رشيد خشانة – بعد إخراج قوات خليفة حفتر، من قاعدة “الوطية” فتحت موسكو قنوات الحوار السياسي مع الطرف المنتصر، بعُنوانيه المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق الوطني.            من كان يتصور أن الحوار المقطوع بين طرابلس وموسكو منذ حصار قوات حفتر للعاصمة في الرابع من نيسان/أبريل العام الماضي، سيعود بهذه السرعة، ولا يقتصر على المسائل الراهنة، وإنما يتطرق أيضا إلى مستقبل المشاريع الاستثمارية والتجارية الروسية في ليبيا؟ من الواضح أن دفة الدبلوماسية الروسية تتحرك حيث توجد مصالحها، وبعد سلسلة الهزائم التي تكبدتها قوات حفتر، بالرغم من الأسلحة المتطورة التي اقتنتها من روسيا، بتمويل إماراتي، استقبلت موسكو نائب رئيس المجلس الرئاسي، أحمد معيتيق، والمفوض بوزارة الخارجية والتعاون الدولي في حكومة الوفاق الوطني، محمد طاهر سيالة.

ومن الواضح أنه لا يوجد لدى الروس اعتراضٌ مبدئي على التعاطي مع حكومة الوفاق، فحيث توجد مصالحهم تتحرك بوصلة دبلوماسيتهم. وقد تكون البوصلة متجهة حاليا إلى حكومة الوفاق، بعدما كانت موسكو تُعامل حفتر بوصفه الأقرب إليها، لأنه يمثل مشروع معاودة بناء الدولة العميقة، التي تهاوت بعد رحيل القذافي، والتي كانت من أفضل زبائن روسيا، عبر صفقات ضخمة، عسكرية ومدنية، ظلت غالبيتها عالقة إلى اليوم. ولأن الروس يعتقدون أنهم كانوا ضحية مقلب في العام 2011 لما أصدر مجلس الأمن القرار 1973 الذي شرَع التدخل العسكري في ليبيا، فإن سلوكهم في مجلس الأمن اليوم يتسم بالحذر الشديد والسعي إلى حسم الملف في أقرب وقت. ولهذا السبب انتقدوا الفيتو الأمريكي على تسمية وزير الخارجية الجزائري الأسبق رمطان العمامرة في مكان غسان سلامة، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة المستقيل. إلا أن السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، أكد في حديث سابق لـ”القدس العربي” أن سبب الاعتراض ليس شخصيا، وإنما يتعلق بـ”الحاجة إلى اتخاذ قرار بشأن بعض الإصلاحات الرئيسة، في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”.

فيتو آخر

انتقد الروس أيضا الفيتو الأمريكي الثاني على تعيين وزيرة خارجية غانا السابقة حنا تيتيه في هذا المنصب. وهذا هو الموقف الذي أبلغه لافروف لغوتيريش، في مكالمة مطولة بينهما الإثنين الماضي، حاضا إياه على التسريع بحسم ملف التعيين. أكثر من ذلك، كانت موسكو في مقدم المعترضين بشدة على ترشيح الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز لخلافة سلامة، وهو ما لم يغفره الأمريكيون للروس. وكان الأمين العام للأمم المتحدة عين في 11 آذار/مارس الماضي ويليامز، ممثلة خاصة بالوكالة ورئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

وهناك ثلاثة مؤشرات كبرى تدل على عمق المسافة التي باتت تفصل حفتر عن حُماته الروس (السابقين) أولها امتعاض موسكو من الأخطاء السياسية التي ارتكبها حفتر، وأبرزها إعلان نفسه بنفسه حاكما وحيدا لليبيا، وثاني المؤشرات تأييدُ موسكو العلني والرسمي لـ”مبادرة” رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لحل الأزمة الليبية، والمعروفة بمشروع النقاط الثماني، وهي الخطوة التي يعارضها حفتر بقوة، رافضا مبدأ الحوار مع “الوفاق”. أما المؤشر الثالث فهو تواتر الحديث، على ألسنة خبراء روس، من بينهم كبير المحاضرين في مدرسة الدراسات الشرقية، بموسكو، أندريه تشوبريغين، عن بداية تخلي موسكو عن حفتر.

باحثان مسجونان

مع ذلك تبقى هناك عقبة أمام فتح صفحة جديدة في العلاقات بين موسكو وحكومة الوفاق، تتمثل في استمرار سجن الباحثين الروسيين مكسيم شوغالي وسامر حسن سعيفان، في طرابلس، منذ حزيران/يونيو العام الماضي، بتهمة محاولة التأثير في نتائج الانتخابات الليبية.

