انقسامات أوروبا همشت دورها

رشيد خشانة  أسفر التصعيد المتبادل بين القائد العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ورئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج، عن تكريس استقطاب يمكن اختزاله في الثنائيتين التاليتين: روسيا-حفتر وتركيا-السراج. وأظهرت التطورات العسكرية الأخيرة شحوب الدور الأوروبي، واستمرار الانسحاب الأمريكي من الساحة الليبية، مع أن الهاجس الأول لواشنطن ما زال هو هو، أي قطع الطريق أمام الروس، الساعين لتحويل ليبيا إلى قاعدة لحضور عسكري دائم في جنوب المتوسط.

في هذا الإطار أتت تحركات موسكو، منذ وقت مبكر، لربط علاقة وطيدة مع الجنرال حفتر، من خلال زياراته المتكررة لموسكو، وفي ذهنها تدارك موقفها السلبي من إسقاط نظام الزعيم السابق معمر القذافي في 2011 عندما أحجمت عن استخدام حق النقض في مجلس الأمن، للجم اندفاع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، نحو الإطاحة بالقذافي، بأي ثمن.

صفقات عسكرية وتجارية

واعتبارا لضخامة الصفقات العسكرية والتجارية التي عقدتها موسكو مع القذافي، والتي ذهبت هباء منثورا بعد رحيله، راود الروس الأمل بالتعويض عنها من خلال دعم حفتر. وعلى هذا الأساس يُرجح إيغور دولانوي نائب رئيس “المرصد الروسي الفرنسي” أن الهدف الأول للكرملين، من خلال تدخله الحالي في ليبيا، يتمثل في استعادة وضعه الاقتصادي السابق. لكن هذا البعد المُهم ليس سوى محور من محاور الاستراتيجيا الروسية في شرق المتوسط وجنوبه، فهي تسعى أيضا إلى إحياء صفقات سلاح ضخمة مع ليبيا قبل 2011 والحصول على قاعدة عسكرية في طبرق أو أحد الموانئ الليبية الأخرى، كي تستعيد “أمجاد” الأسطول الروسي في المتوسط، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. إلا أن الخبير في الشؤون الليبية جان دومنيك مرشي، يعتقد أن التدخل التركي، في أواخر السنة الماضية، لمنع سقوط حكومة الوفاق وكسر الطوق عن ضواحي طرابلس الجنوبية، أحدث تغييرا مهما في الموازين العسكرية، أفشل هجوم قوات حفتر. وجعل هذا الاخفاق القادة العسكريين الموالين لحفتر يندمون لكونهم لم يُقرروا انسحابا تكتيكيا تفاديا لفشل الهجوم على طرابلس.

خبر غير سار

لم يكن استحواذ قوات حكومة الوفاق على قاعدة الوطية خبرا سارا للفرنسيين، الذين تضايقوا كثيرا من تنامي الدور الروسي في الصراع الليبي، قبل أن يصدمهم حجم الدعم التركي لحكومة الوفاق، على نحو قلب ميزان القوة العسكري لغير صالح حليفهم الجنرال حفتر. وحاول الفرنسيون إخفاء انحيازهم للجنرال، إلا أن الوقائع أماطت اللثام عن دورهم الحقيقي، فلدى استعادة قوات الوفاق قاعدة غريان (80 كلم عن طرابلس) في الربيع الماضي، عثرت على صواريخ فرنسية مضادة للدبابات من طراز “جافلان” خلفتها قوات حفتر. كما أن إسقاط مروحية فرنسية في بنغازي، كشف عن وجود ثلاثة ضباط مخابرات فرنسيين كانوا على متنها. وأثارت تبريرات وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي لوجود تلك الصواريخ في غريان، كثيرا من السخرية، إذ زعمت أنها أسلحة فاسدة تم تخزينها في انتظار تدميرها. وزاد منسوب الانحياز الفرنسي لأحد الطريفين المتصارعين، عندما استقبل الرئيس ماكرون الجنرال حفتر في قصر الإيليزيه يوم 9 آذار/مارس الماضي، كما لو كان رئيس ليبيا! أكثر من ذلك، لعبت فرنسا الدور الأكبر في مجلس الأمن، بالتنسيق مع غريمتها روسيا، لتعطيل إصدار أي قرار يُدين حملة حفتر العسكرية على طرابلس، وما سببته من موجات نزوح شملت أكثر من 400 ألف مواطن.

