رشيد خشانــة – حذر السياسي الإيطالي اليميني أنطونيو تاياني من “فقدان أوروبا” جراء الخلافات المستحكمة بين القوى الكبرى الأوروبية في شأن التعاطي مع الملف الليبي. وما قصده تاياني، وهو نائب رئيس حزب “فورزا إيطاليا” (إيطاليا إلى الأمام) هو هزال الدور الأوروبي في توجيه مسار الأحداث في ليبيا، طيلة السنوات الأخيرة، بخلاف روسيا وتركيا، اللتين استفادتا من الخلافات الأوروبية لوضع أقدام ثابتة في بلد زاخر بالثروات. وبات من الواضح اليوم أن الخصومات بين القوى الرئيسية الأوروبية، جعلتها عاجزة عن الفعل، إن في إطار الاتحاد الأوروبي أو كدول منفردة. وشكلت محاولات فرنسا الفاشلة جمع الغريمين فائز السراج وخليفة حفتر في باريس، ومحاولة إيطاليا رعاية مصالحة بينهما في مؤتمر باليرمو، آخر محاولات الأوروبيين التأثير في الصراع، قبل أن يُحالوا على هامش القرار.

وحدها ألمانيا سعت إلى لملمة الموقف الأوروبي، بالرغم من المعارضات الشديدة، فقامت بمحاولة في الوقت بدل الضائع للإمساك بالملف الليبي، عن طريق مؤتمر برلين ومخرجاته، أملا بإنقاذ الدور الأوروبي من مصيره المحتوم. غير أن القطار فات الألمان، بعدما باتت اللعبة حصريا بين أيدي قوتين غير أوروبيتين هما روسيا وتركيا، وهو ما لم ينتبه إليه الزعيم الإيطالي تاياني على ما يبدو. وفي النتيجة أضاعت المناكفات العلنية الشديدة بين فرنسا وإيطاليا، على الاثنتين، فرصة لعب دور في الصف الأول، على الرغم من الموقع المتقدم الذي تتبوأه شركاتهما في ليبيا، وخاصة مجموعتا “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية. وما زال الفرنسيون مرعوبين بشكل خاص، من سيناريو اقتراب قوات حكومة الوفاق، المدعومة من تركيا، من منطقة الهلال النفطي، وإحكام قبضتها على حوض خليج سرت ومن ثم على قاعدة الجفرة.

مسؤولية لودريان

ويشعر المرء من خلال قراءة ردود الفعل الفرنسية على تعاظم الدورين الروسي والتركي في ليبيا، أن الفرنسيين استسلموا للغضب، الذي يُخفي العجز وقلة الحيلة، بينما ارتفعت أصوات أخرى في باريس لتُحمل المسؤولية لوزير الخارجية جان إيف لودريان، الذي صاغ السياسة الفرنسية حيال ليبيا، منذ أن كان وزيرا للدفاع في عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند. وقد سايره الرئيس الحالي ماكرون في تلك السياسة الحولاء، واضعا كل أوراق فرنسا، عمليا، في سلة خليفة حفتر. وعندما مُني الأخير بهزائم مُدوية في جنوب طرابلس والوطية وترهونة، سارع الفرنسيون إلى محاولة فرض وقف إطلاق النار، بالتنسيق مع مصر، بُغية تخفيف الضغط على القوات المنسحبة، ومنحها فرصة لالتقاط الأنفاس. لا بل تزعمت باريس حملة أوروبية واسعة لإدانة الدور التركي في ليبيا، من دون أن تتعرض لدورها السلبي، الذي ساهم في إيصال ليبيا إلى ما وصلت إليه. أكثر من ذلك، أطلق الفرنسيون مصطلح “السَرينة” في توصيفهم للوضع الراهن في ليبيا، لتخويف الأوروبيين من مآل كارثي للصراع في هذا البلد، يمكن أن يقود إلى حالة سورية. واستخدموا طورا آخر ذريعة مطاردة الميليشيات التشادية والسودانية في جنوب ليبيا لتبرير دعمهم القوي لحفتر. كما لوحظ أن الفرنسيين يغمزون من قناة حكومة الوفاق الوطني، لتحذير الأوروبيين من احتمالات استخدام ورقة الهجرة غير النظامية، انطلاقا من السواحل الليبية، للضغط على أوروبا.

