدرا كبيرا من الموارد المالية اللازمة لتمويل مشتريات الأسلحة والذخائر لقواته، وكذلك للإنفاق على الخدمات ودفع أجور الموظفين العاملين في شرق ليبيا وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها، ودفع مرتبات قوات الجيش التابع وإرضاء القبائل الموالية له.

في المقابل فإن حكومة الوفاق الوطني في طرابلس تبدو عاجزة عن توفير الموارد الكافية لتمويل احتياجاتها الأساسية. وتظهر أرقام الميزانية الأخيرة للعام الحالي 2020 انخفاضا حادا في الموارد، بما جعل بنود المصروفات الرئيسية في الميزانية تقتصر على دفع رواتب العسكريين ومكافآت الجماعات المسلحة الموالية للحكومة، وسداد نفقات تشغيل الأجهزة الرسمية الموجودة في طرابلس. ولم ترصد الحكومة قيمة الموارد اللازمة لسداد رواتب الموظفين واجور العاملين في المشروعات المملوكة للدولة، كما تخلو الميزانية التي تبلغ قيمتها الإجمالية حوالي 34 مليار دولار من أي مخصصات للاستثمار أو للمشاريع العامة بما فيها النفطية.

وبعيدا عن الحصار العسكري والاقتصادي الذي تفرضه قوات الجنرال خليفة حفتر على طرابلس والذي دخل عامه الثاني عمليا منذ بدأت حملته العسكرية في 3 نيسان/أبريل من العام الماضي، فإن مؤسسات الدولة في ليبيا تتجه بقوة إلى التقسيم بين سلطتي حكومة بنغازي وحكومة طرابلس. وتتجه كل من الحكومتين إلى استكمال بناء المؤسسات الاقتصادية التابعة لها، حيث لدى ليبيا مؤسستان للنفط، وليس المؤسسة الوطنية وحدها، واحدة في بنغازي والثانية في طرابلس، كما أصبح لكل منهما البنك المركزي التابع لها. ولم يعد للبنك المركزي الليبي سلطة حصرية على النقد المصدر المتداول حاليا في ليبيا، وهو ما يعيد إلى الأذهان فصلا بائسا من فصول انهيار الدولة في العراق، عندما وصل الأمر إلى استخدام المطابع الخاصة في طباعة أوراق النقد في نهاية حكم صدام. وتعتمد حكومة بنغازي تدريجيا على أوراق نقدية مطبوعة في روسيا، في حين تعتمد حكومة طرابلس على أوراق نقدية مطبوعة في إنكلترا. وكانت ليبيا قد بدأت رسميا في التخلص من أوراق النقود القديمة التي تحمل صور العقيد القذافي منذ عام 2012. وقد أدى ذلك إلى تدهور سعر الدينار الليبي واتساع نطاق السوق السوداء التي انحدر فيها سعره أمام الدولار إلى ما يقرب من عُشر السعر الرسمي. ومن الغريب أن البنك المركزي في طرابلس قام بتقنين السوق السوداء بالحصول على علاوة استبدال عملة بنسبة 165 في المئة من السعر الرسمي!

ولا توجد لدينا تقديرات موثوق فيها لحجم الإنتاج النفطي الحالي في ليبيا. لكن الإنتاج اليومي يتراجع بشدة منذ بداية العام الحالي حتى هبط في منتصف نيسان/أبريل الحالي إلى حوالي 80 ألف برميل يوميا، وهو ما يعادل نحو 5 في المئة من متوسط الإنتاج خلال العام الماضي. وكانت مفاوضات مؤتمر برلين للسلام الذي انعقد في 19 كانون الثاني/يناير الماضي قد تضمنت محورا اقتصاديا يتعلق بضرورة تقسيم عائدات تصدير النفط بطريقة عادلة بين شرق ليبيا وغربها، حيث اشتكى الجنرال حفتر من أن حكومة طرابلس تسيطر على النسبة الأعظم من إيرادات النفط. ومنذ انتهاء المؤتمر حتى الآن، فشلت بعثة الأمم المتحدة لمساعدة ليبيا في وضع آلية لتقسيم إيرادات النفط، تماما كما فشلت في تشغيل آلية مراقبة وقف إطلاق النار. وبسبب عدم التوصل إلى آلية لحل النزاع حول تقسيم إيرادات النفط، فإن الصراع على نفط ليبيا سيستمر.

تعليقات