ونشرت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكية، رسالة مختومة من مكتب المدعي العام بتاريخ 3 حزيران/يونيو 2019 جاء فيها أنه عُثر بحوزة المتهمين على أجهزة حاسوب محمولة وأقراص، أظهرت أنهما عملا لصالح شركة “فابريكا ترولي” المتخصصة في التأثير على نتائج الانتخابات، التي يُزمع إجراؤها في عدة بلدان أفريقية، من بينها ليبيا. كما يبدو أنهما سعيا إلى تأمين لقاء مع سيف الإسلام القذافي في هذا الإطار.

وأثار لافروف أوضاع هذين المعتقلين الروسيين، في اجتماعه مع المسؤولين في “الوفاق” معيتيق وسيالة، مُطالبا بالإفراج “السريع وغير المشروط” عنهما، ومُبرئا إياهما من خرق القوانين المحلية. ويدلُ تصريحُ معيتيق، الذي أكد فيه أن النائب العام الليبي “سيصدر بيانا قريبا بشأن قضية المعتقلين الروسيين في طرابلس” على أن ترتيبا ما يتم طبخُه للإفراج عنهما. والأكيد هنا أن عين موسكو على صفقات إعادة الإعمار، من خلال تقاربها مع حكومة “الوفاق” إذ أكد لافروف، لدى استقباله معيتيق وسيالة “استعداد الشركات الروسية لاستئناف أنشطتها في ليبيا، بعد تطبيع الوضع العسكري”. وبتعبير آخر فإن الروس، كما الأتراك، يتطلعون منذ الآن إلى ما بعد إنهاء الصراع العسكري للفوز بصفقات البناء وإعادة الإعمار.

غموض وانسحاب

على الطرف الآخر (الأمريكي) لا ريب لدى الخبراء الاستراتيجيين في أن انزعاج واشنطن الشديد من تنامي الدور الروسي في ليبيا، يدل على تحوُل في تعاطي الأمريكيين مع هذا الملف، والذي اتسم بالغموض بعد انسحابهم من المسرح الليبي، في أعقاب اغتيال سفيرهم كريس ستيفنز في مدينة بنغازي، عام 2012. ولوحظ أن انتقادهم للتدخل الروسي في ليبيا أشد بكثير من نقدهم للدور التركي، إذ قال السفير نورلاند في مؤتمر صحافي الخميس الماضي “عندما نتحدث عن تركيا، علينا أن نتذكر أن التصعيد الحقيقي في هذا الصراع بدأ بتدخل قوات فاغنر من روسيا، في تشرين الأول/اكتوبر، وكان التدخل التركي رداً على ذلك. والآن بعد أن تمت تسوية للأوضاع على الأرض تقريبًا، فإن رسالتنا هي أن التدخل الأجنبي يجب أن يتوقف، ويجب تخفيف التصعيد، وأن يُسمح للأطراف الليبية بالحضور إلى مائدة المفاوضات”.

أما روسيًا فالأُرجح أن استمرار ميلان ميزان القوى العسكري لصالح الوفاق، سيدفعها إلى تكثيف الاتصالات مع المجلس الرئاسي وحكومة السراج، لا سيما بعد سيطرة القوات التابعة لهما على طرابلس الكبرى، في أعقاب استعادة مطار طرابلس الدولي ومنطقتي وادي الربيع وعين زارة، وأجزاء من منطقة قصر بن غشير، وصولا إلى تحرير ترهونة، آخر قلاع قوات حفتر في المنطقة الغربية.

وستكون استراتيجيا حفتر دفاعية بالأساس في المرحلة المقبلة، لتفادي سقوط مزيد من المدن في أيدي خصومه، مع محاولة استعادة مدينة غريان الاستراتيجية، كبرى مدن الجبل الغربي. ويدل سحب مرتزقة فاغنر من المنطقة الغربية على هذا المنحى الدفاعي، فيما ستكون استراتيجيا “الوفاق” هجومية للاستفادة من التفوق الذي حققته بفضل الدعم التركي. وفي هذا الإطار تندرج زيارة فائز السراج إلى تركيا ولقاؤه مع اردوغان، ليس فقط لتقديم الشكر على إنقاذ طرابلس من السقوط في أيدي قوات حفتر، وإنما أيضا لرسم معالم المرحلة المقبلة من التعاون التركي الليبي في شرق المتوسط. وإذا ما أسفرت المعارك المستمرة حاليا عن العودة إلى خطوط 4 نيسان/ابريل 2019 أي انطلاق هجوم حفتر على طرابلس، فلا ينبغي استبعاد خطر التقسيم، لأن من الصعوبة بمكان تجسير الفجوة بين المتحكمين في الشرق والحاكمين في الغرب.