وفي السياق حذر الفرنسيون شركاءهم في الحلف الأطلسي من إقدام تركيا على إقامة قواعد عسكرية في ليبيا، واعتبروا ذلك تهديدا لمصالح فرنسا الاستراتيجية، مع أنها ليست بلدا مُطلا على الحوض الشرقي للمتوسط. أما الأمريكيون فالظاهر أنهم قلقون من الوجود الروسي المكثف في ليبيا أكثر من قلقهم من الحضور التركي. وأبدت كل من بريطانيا وألمانيا وبلجيكا تحفظاتها، في إطار الحلف الأطلسي، على فتح جبهة صراع مع تركيا، ما زاد من إضعاف الموقف الفرنسي.

أما روسيا فاستثمرت الفراغ الأمني في ليبيا، مثلما فعلت في سوريا، ودخلت بقوة إلى الحلبة، مع ظهور قوات المرتزقة الروس في المنطقة الشرقية، للمرة الأولى، في أيلول/سبتمبر الماضي. وحذر آنذاك سودارسان راغفان، مراسل صحيفة “واشنطن بوست” من أن وصول قوات المرتزقة الروس إلى جبهة القتال غيَر مجرى الحرب، بفضل خبرتها القتالية وأسلحتها المتقدمة، مُنبها إلى خطر اندلاع حرب إقليمية “تدور حول الجغرافيا والأيديولوجيا والنفط واحتياطات الغاز الطبيعي”.

خدعة أطلسية

وهكذا استطاعت روسيا، بخلاف فرنسا، أن تحجز لها مكانا في تقرير مستقبل ليبيا، بالرغم من هزيمة حليفها (السابق؟) حفتر. وأظهرت غضبها من هذا الأخير، حين استقبلت في موسكو رئيس برلمان شرق ليبيا عقيلة صالح عيسى، في حركة تشي بالتخلي عن الجنرال المتقاعد، وهي تقترب في هذا الموقف من الموقف التركي، الذي يرفض الحوار مع حفتر مطلقا. وبتعبير آخر فإن موسكو ترمي إلى استعادة دورها في ليبيا قبل حرب 2011 مُعتبرة أن دول حلف شمال الأطلسي خدعتها لدى إصدار القرار الذي أباح لها الإطاحة بنظام معمر القذافي، من دون أن تستخدم موسكو حق النقض لإبطال القرار. وبناء على ذلك الموقف عاود الروس صياغة استراتيجيتهم في ليبيا، والتي تعتمد على محورين كبيرين، الأول عسكري ويتمثل في السعي لإقامة قاعدة دائمة في شرق ليبيا، ربما تكون في طبرق. ويأمل الروس بتعزيز وجودهم العسكري في البحر المتوسط، لاستعادة أمجاد الأسطول السوفييتي، بعدما وضعوا قدما ثابتة في سوريا، وخاصة في قاعدتي حميميم الجوية وطرطوس البحرية.

وبفضل دعمهم لحفتر استطاعوا تأمين حضور عسكري دائم في شرق ليبيا، إذ أفادت القيادة الأمريكية لأفريقيا “أفريكوم” أن 14 طائرة حربية من طراز ميغ 29 وعدة طائرات من طراز سوخوي 24 نُقلت إلى ليبيا عبر سوريا، بعد طلائها لإخفاء هويتها. ورصد الأمريكيون بعض تلك الطائرات تُقلع من مطار الجفرة وسط ليبيا وتحلق قرب مدينة سرت.

