رشيد خشانة – الروس يريدون وقف القتال في طرابلس ومدن أخرى، لأن اتجاه الحرب بات يسير في خط ليس في صالح حليفهم، اللواء خليفة حفتر.

في تناغم لا يثير الاستغراب، طرح عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي “مبادرة” لتشكيل مجلس رئاسي جديد، تنبثق منه حكومة تمثل أقاليم ليبيا الثلاثة، فيما حمل القائد العسكري للمنطقة الشرقية، خليفة حفتر، على المجلس الرئاسي الحالي، مُطالبا الليبيين بإسقاطه واختيار من يرونه مناسبًا لقيادة المرحلة المقبلة. وبالطبع الرجل المناسب، حسب هذا الطرح، هو حفتر نفسه. انطلق صالح من “فشل” الحوار السياسي بين الفرقاء، ليقترح “العودة إلى الشعب الليبي”. غير أن مثل هذه “العودة” لا تكون إلا بإجراء انتخابات حرة وشفافة، وهو ما ظل يرفضه حفتر وصالح معا، منذ اتفاق الصخيرات في 2015. قد يبدو كلام صالح معقولا حين يقترح أن يتولى كل إقليم من أقاليم ليبيا الثلاثة على حدة، اختيار من يمثله في المجلس الرئاسي، المؤلف من رئيس ونائبين، بالتوافق بينهم أو بالتصويت السري، تحت إشراف الأمم المتحدة. لكن هل ما زالت هيئة الانتخابات قادرة اليوم على تنظيم مثل هذا الاستحقاق الانتخابي المُعقد، في ظروف أمنية منفلتة شرقا وغربا؟ وإن افترضنا أنها قادرة، فعلى أية أرضية دستورية وسياسية ستُقام الانتخابات؟

المؤقت يُصبح دائما

يُجيب حفتر في كلمته المُتلفزة: “وفق إعلان دستوري يصدر عنها”. ومن “عنها”؟ تعود الـ”ها” في خطاب حفتر، على من “يختاره الشعب الليبي” ويراه مناسبًا لقيادة المرحلة المقبلة. لكن لماذا لم يقل بوضوح إن الأمر يتعلق برئيس مؤقت، والأحسن أن يكون على رأس مؤسسة مثل الجيش. ولمن لم يفهم القصد، عليه العودة بتمعُن إلى “مبادرة” صالح، حيث يقول “يحق لرئيس المجلس الرئاسي ونوابه الترشح لرئاسة الدولة في أول انتخابات رئاسية” وبفضل هذه “اللُقية” يُصبح المؤقت دائما، بل ويستمدُ “شرعيته” من صندوق الاقتراع. بينما المعروف في القوانين الانتخابية عبر العالم، أن من يتولى سلطات انتقالية، إن كان رئيسا أم رئيس وزراء أم وزيرا، لا يحقُ له الترشيح لانتخابات هو الذي يُعدُ لها. واستطرادا فالهدف بيِنٌ من الخطاب و”المبادرة” وهو التمكين للواء حفتر، واستكمال السيطرة على طرابلس بواسطة انتخابات على المقاس، بعدما أخفق في إخضاعها عسكريا. ولهذا السبب أكد صالح في النقطة الرابعة من “مبادرته” أنه “لا يجوز بأي شكل من الأشكال المساس بالقوات المسلحة الوطنية الليبية (التي) تقوم بدورها لحماية هذا الوطن وأمنه” وبتعبير آخر سيبقى حفتر “قائدا عاما” في كافة مراحل الفترة الانتقالية، بما فيها الترشيح لرئاسة الجمهورية.

قلق روسي

والظاهر أن حلفاء حفتر، وخاصة الروس، يشعرون بوصول حرب طرابلس إلى طريق مسدود، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في العاصمة، نتيجة الحصار، لذلك استعجلوا تسمية ممثل خاص جديد للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا. فبعد إخفاق الوساطة الروسية لإقرار وقف لإطلاق النار، وجمع الطرفين حول مائدة واحدة، تحاول موسكو الآن الاعتماد على الأمم المتحدة، لحلحلة الأمور في اتجاه إقرار هدنة، تمهد لمعاودة الحوار السياسي. من هذا المنطلق طلب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف من الأمين العام، تسمية ممثل خاص جديد في أسرع وقت، ليحل محل اللبناني غسان سلامة. لكن اللافت أن لافروف شدد على أن يكون الممثل الخاص الجديد افريقيا. وزاد إيضاحا بالقول “يجب أن يكون من دولة افريقية تقع في نفس المنطقة مثل ليبيا”.