أوروبا … المستضعفة

وجدت أوروبا نفسها، تقف موضوعيا إلى جانب روسيا، في مواجهة أمريكا في هذا الملف. وبدأت فرنسا الغريمة التاريخية لإيطاليا في ليبيا، تبني الجسور مع روما، واستطرادا مع برلين، لمحاولة التأثير في المسار الليبي. ونلحظ أن الأوروبيين يشعرون بالقهر، بسبب الغطرسة الأمريكية في مجلس الأمن وخارجه. وعبرت عن ذلك ألمانيا، التي ترأس مجلس الأمن خلال الشهر الجاري، وفرنسا التي سيأتي دورها الشهر المقبل، إذ انتقد السفيران الفرنسي والألماني لدى الأمم المتحدة، في خطوة مشتركة، عجز مجلس الأمن عن تسمية العمامرة أو الوزيرة الغانية السابقة حنا تيتيه، في منصب رئيس البعثة الأممية في ليبيا.

ويستند الأمريكيون لتبرير تعطيلهم عملية خلافة غسان سلامة على رأس البعثة الأممية، على تعلة إدخال “إصلاحات هيكلية” عليها. وتتمثل تلك “الإصلاحات” بتقسيم البعثة لتصبح برأسين: الوسيط الأممي من ناحية ورئيس البعثة من ناحية ثانية، ما سيفُتُ من عضدها ويُقلل من وزنها لدى الفرقاء. مع ذلك قد تُعطي موافقة طرفي النزاع على استئناف مسار برلين، وبالتحديد مفاوضات اللجنة العسكرية (5 + 5) بصيص أمل، بعد التصعيد الذي شهدته محاور القتال في أواخر نيسان/ابريل الماضي، على خلفية إعلان حفتر توليه مقاليد الأمور في البلد. ويجدر التذكير هنا بأن من بين الخطوات التي تم التوصل إليها بشكل مبدئي في إطار اللجنة العسكرية 5+5 في 23 شباط/فبراير الماضي، سحب جميع المرتزقة الأجانب من ليبيا، في غضون ثلاثة أشهر، لكن لا أحد التزم بهذا الاتفاق. ويشهد السفير الأمريكي لدى ليبيا أن “الجيش الوطني الليبي” (قوات حفتر) أدار حملة لإبراز ما اعتبره بعض القضايا الجوهرية الخطرة، وهي تحديدا ثلاث: “الميليشيات وتوزيع الأموال في جميع أنحاء البلد (بين المنطقتين الغربية والشرقية) والإخوان المسلمون” لكن يُضيف السفير “عندما تم بذل جهود لإجراء محادثات جادة حول هذه القضايا، رفض الجيش الوطني الليبي ذلك في كل مرة، للأسف” حسب ما قال نورلاند في مؤتمر صحافي الخميس الماضي.

قطف الثمار

تبقى تركيا التي عززت مواقعها في ليبيا بمستوى غير مسبوق، والأرجح أنها ستركز على هدفين في المرحلة المقبلة، الأول هو مواصلة إضعاف قوات حفتر وبعثرة صفوفها، كي لا تتمكن من استعادة المناطق والمدن التي أخرجت منها بالقوة، والهدف الثاني هو الانطلاق نحو قطف ثمار دعمها لقوات “الوفاق” بإنفاذ مذكرة التفاهم البحرية، الموقعة أواخر العام الماضي، بين الحكومتين، والخاصة بالتفتيش عن النفط والغاز في شرق المتوسط. وقد تقدمت تركيا بطلب رسمي للسراج في هذا المعنى، خلال زيارته أنقرة الخميس. وسيكون التجاوب الليبي مع الطلب التركي مثارا لردود غاضبة من الأوروبيين والروس والأمريكيين على السواء. يُضاف إلى ذلك أن حكومة الوفاق ستسعى في الفترة المقبلة لتخليص الحقول والموانئ النفطية من قبضة حفتر، لأن إغلاق قطاع النفط، المورد الرئيسي للدولة، يحرم الاقتصاد الليبي من أزيد من 5 مليارات دولار من الإيرادات ويصيب الدولة بالاختناق.

 

 

 

تعليقات