رشيد خشانة – أتاح تأجيل معركة سرت تحقيق تحسن طفيف في الأوضاع المعيشية، في بعض المناطق، فيما تتكثف الاتصالات الدبلوماسية من أجل المحافظة على وقف إطلاق النار، لكن بلا أفق لحل سياسي.

تُركز فرنسا جهودها على معالجة ورطتها المتمثلة بإرسال 5100 من قواتها إلى منطقة الساحل والصحراء، فيما لوحظ تباعد جديد بين موقفها وموقف إيطاليا من الدور التركي في ليبيا، بعدما كانتا أصدرتا الأسبوع الماضي بيانا مشتركا مع ألمانيا في هذا الشأن.

ويولي الفرنسيون أهمية كبيرة لإقليم فزان في جنوب ليبيا، باعتباره منصة استراتيجية بين البحر المتوسط والمستعمرات الفرنسية السابقة، في منطقة الساحل والصحراء الكبرى، فضلا عن المعادن الثمينة والثروات الطبيعية التي يحويها. وطلب الرئيس الفرنسي ماكرون من نظرائه في دول مجموعة الساحل الخمس، خلال قمة في نواكشوط، أواخر الشهر الماضي، تحمل المزيد من المسؤولية في ملاحقة الجماعات المسلحة في المنطقة، والتي تستفيد من غياب الدولة في جنوب ليبيا، لتتخذ منه مجالا فسيحا لتجارة السلاح وتهريب المخدرات.

جيوش عليلة

أتت قمة نوكشوط، التي جمعت رؤساء كل من مالي والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد، استكمالا لقمة دعا إليها ماكرون نظراءه إلى مدينة بو في جنوب فرنسا، في 13 كانون الثاني/يناير الماضي، وقرَعهم خلالها علنا، متهما إياهم بالتقصير في محاربة الجماعات الارهابية، التي ما انفكت تُسدد ضربات موجعة للجيوش النظامية المحلية، ذات التسليح الضعيف والامكانات الهزيلة. وراهنت باريس حتى الآن على الجنرال المتقاعد خليفة حفتر للسيطرة على الجنوب الليبي، إلا أن المنطقة، التي تفوق مساحتها مساحة فرنسا، ما زالت خارج السيطرة، بالرغم من أن ماكرون وضع، مع الرؤساء الخمسة، خطة لمحاصرة الجماعات المسلحة والقضاء عليها.

وحسب خبراء فرنسيين انبنت “خطة بو” على ثلاثة محاور أولها التركيز على منطقة محددة، وهي المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا، والثاني التركيز على عدو “يحظى بالأولوية” وهو تنظيم “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”. أما المحور الثالث فتمثل بتركيز مقر قيادة مشترك في نيامي، عاصمة النيجر، “من أجل تحسين تبادل المعلومات وتنسيق العمليات”. كما رفعت فرنسا من عدد قواتها المنتشرة في المنطقة من 4500 إلى 5100 في إطار “عملية برخان”.

جماعات ذات أياد طويلة

لكن الظاهر أن تلك القوات لم تستطع احتواء الوضع العسكري، بل إنها باتت عرضة لهجمات أودت بحياة جنود فرنسيين. أكثر من ذلك، امتدت ذراع الجماعات إلى مناطق جديدة، آخرها الهجوم الارهابي على منطقة “كافولو” في شمال ساحل العاج، يوم 10 من الشهر الماضي، والذي أكد أن تلك الجماعات تنمو وتتمدد. وربما تمثل الانجاز العسكري الوحيد لقوة “برخان” الفرنسية بقتل زعيم ”تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” عبد المالك دروكدال وعدد لم يُحدد من معاونيه، في 3 حزيران/يونيو الماضي، شمال مالي، حسب ما قالت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورنس بارلي. وتعتبر الإعلامية والخبيرة الفرنسية بول فاكس أن الملاحقة العسكرية لا تكفي، وأن من الضروري إطلاق حوارات بين الفئات والمجموعات العرقية في المنطقة لتحقيق مصالحات دائمة، ومساعدة السكان الفقراء على تحسين ظروف عيشهم، والتطرق إلى قضايا جوهرية من قبيل معاودة توزيع الثروات، وإعادة توطين المُهجَرين بسبب تصاعد أعمال العنف في المنطقة.