وتُعتبر هذه الإشارة الصريحة ردا على الموقف الأمريكي، الذي وضع فيتو على ترشيح الجزائري رمتان العمامرة لخلافة سلامة، واستطرادا على الموقف الأوروبي أيضا، الذي لزم الصمت إزاء الفيتو الأمريكي على العمامرة، والصمتُ علامة الرضا. كما يدل الموقف الروسي على أن موسكو تنظر بعين الرضا إلى الدور الذي لعبه الممثل الأممي السابق سلامة، إذ عزا رئيس الديبلوماسية الروسية أحد أسباب توقف عملية السلام الليبية واستئناف القتال، إلى استقالة الممثل الأممي السابق، الذي كان في مثابة إبرة الميزان في الصراع الليبي-الليبي، بحكم العلاقات المتينة التي ربطته بغالبية الفرقاء الليبيين.

والأكيد أن الروس يريدون وقف دوامة القتال في العاصمة طرابلس ومدن أخرى، لأن اتجاه الحرب بات يسير في خط ليس في صالح حليفهم، اللواء خليفة حفتر. وهم يُفضلون أن يهتم ببناء مكاسب تزيد من تعزيز وضعه العسكري الحالي، بدل السعي لتحصيل مكاسب جديدة، غير مضمونة التحقُق والديمومة، وخاصة بعد إجبار قواته على التحول من الوضع الهجوم إلى الدفاعي.

تراجعات تكتيكية؟

فمنذ دخول تركيا الحرب بقوة لدعم حكومة الوفاق، سجلت قوات حفتر تراجعات تكتيكية مهمة، خاصة في الساحل الغربي، بالرغم من الأعداد الكبيرة من مرتزقة شركة “فاغنر” الروسية، والخبراء والمدربين الروس، الذين دعموها. وفيما أكدت التقارير الأوروبية أن قوات حفتر فقدت السيطرة على عدة مدن غرب طرابلس، وهو ما اعترف به حفتر نفسه، في كلمة مُتلفزة الخميس الماضي، لا ينبغي اعتبار تلك التطورات أمرا نهائيا، إذ أن الحرب الدائرة في تخوم طرابلس الجنوبية، تمضي سجالا، حيث تنتقل القوات المتصارعة من الدفاع إلى الهجوم وبالعكس، منذ أكثر من سنة.

في هذا السياق يتساءل الباحث يوسف الشريف عما إذا كانت عودة روسيا إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (ومنها ليبيا)، تجسيدا لاستراتيجيا جديدة أم أنها ضربٌ من الانتهازية؟ الواضح أن روسيا، التي فقدت كثيرا من التسهيلات التي كانت تتمتع بها في موانئ البحر المتوسط قبل 2011 عادت واسترجعت بعضها في السنوات الأخيرة، وخاصة في بنغازي وطرطوس واللاذقية. وتزامنت تلك العودة مع استئناف النمو الاقتصادي في عهد فلاديمير بوتين وحاجة موسكو إلى أسواق لمنتجاتها في منطقة الشرق الأوسط وخارجها. والواضح أن روسيا تولي اهتماما كبيرا لتطور الأوضاع في ليبيا، وهو ما حملها على الانحياز إلى الطرف الذي تتوقع أن يكون أكثر انسجاما مع مصالحها، في الصراع الليبي. وانطلاقا من هذا التقدير لمستقبل الصراع، استقبلت اللواء حفتر مرات عدة في موسكو خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وأوشكت على تحقيق ما عجزت عن إنجازه فرنسا وإيطاليا، بالإعلان من موسكو، يوم 12 كانون الثاني/يناير الماضي، عن هدنة يوقع عليها كلٌ من حفتر وحكومة الوفاق الوطني، بالتنسيق مع تركيا. إلا أن حفتر غير رأيه في اللحظة الأخيرة، وطار من دون وضع بصمته على مشروع الاتفاق.

جماعات مسلحة

يتطلع الروس، كما الأوروبيين إلى اجتماع وزراء الخارجية والدفاع في بلدان منطقة الساحل والصحراء، المقرر ليوم غد، بمشاركة وزيري الخارجية والدفاع الفرنسيين، للبحث في تصاعد العنف في المنطقة، ومن ضمنه الوضع الأمني والعسكري في ليبيا. والأرجح أن الوزراء الافارقة، سيشتكون في الاجتماع، الذي سيتم بواسطة التحاور عن بعد، من ضآلة الامكانات التي سخرتها باريس لمحاربة الجماعات المسلحة، المنتشرة بكثافة في المنطقة. وسيُلقي الفرنسيون الكرة في ملعب الافريقيين، مؤكدين أنهم قاموا بما عليهم، مُستدلين بالترفيع من عدد القوات الفرنسية المرابطة في المنطقة من 4500 إلى 5100 جندي. وكان الرئيس الفرنسي وجه خطابا عتابيا قاسيا إلى الرؤساء الخمسة، في قمة دعاهم إليها في مدينة بو الفرنسية في بداية كانون الأول/ديسمبر الماضي.