الأوروبيون خارج اللعبة؟

ويجوز القول إن الأخطاء التي ارتكبتها فرنسا في ليبيا ستجعلها، عمليا، خارج أي تسوية محتملة للنزاع. لكنها تسعى لتحسين موقعها بالتنسيق مع غريمتها السابقة إيطاليا. وسيكون هذا محور الاجتماع المقرر للأسبوع المقبل في روما بين وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ونظيره الإيطالي لويجي دي مايو. ويُعتبر وزير الخارجية الحالي (وزير الدفاع السابق) لودريان هو الماسك بالملف الليبي في الحكومة الفرنسية. غير أن فرنسا وجميع الدول الأوروبية فقدت الأوراق التي تتيح لها لعب دور فاعل في تسوية الأزمة الليبية، بعدما همَشها السباق المحموم بين القوتين المتحكمتين باللعبة: روسيا وتركيا. ربما تكون ألمانيا البلد الأوروبي الوحيد الذي قد يلعب دورا ما في تسوية سلمية محتملة، لأنه تفادى الانخراط في المناكفات بين المحاور. والأرجح أن ألمانيا ستدفع الطرفين إلى الجلوس مجددا إلى مائدة التفاوض في إطار مسار برلين واللجان المنبثقة منه.

تصدُع تحالف حفتر-صالح

وأهم تطور في هذا المجال هو التباعد بين حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح عيسى، الذي لم يتوان عن تقديم مبادرة سياسية مؤلفة من ثماني نقاط، يوم 23 نيسان/ابريل الماضي، تُعتبر تبايُنا واضحا مع موقف حفتر الذي لا يرى من حل للأزمة في ليبيا سوى الحل العسكري. ولم يكتف عقيلة صالح بإعلان مبادرته للحوار مع طرابلس، وإنما حرص على تأمين حزام اجتماعي لحمايته من بطش حفتر. وقد جمع ممثلي عدة قبائل من المنطقة الشرقية، بمن فيها قبيلة العبيدات التي ينتمي إليها، وقبيلة العواقير، وهما من القبائل الرئيسة في شرق ليبيا، لتحذير حفتر من إيذائه بعد إطلاق مبادرة النقاط الثماني. ويُدرك صالح أن ثمن الدعوة إلى الحوار مع طرابلس باهظ جدا، مثلما يدل على ذلك خطف النائبة سهام سرقيوة من بيتها في بنغازي، العام الماضي، على مرأى من أفراد أسرتها، لأنها دعت في تصريح لقناة “الحدث” التابعة لحفتر، إلى الحوار مع حكومة الوفاق.

بتعبير آخر ارتكب صالح إحدى “الكبائر” من منظور حفتر، بتقديم عرض لاستئناف الحوار المقطوع بين السلطتين الحاكمتين في الشرق والغرب، أيا يكن مضمون العرض. وفي هذا السياق أتى التحذير الذي وجهته قبيلة العبيدات لحفتر من المساس بصالح. غير أن الهزائم العسكرية التي مُني بها حفتر في غريان وصرمان وصبراتة، ثم في قاعدة الوطية، جعلته أضعف من أي وقت مضى، داخليا وخارجيا. واستطرادا لن تستطيع أياديه أن تصل إلى من يروم “معاقبتهم”. ويمكن القول إن صالح وجه رسالة جديدة إلى حفتر عندما استقبل كبار القادة العسكريين لما يُدعى “الجيش الوطني” بعنوان التهنئة بعيد الفطر، بينما لسان حاله يقول “ضُباطك معي”.

مبادرة أم مناورة؟

في الطرف المقابل لا يُعرف حتى الآن ما هو الرد الرسمي لحكومة الوفاق على مبادرة صالح، لكن يمكن رصد صنفين من ردود الفعل في طرابلس، الأول يمثله رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، الذي اعتبر أن ما طرحه صالح “مناورة سياسية وليس مبادرة” مُستندا على كونه لم يُشر إلى المجلس الأعلى للدولة، الذي يُعتبر “الشريك الأساسي في العملية السياسية”، ولا إلى الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات)”. في المقابل، هناك موقف آخر عبر عنه فائز السراج منذ البدء، ويتمثل بالدعوة إلى وضع جميع المبادرات على موائد الحوار، ولم يستثن أيا منها.