وتسعى باريس لحشد أكثر ما يمكن من أعضاء الاتحاد الأوروبي لدعم دورها في منطقة الساحل والصحراء، وكانت خلف إطلاق “الائتلاف من أجل الساحل” في إطار اجتماع عن بعد، ضم أعضاء الاتحاد الأوروبي ودول الساحل الخمس، في 28 نيسان/ابريل الماضي. وأعقب ذلك اجتماع وزاري بين الجانبين في 12 من الشهر الماضي.

روسيا وتركيا إلى الجنوب؟

على هذه الخلفية، لا يُخفي الفرنسيون خشيتهم من اقتراب روسيا وتركيا من الجنوب الليبي الذي يعتبرونه في قرارة أنفسهم، خطا أحمر للمصالح الفرنسية، الموروثة من الحقبة الاستعمارية، عندما سلمت الأمم المتحدة منطقة فزان الليبية للوصاية الفرنسية، نكالة في إيطاليا، التي تحالفت مع ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. ويخشى الفرنسيون من أن تستعين حكومة “الوفاق” بحليفتها الجديدة تركيا لفرض سيطرتها على الجنوب، المنفلت من مراقبة الدولة منذ 2014، ما يجعل القوات الفرنسية في كل من النيجر وتشاد على تماس مع الخبراء والمستشارين العسكريين الأتراك، الذين يؤطرون قوات “الوفاق”.

غير أن إيطاليا لا تُغرد مع السرب الأوروبي، بالرغم من تحسن علاقاتها مع فرنسا في الفترة الأخيرة، فهي تدعو للحوار مع تركيا في الملف الليبي. وفي هذا الاطار زار وزير دفاعها لورينزو غويريني، أنقرة الثلاثاء الماضي، وناقش مع مسؤولين أتراك آفاق الصراع في ليبيا. وبالرغم من أن بعض أعضاء الاتحاد الأوروبي استحسنوا إبقاء إيطاليا باب الحوار مفتوحا مع أنقرة، فإن تلك الخطوة أغضبت أعضاء آخرين ومنهم فرنسا، خاصة بعد إعلان تركيا عزمها على إجراء مناورات بحرية في المتوسط، قبالة السواحل الليبية.

خصمان تاريخيان

في ظل هذا التباين في المواقف اعتبر الباحث المتخصص بالشؤون الليبية جلال حرشاوي أنه لا وجود في الواقع لديناميكيات حقيقية داخل الاتحاد الأوروبي، يمكن أن تمنع فرنسا من السير على خطى الإمارات وروسيا في ليبيا، مؤكدا أن فرنسا لن تغير وجهة نظرها المؤيدة للجنرال حفتر. وهي لم تستطع كسب أعضاء آخرين في الاتحاد إلى صفها عدا اليونان وقبرص، الخصمين التاريخيين لتركيا.

يبقى النفط والغاز بيت القصيد في المشهد الليبي، وقد سُجلت اخيرا خطوات صغيرة لمباشرة فتح بعض الحقول والموانئ النفطية المقفلة منذ 18 كانون الثاني/يناير الماضي. واستطاعت “المؤسسة الوطنية للنفط” الحكومية، وهي حجر الزاوية في اقتصاد البلد، ان تحافظ على وحدتها في وجه محاولات تقسيمها بين شرق وغرب. وتُعتبر المؤسسة قدوة لباقي المؤسسات العمومية التي تتعرض لضغوط جمة من أجل تقسيمها. وتُظهر إحصاءات المؤسسة أن إنتاج ليبيا من النفط بلغ 1 مليونا و200 ألف برميل يوميا، قبل إقفال الحقول والموانئ النفطية، في مقابل 1 مليون و600 ألف برميل يوميا في العام 2011 بينما تعادل حصة ليبيا المُحددة من منظمة الدول المصدرة للنفط “أوبك” 1.7 مليون برميل.