وكانت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي كشفت أن قسما من تلك التعزيزات أدمج في قوات “مجموعة الخمسة” وهي قوة شكلتها كل من موريتانيا والنيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو، لمطاردة الجماعات المسلحة في المثلث الحدودي، وخاصة منها “تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى” وهو فرع محلي من فروع “داعش”.

وواجه الجيش الفرنسي فترات صعبة في إدارة الحرب في هذه المنطقة، حيث يتعامل مع الدول القائمة باعتبارها ما زالت مستعمرات فرنسية. وفي هذا السياق أعلن الرئيس الفرنسي ماكرون عن اعتماد “إطار جديد لمكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء”. ولما استدعى رؤساء الدول الخمس إلى “بو” هددهم بسحب قواته من المنطقة، مُعبرا عن غضبه الشديد من تنامي المشاعر المناهضة لفرنسا في بلدانهم. والأرجح أن اجتماع غد بمشاركة وزراء الدفاع والخارجية، سيُركز مناقشاته على الوضع في ليبيا وتداعياته الإقليمية، استنادا على القناعة السائدة في باريس، بأن مصدر عدم الاستقرار في المنطقة بأسرها، يتمثل في غياب الدولة من الجنوب الليبي.

ضربات موجعة

في أعقاب الحرب الأهلية التي مزقت ليبيا، وجدت الجماعات المسلحة ملجأ آمنا في الجنوب، المُتاخم للنيجر وتشاد. فبالرغم من الضربات الجوية، التي توجهها طائرات أمريكية من وقت إلى آخر، مستهدفة عناصر محددة، في إطار الحرب على الإرهاب، ما زالت الجماعات الإرهابية توجه ضربات موجعة إلى الجيوش المحلية، يفوق عدد ضحاياها أحيانا مئة قتيل في هجوم واحد. وعرفت تشاد والنيجر أخيرا كارثتين من هذا النوع، بينما تُعتبر القوات الفرنسية في مأمن نسبيا من العمليات الانتقامية المشابهة.

خمس جنسيات

لو أحصينا جنسيات القوات والميليشيات المتحاربة في ليبيا حاليا، لوجدنا ما يفوق خمس جنسيات، هي الفرنسية والروسية والتركية والتشادية والسودانية، فضلا عن عناصر سورية وتونسية تُقاتل مع هذا الفريق أو ذاك بمقابل. وعلى سبيل المثال يتقاضى المرتزقة الروس 850 دولارا في اليوم للفرد الواحد، وفي حال الوفاة تحصل أسرته على تعويض يعادل 1.5 مليون دولار (أسعار ما قبل جائحة كوفيد-19). وكان دخول الروس على خط المعارك في تخوم طرابلس، إلى جانب قوات حفتر، تسبب في اختلال ميزان القوى بين الطرفين المتحاربين. وشرح الصحافي ديفيد كيرباتريك في صحيفة “نيويورك تايمز” كيف أن التعرُف على بصمات القناصة الروس ليس صعبا، مشيرا إلى أن ضربات الرصاص في الرأس تؤدي إلى القتل الفوري، مع بقاء الجراح مفتوحة والأطراف مُهشمة في غالب الأحيان. وكان دخول مرتزقة “فاغنر” إلى الحلبة، بداية لتغيير نوعي في حرب طرابلس، وكان بعض المحللين يتوقعون أن “تسقط” العاصمة في غضون أيام. مع ذلك لم ينفع الروس في فتح أبواب طرابلس للواء حفتر، إذ أن حكومة الوفاق سارعت إلى إبرام مذكرة تفاهم للتعاون العسكري مع تركيا، أحدثت توازنا بين القوتين، لا بل أتاحت للقوات الموالية للحكومة تفوقا جويا بالأساس، عرقل تقدم القوات المهاجمة، قبل أن يُجبرها على الانسحاب من كامل الشريط الساحلي غرب طرابلس، وصولا إلى الحدود مع تونس.

من هنا فإن “الحل” الذي يقترحه حفتر، ويدافع عنه عقيلة صالح، بتشكيل مجلس رئاسي جديد، وإجراء انتخابات تُفضي إلى ترئيس حفتر، ليست سوى مناورة تعكس التخبط العسكري، بعدما تغيرت خطط قوات حفتر من الهجوم إلى الدفاع.

تعليقات