لكن الطريق ما زالت غير مُمهدة للحل السياسي، ففي المشهد الحالي تتفوق مؤشرات التصعيد على فرص التسوية السلمية، مع سيطرة حكومة الوفاق على مصرف ليبيا المركزي ومؤسسة النفط والاستثمارات الخارجية، فيما يتحكم حفتر بالحقول والموانئ النفطية، وهو وضع حمل مراقبين عدة على التحذير من خطر الانزلاق إلى تكريس التقسيم.

جنوح للتهدئة

وماذا عن موقفي روسيا وتركيا من الحل في ليبيا؟ من المؤكد أن المواجهة العسكرية بينهما غير واردة، بالرغم من وصول 14 طائرة روسية من طرازي “ميغ 29 أس” و”سوخوي 24″ إلى قاعدة الجفرة الجوية. وفي جميع الأحوال ستكونان بالتأكيد طرفا في أي حل سياسي. وأظهرت تطورات الحرب في سوريا أنهما تعرفان متى تُخففان من الاحتقان وتلجآن إلى تفاهمات تكتيكية. وتندرج في هذا الإطار المكالمة الأخيرة بين بوتين واردوغان يوم 19 من الشهر الجاري، إذ يشير الخبراء إلى أنهما يلجآن إلى مثل هذه الاتصالات المباشرة عندما يريدان وقف التصعيد أو تهدئة الخواطر. وبحكم أوضاع الروس الراهنة في سوريا فإنهم مضطرون لمراعاة تركيا في ليبيا، ولهذا السبب بدأوا بسحب مرتزقة “فاغنر” منها تدريجيا. ويعتقد الخبير إيغور دولانوي أن ليبيا، بالرغم من ثرواتها، أقل أهمية من سوريا في الموازين الاستراتيجية الروسية. ويُلاحظ دولانوي أن روسيا باتت أكثر حذرا في تعاطيها مع حفتر، خاصة أنه أفشل اللقاء الذي كان مقررا أن يجمعه والسراج، في موسكو مطلع العام الجاري، استباقا لمؤتمر برلين.

التزامات أطلسية

وساد منطق التهدئة بين تركيا وأمريكا أيضا، مثلما تجلى ذلك في المكالمة التي أجراها الرئيس ترامب مع نظيره التركي، وعبر خلالها، حسب ما صرح الناطق باسم البيت الأبيض، عن “قلقه إزاء تفاقم التدخل الأجنبي في ليبيا” مُشددا على “ضرورة التهدئة السريعة”. واتفقا حسب الناطق، على “مواصلة التعاون العسكري والسياسي في ليبيا”. ومع أن مقتضيات التضامن بين أمريكا وتركيا، العضوين في الحلف الأطلسي، تفرض مثل ذلك الموقف، فإن واشنطن لا يمكن إلا أن تنظر بعين الرضا إلى احتواء تركيا للتدخل الروسي المباشر في الصراع الليبي-الليبي.

يبقى الخاسر الأكبر في هذا المشهد هو المواطن، الذي لا يشعر بالأمان في ظل القصف المتكرر على الأحياء السكنية، ويواجه مشاكل انقطاعات الكهرباء والماء وارتفاع الأسعار. وأعطى رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط (قطاع عام) مصطفى صنع الله، صورة من تلك المعاناة، عندما أكد أن الناس في جنوب ليبيا، “عادوا إلى العصر الحجري، فهم يجمعون الحطب لأجل الطهي، بسبب عدم قدرة المؤسسة على إيصال الوقود إليهم، جراء المشاكل الأمنية”. وكشف صنع الله أن جنوب ليبيا “لم يتحصل على الوقود المطلوب ولا حتى على الغاز منذ قرابة 15 شهرا”. وهذه إحدى مفارقات المشهد الليبي، حيث لا يجد المواطن وقودا لتشغيل السيارة أو فرن المخبزة، بينما هو يجلس على أكبر احتياطي نفطي في افريقيا.

تعليقات