رشيد خشانة –  ليس من عادة وزراء الخارجية اليونانيين أن يأخذوا حقائب السفر، ويتجولوا في بلدان الجوار. لكن الوزير الحالي نيكوس دندياس تأبط ملف الخلافات مع تركيا وزار تونس ليبحث هناك “سبل حل الأزمة الليبية” حسب بيان رسمي، قبل أن يطير إلى قاعدة “|الرجمة” (شرق ليبيا) للاجتماع مع الجنرال حفتر ومناقشة “التدخل التركي في ليبيا”. أتت هذه الجولة على خلفية انزعاج اليونانيين من مذكرة التفاهم الخاصة بإعادة ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا، والتي “قضمت” من الجرف القاري اليوناني والقبرصي، بالإضافة إلى العداء التاريخي بين تركيا واليونان، الغريمين اللدودين في منظمة حلف شمال الأطلسي. ويشكو اليونانيون من أن حلفاءهم الأوروبيين لا يبدون حماسة للدفاع عنهم، عدا فرنسا التي تغرد خارج السرب الأوروبي وتقاطع اجتماعات الحلف الأطلسي، غضبا مما تعتبره خذلانا لها في خصومتها مع تركيا.

تعبئة هنا وهناك

لن يكون لليونانيين قولٌ في مآلات الصراع الاقليمي على ليبيا، فاللعبة باتت مُقتصرة على ثلاث قوى هي روسيا وتركيا، وبدرجة أقل أمريكا، التي اختارت الانسحاب من الشرق الأوسط. ويشجع الأمريكيون تركيا على مواجهة التمدد الروسي في ليبيا، لكنهم لا يريدون تكرار السيناريو العراقي، لذلك انسحبوا من الساحة الليبية منذ العام 2012. والأرجح أن حكومة الوفاق، مدعومة من تركيا، ستمضي في المعركة من أجل استعادة سرت (450 كلم شرق طرابلس) وقاعدة الجفرة. وهذا ما قاله رئيس حكومة الوفاق بشكل صريح لأمين عام الأمم المتحدة غوتيريش، في مكالمة بينهما الأربعاء. في المقابل ما فتئت قوات حفتر تقوم بالتعبئة استعدادا لمعركة حاسمة، من أجل منع “سقوط” سرت والجفرة بأيدي حكومة “الوفاق”.

وعلى الرغم من أن قوى إقليمية ودولية حذرت حكومة “الوفاق” من محاولة استعادة السيطرة عليهما، لا يُستبعدُ أن تستفيد الأخيرة من ضعف حفتر للتقدم نحو هدفها، خاصة بعد إدانة غوتيريش للمجازر التي لمَح إلى أن قوات حفتر هي المسؤولة عن ارتكابها في ترهونة (90 كم جنوب شرق طرابلس) قبل الانسحاب منها. أكثر من ذلك، ستتكثف الضغوط على حفتر، بعدما قرر مجلس حقوق الإنسان الأممي، الشهر الماضي، تشكيل لجنة دولية لـ”تقصي الحقائق” في كافة أنحاء ليبيا، منذ مطلع 2016.

معركة الحقول النفطية

إلى جانب المعركة المتوقعة في سرت، تصارع حكومة “الوفاق” على واجهة أخرى، تتمثل بالعمل على فتح الحقول والموانئ النفطية الرئيسة، المُقفلة بالقوة منذ مطلع العام الجاري، ما سبب لها خسائر تزيد عن 6 مليارات دولار. وجرت اتصالات واجتماعات على مدى الأسبوعين الماضيين للبحث في ترتيبات معاودة فتح الحقول والموانئ النفطية. ولعب وزيرا الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان والإيطالي لويدجي دي مايو، بالرغم من خلافاتهما العميقة، دورا محوريا في التهيئة لقرار استئناف إنتاج النفط وتصديره، إذ اجتمعا مرتين في باريس لبحث هذا الموضوع. ويُعزى قلق الفرنسيين والطليان إلى الخسائر التي تكبدتها مجموعتاهُما النفطيتان “توتال” و”إيني” طيلة الأشهر الماضية. ويمكن القول إن فرنسا وإيطاليا فقدتا الأدوار التي كانتا تلعبانها في ليبيا، بعد الاختراقين الروسي والتركي، فقد أفضت التطورات العسكرية الأخيرة إلى تغيير علاقة القوة بين الغريمين الليبيين، حكومة الوفاق والجنرال المتقاعد حفتر، لكنها أعادت، في الوقت نفسه، تشكيل التحالفات في شرق المتوسط، بفرض تركيا دورها كلاعب أساسي في مواجهة روسيا.