معركة إعادة الاعمار

وفي الإطار نفسه يسعى الروس إلى إحياء صفقات سلاح ضخمة توصلوا إلى عقدها مع النظام السابق، لكن اندلاع انتفاضة 2011 حال دون تفعيلها. أما الهدف الاستراتيجي الثاني لموسكو فهو الفوز بأكبر عدد ممكن من صفقات إعادة الإعمار سواء في المجمعات الإدارية والسكنية أم في المطارات والموانئ، التي تضررت جراء الحرب. وعلى هذا الأساس يُرجح إيغور دولانوي نائب رئيس “المرصد الروسي الفرنسي” أن الهدف الأول للكرملين، من خلال تدخله الحالي في ليبيا، يتمثل في استعادة وضعه الاقتصادي السابق. وذهب بعض المعلقين الساخرين إلى حد القول إن لدى موسكو مصلحة في إقدام قوات “فاغنر” على تدمير أكبر عدد من المنشآت في ليبيا، للفوز بصفقات إعمارها لاحقا.

مذكرتا تفاهم

أما الأتراك فحرصوا على طرق الحديد قبل أن يبرد، إذ أرسلوا وفدا رفيع المستوى إلى طرابلس، برئاسة وزير الخارجية وعضوية وزير الخزينة والمالية ورئيس المخابرات، إضافة إلى عدد من كبار المسؤولين في الرئاسة والحكومة التركيتين. وحسب مصادر تركية، تركزت محادثات الوفد مع رئيس حكومة الوفاق فائز السراج على محورين رئيسين أولهما عودة الشركات التركية إلى ليبيا، وثانيهما بحث المسائل العملية المتعلقة بتنفيذ مذكرتي التفاهم العسكرية والأمنية التركية مع حكومة الوفاق، الموقعتين في تشرين الثاني/نوفمبر 2019. وكانت المقاولات والشركات التجارية التركية حازت على قسم كبير من مشاريع الاستثمار في البنية الأساسية والمطارات والمنشآت النفطية والجسور والمستشفيات والفنادق والمجمعات السكنية ومحطات توليد الكهرباء، على عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، وهي مشاريع سبقت وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في أنقرة العام 2002. ومن أولى الأوراق التي ستضعها تركيا على مائدة التفاوض، دعما لحكومة الوفاق، معاودة فتح الحقول والموانئ النفطية الليبية، التي توجد غالبيتها في اقليمي برقة (شرق) وفزان (جنوب) تحت سيطرة قوات حفتر منذ العام الماضي. ويتسبب استمرار إقفالها بعجز متفاقم للخزانة الليبية.

معارضة شديدة

لا تقلُ أهمية عن ذلك، رغبةُ أنقرة بالاقتراب أكثر فأكثر من موارد الطاقة قبالة السواحل الليبية، حيث ستنطلق مجموعات تركية في أعمال التفتيش عن النفط والغاز، في غضون أربعة شهور، تنفيذا لمذكرة التفاهم الخاصة بتوسعة الجرف القاري بين ليبيا وتركيا. كما تعتزم تركيا إنشاء محطتين كبيرتين لإنتاج الطاقة الكهربائية في ليبيا. وتقدمت شركات تركية بطلبات للحصول على إجازات تفتيش في سبع مناطق ليبية. ويُتوقع انطلاق الأعمال في أعقاب انتهاء مؤسسة النفط التركية من تحليل البيانات. ويُثير هذا التطور معارضة شديدة من اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، التي تحظى بالتعاطف من بعض الأمريكيين، أسوة بالجنرال المتقاعد توماس تراسك، الذي رأى في ذلك “تشجيعا لدبلوماسية التهديد من خلال تلبية مطالب أنقرة، حتى لو كانت غير مشروعة” فيما وصف بعض المحللين ما يجري حاليا في ليبيا بتقاسم كعكة بين الروس والأتراك، شبيه باتفاق أستانة الخاص بسوريا.

بالمقابل يرى كثير من الليبيين، خصوصا في المنطقة الغربية، أنه لا يجوز التعاطي مع الروس والأتراك على قدم المساواة، والتغاضي عن 360 عاما من التاريخ المشترك مع العثمانيين، الذين استنجد الليبيون بأسطولهم الحربي لتحرير طرابلس من قوات “فرسان مالطا” العام 1551.

 

تعليقات