ثمن عرقلة تصدير النفط

وفيما استعدت حكومة “الوفاق” لاستئناف الضخ من حقل الشرارة (جنوب غرب)، بدعم من الأمم المتحدة، أواخر الشهر الماضي، اقتحمت الحقل قافلة من مجموعة “فاغنر” الروسية الخاصة، وحالوا دون استئناف الانتاج. ونحت رئاسة “مؤسسة النفط” باللائمة على المرتزقة الروس، الذين يبدو أنهم يعرقلون معاودة إنتاج النفط للتقليل من أهمية الانتصارات العسكرية التي حققتها القوات الموالية لحكومة الوفاق، وكذلك لمنع هذه الأخيرة من تحصيل إيرادات تصدير النفط، التي تساعدها على استكمال هجومها المضاد على قوات حفتر. وعلى الرغم من تكذيب المندوب الروسي لدى الأمم المتحدة، في جلسة مجلس الأمن الأخيرة، أن تكون عناصر من “فاغنر” دخلت إلى حقل الشرارة، مؤكدا عدم وجود أي جندي روسي في ليبيا، فإن السبب قد يكمن في أن موسكو لا تعتبر مرتزقة فاغنر جنودا ولا روسا. وفي السياق حاولت مؤسسة النفط تحميل ناقلة النفط التابعة لها “دلتا أوشن” من ميناء السدرة، غير أن حرس المنشآت النفطية، وهو سلكٌ متمرد على حكومة الوفاق، حالوا دون ذلك، ما حمل المؤسسة على مطالبة “جميع المرتزقة الأجانب والجماعات المسلحة بمغادرة ميناء السدرة فورا”.

استهداف صنع الله

ويُركز الطاقم الإعلامي التابع للجنرال حفتر هجماته الصحفية على مصطفى صنع الله رئيس مؤسسة النفط الوطنية، ومقرها في طرابلس، لأنه رفض تقسيم المؤسسة إلى فرعين في طرابلس وبنغازي. وتؤكد مصادر ليبية متطابقة أن صنع الله ظل حريصا على توزيع ايرادات تصدير النفط بين حكومتي الشرق والغرب وفق معايير موضوعية. وتُعتبر “مؤسسة النفط” الهيئة الوحيدة المسموح بها بموجب الاتفاقات الدولية. وقال خبير نفطي لـ”القدس الأسبوعي” إن حفتر وداعميه الاقليميين يسعون إلى إبقاء حقول النفط مُغلقة أطول وقت ممكن في اختبار لقدرة الحكومتين على التحمُل. وأضاف “إذا استمر حرمان حكومة “الوفاق” من استثمار إيرادات الحقول النفطية، ستواجه صعوبات جمة في شراء السلاح للدفاع عن نفسها، أما قوات حفتر فتستطيع الصمود مدة أطول بفضل الدعم المتنوع الذي تتلقاه من الإمارات” فضلا عما أماط عنه اللثام تقريرٌ جديد للأمم المتحدة أكد إقامة الإمارات جسرا جويا لتوصيل السلاح إلى حليفها حفتر، وتزويده بالمروحيات والطائرات المسيرة، من أجل تحسين القدرات العسكرية لقواته.

كذبتان

أما وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان فكذب كذبتين في كلمته الأربعاء أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، إذ زعم أن فرنسا “غير منحازة في النزاع الليبي لأية جهة”، مع أن الرئيس الفرنسي استقبل حفتر استقبال رؤساء الدول في قصر الإيليزي ولم يدعُ رئيس الحكومة المعترف بها دوليا فائز السراج لزيارة باريس. ويبدو أن الوزير لودريان لم يسمع بضباط المخابرات الخارجية الفرنسيين، الذين قضوا في تحطم مروحيتهم في بنغازي، حيث كانوا يُقدمون الخبرة العسكرية لقوات حفتر، ولا هو سمع أيضا بالصواريخ الفرنسية التي عُثر عليها في غريان بعد هروب قوات حفتر منها. وربما يكون نسي كذلك التوجيهات التي أعطاها للمندوب الفرنسي في الأمم المتحدة لإحباط مشاريع قرارات تُدين حفتر، من ضمنها إدانة هجومه على طرابلس.

والكذبة الثانية هي الاشادة بالدور المزعوم لقوات حفتر في مكافحة “تنظيم الدولة الاسلامية”، بينما يعلم القاصي والداني أن قوات “البنيان المرصوص” هي التي أخرجت تنظيم الدولة من سرت، ولاحقت عناصره في المناطق المجاورة. والثابت أنه لو قللت فرنسا من تداخلاتها في الشأن الليبي لربما حصل تقدم حقيقي نحو حل سلمي للنزاع برعاية الأمم المتحدة.

تعليقات