عثرات ألمانية

لا بل إن الاتحاد الأوروبي برمته بات لاعبا صغيرا لا يُعتدُ بمواقفه، لسببن أولهما أنه غير موجود على الميدان، وثانيهما تباعد مواقف أعضائه من الأزمة الليبية. وتحاول ألمانيا، التي تسلمت رئاسة الاتحاد مطلع الشهر الجاري، أن تمنح أوروبا دورا من خلال تفعيل اللجان الثلاث المنبثقة من مؤتمر برلين، إلا أن هذا الجهد مازال متعثرا بسبب عدم اتفاق الأوروبيين على الأولوية التي يمكن أن يحظى بها الملف الليبي. وحسب الخبيرة كريستين شاتينو تتلخص أولويات الرئاسة الألمانية، التي تستمر ستة أشهر فقط، بخمس أولويات ليس بينها الملف الليبي، أهمها خطة الانعاش الأوروبية بعد جائحة “كوفيد-19” والموازنة الاتحادية والمفاوضات مع بريطانيا لتفادي طلاق قاس، “أما باقي الملفات فيمكن إرجاؤها بالنظر لضغوط الأزمة الاقتصادية” مثلما توقعت شاتينو.

وكانت الرسالة الثلاثية التي توجهت بها كل من المستشارة الألمانية ميركل والرئيسان الفرنسي ماكرون والإيطالي كونتي للمطالبة بوقف التدخلات الخارجية في ليبيا، اختبارا للصدى الخافت للصوت الأوروبي، وسط أزيز الطائرات ودوي المدافع والراجمات. مع ذلك شارك الإيطاليون والفرنسيون إلى جانب الأمم المتحدة وأمريكا، في المفاوضات الرامية لمعاودة فتح الحقول والموانئ النفطية. أما حفتر فاستخدم في المفاوضات واجهة أطلق عليها، منذ بدء العام الجاري، اسم “حراك المدن والقبائل الليبية” مُبررا وقف الانتاج والتصدير بـ”الحؤول دون وقوع إيرادات النفط والغاز بأيدي الميليشيات” في إشارة إلى حكومة السراج.

الصراع على إيرادات النفط

واتهم حفتر “الوفاق” أيضا باستخدام عوائد بيع النفط لصرف رواتب المقاتلين الأجانب، فيما أعلنت المؤسسة الوطنية للنفط (مقرها في طرابلس) الإثنين الماضي، بشكل رسمي، عن وجود مفاوضات جرت على مدى الأسابيع القليلة الماضية، مع كل من حكومة الوفاق والأمم المتحدة والولايات المتحدة و”دول إقليمية” لم تُسمها، لاستئناف إنتاج النفط وتصديره. والظاهر أن أحد الحلول التي طرحت في المفاوضات تتمثل، حسب ما أوردت صحيفة “ذا غارديان” البريطانية، بتوزيع إيرادات النفط على ثلاثة بنوك تمثل المناطق الليبية المختلفة، أي الغرب (طرابلس) وبرقة (بنغازي) وفزان (جنوب) أو وضعها في حسابات بالخارج لا تسيطر عليها حكومة “الوفاق”. واستطرادا لن تُرسل عائدات النفط إلى مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، حسب هذه الصيغة، أسوة بما كان عليه الوضع قبل إقفال الحقول والموانئ النفطية.

غير أن حكومة “الوفاق” رفضت بشدة هذا الحل مُعتبرة إياه تنازلا عن السيادة الليبية وتكريسا لتقسيم البلد إلى دويلات. واتخذ رئيس مؤسسة النفط الليبية مصطفى صنع الله الموقف ذاته رافضا إخراج النفط من مظلة السيادة الليبية. وأكد السراج في مكالمته الأخيرة مع الأمين العام للأمم المتحدة أن حكومته “لن تسمح لمجموعات المرتزقة الإرهابيين (قوات حفتر) بالسيطرة على موارد النفط والتحكم بثروات ليبيا” مُبرزا أن إعادة فتح المنشآت النفطية “هدفٌ لا تنازل عنه”. والمُلاحظ أن هذا الموقف من الكيانات المسلحة الخارجة عن سلطة الدولة، يتماهى مع الموقف الأمريكي، الذي عبر عنه وفد أمني رفيع المستوى زار كلا من طرابلس والرجمة أخيرا.

ماذا نصنع بالميليشيات؟

ودارت المحادثات طبقا لما جاء في بيان بثته الخارجية الأمريكية الخميس الماضي حول دور الميليشيات المسلحة و”ضرورة معالجة القضايا المتعلقة بها في جميع أنحاء ليبيا” مع تأكيد الجانب الأمريكي أن الجماعات المسلحة “التي تحاول إفساد العملية السياسية أو الانخراط في أعمال مزعزعة للاستقرار يجب ألا يتم التسامح معها”. أكثر من ذلك انتقد الأمريكيون علاقة قوات حفتر بمرتزقة شركة “فاغنر” الروسية، مؤكدين أن تلك العلاقة معطوفة على مواصلة عرقلة إنتاج النفط، “تتعارضان مع المصالح الأمريكية والليبية، وتقوضان السيادة الليبية، وتؤججان النزاع القائم”. والظاهر أن الأمريكيين يدفعون الفريقين الليبيين إلى وضع ملف الميليشيات هنا وهناك على مائدة الحوار، في محادثات 5+5 المنبثقة من مسار برلين، بُغية التخلص من تلك الكيانات تدريجيا، إما بحلها أو بإدماج عناصر منها في الجيش النظامي الليبي، في إطار الحل الشامل.

وقبل ذلك يُصرُ الأمريكيون على طرد المقاتلين الأجانب من الأراضي الليبية أيا كانت جنسياتهم، مع تركيز خاص على مرتزقة “فاغنر”. ويعتقد خبراء عسكريون ليبيون أن بعض تلك الكيانات شبه العسكرية، التي لم تتورط عناصرها في جرائم حرب يمكن إدماجها في جيش وطني يتم الاتفاق على آليات تشكيله. ورأى الأدميرال بشير الصفصاف، القائد السابق للبحرية الليبية، أن هناك مجموعتين في المنطقة الغربية تعتبران شبيهتين بجيش، هما “البنيان المرصوص” الذي استطاع أن يقضي على “الدواعش” في سرت، ويجتثها من جذورها، بدعم من القيادة الأمريكية في أفريقيا (المعروفة بـ”أفريكوم”)، على صعيد الاستطلاع والمعلومات والطيران. وقال إن “البنيان المرصوص” “دفع ثمنا باهظا وصل إلى 740 شهيدا وحوالي ألفي جريح”. وأضاف الصفصاف لـ”القدس العربي” أن القوة الثانية هي “قوة مكافحة الارهاب”، التي قال إنها “منظمة جدا ومدرَبة تدريبا عاليا، بالتعاون مع الأمريكيين، بقيادة اللواء محمد الزين (ينحدر من مصراتة)”.

موسكو تُراهن على صالح؟

في المقابل تسعى موسكو إلى التكيُف مع التطورات العسكرية الأخيرة بتغيير أوراق اللعب، والاشتغال على شخصية عقيلة صالح، الذي يحظى في نظرها بشقفة من الشرعية، بوصفه رئيسا لبرلمان الشرق، وإن كان مجلسا منتهي الصلاحية. وتأكد من خلال استقبال موسكو صالحا من دون حفتر، أن الروس نفضوا أيديهم من هذا الأخير. ويُرجح أن الزيارة كانت إطارا لإرساء شراكة جديدة، خلال الاجتماعات مع كل من وزير الخارجية سيرغي لافروف ونائبه لشؤون الشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف. وكان نائب رئيس مجلس النواب احميد حومة مهد لهذه الزيارة خلال اجتماعات عقدها مع مسؤولين روس في 16 من الشهر الماضي. كما يُرجح أن موسكو تعهدت بدعم قوات الشرق عسكريا ودبلوماسيا متى ما اندلعت معركة سرت مع قوات حكومة “الوفاق”.

أما فرنسا فخرجت من المولد بلا حمص، مثلما يقول المثل، إذ أن صولات الغضب، التي انتابت الرئيس ماكرون، على إثر انهزام قوات حفتر، لم تُحرك سواكن باقي أعضاء الاتحاد الأوروبي، الذين رفضوا مسايرة الرئيس الفرنسي في حملته على تركيا. وقاد تشنج ماكرون، الرافض للاعتراف بالحسابات الخاطئة في ليبيا، إلى أزمات فرعية حتى مع الحلف الأطلسي. ويُلمح خبراء فرنسيون إلى أن وزير الخارجية الحالي جان إيف لودريان كان عليه الاستقالة من منصبه لكونه هو من صاغ خطة فرنسا في ليبيا منذ أن كان وزيرا للدفاع، وهي الخطة التي فشلت فشلا ذريعا.

مُخاتلة فرنسية

والأدهى من ذلك أن المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، الدكتور غسان سلامة أدان ما اعتبره “نفاقا” من بعض الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، الذين خذلوه أثناء أداء مهمته. ولم يذكر سلامة، الذي استقال من منصبه في آذار/مارس الماضي، أسماء بلدان معينة، لكن الواضح أنه قصد فرنسا وروسيا اللتين كانتا تدعمان حفتر، واحدة بالسلاح والخبراء والثانية بالسلاح والمرتزقة، وأيضا بوضع الفيتو على أي مشروع قرار في مجلس الأمن قد يُورط حفتر. وشكا سلامة، في حوار نادر مع المنظمة السويسرية “مركز الحوار الانساني”، من إحباط الجهود التي بذلها طيلة سنة كاملة، تمهيدا لعقد ملتقى وطني ليبي ليبي، في مدينة غدامس، كان مقررا بين 14 و16 نيسان/ابريل 2019 والتي قوضها حفتر بهجومه على طرابلس، قبل عشرة أيام فقط من الميقات المُحدد للاجتماع.

وفي إطار الاستعدادات تم عقد 77 اجتماعا بمشاركة قرابة 6000 ليبي أفرزت 22 ورقة في جميع المجالات. قصارى القول إن الليبيين أحوج ما يكونوا اليوم، بعد إبعاد حفتر من المعادلة، إلى الجلوس معا إلى مائدة الحوار، تحت مظلة الأمم المتحدة، وبرعاية من ألمانيا، من أجل وضع خريطة طريق مُعدلة، اقتباسا من خطة برلين، ومن ثم إفشال المحاولات الرامية لإفساد العملية السياسية برمتها.

تعليقات