رشيد خشـانة – تتوقع مصادر أمريكية اندلاع صدام محدود بين مصر وتركيا في سرت، مستدلة بالمناورات التدريبية الأخيرة قرب الحدود الليبية، ويُرجح أن تسعى الجزائر للحؤول دون اندلاع حرب مفتوحة بين الجانبين.

يدُقُ ناقوس الخطر منذ فترة في دوائر صنع القرار الأمريكي، مُحذرا من “التوغل” الروسي في شرق ليبيا تارة، وطورا من “تهديد الاستقرار على مقربة من سواحل جنوب أوروبا” حسب تقارير أمريكية. والأرجح أنها حفزت دوائر القرار على الخروج من “المراقبة السلبية” للوضع في ليبيا، إلى حضور أكثر تأثيرا من أجل احتواء التمدُد الروسي في جنوب المتوسط. ربما لم تتوضح معالم هذه النقلة بشكل جلي، إلا أن واشنطن باشرت مراجعة قرارها السابق بالانسحاب من ليبيا، في أعقاب مقتل سفيرها كريستوفر ستيفنس، في مدينة بنغازي، في 11 أيلول/سبتمبر 2012. وهي في سبيلها إلى العودة إلى المنطقة، لكن من دون التورط في صراعات عسكرية.

عودة الأمريكيين؟

وحسب الخبير في “مركز كارنيغي للسلام” فريدريك ويهراي بدأت عودة الاهتمام الأمريكي بليبيا، مع إرسال الطلائع الأولى من عناصر “فاغنر” الأمنية الروسية الخاصة، في خريف 2019 للمشاركة في “معركة طرابلس” التي أطلقها الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. وتفيد مصادر متطابقة أن الاهتمام الأمريكي بمجريات الصراع في ليبيا تضاعف منذ هزيمة قوات حفتر، التي أنهت “معركة طرابلس” وأجبرت تلك القوات على الإنسحاب إلى قواعدها في اقليم برقة. ولوحظ أيضا تزايد رصد القيادة العسكرية الأمريكية لافريقيا (أفريكوم) للتحركات الروسية في ليبيا، إذ كشفت النقاب في أيار/مايو الماضي عن وصول ما لا يقل عن 14 طائرة حربية من طراز “ميغ 29” وعدد لم تُحدده من طائرات “سوخوي 24” من روسيا عبر سوريا. وزادت أفريكوم بأن نشرت في الشهر التالي صورة لطائرة من طراز “ميغ 29” رابضة في قاعدة الجفرة.

والظاهر أن الأمريكيين اندهشوا لسهولة نقل الجنرال حفتر، الحامل للجنسية الأمريكية، تحالفاته من النقيض إلى النقيض، أي من أمريكا إلى روسيا. وزادت دهشتهم بعد المكالمة التي أجراها الرئيس ترامب مع الجنرال، بعد عشرة أيام من إطلاق الأخير هجومه على طرابلس، ما اعتُبر دعما أمريكيا للهجوم، خاصة أن ترامب لم يتحدث مع رئيس الحكومة المعترف بها دوليا فائز السراج، بتعلة أن حفتر يخوض حربا على الجماعات الإرهابية. ما يؤكد ذلك أن صحيفة “نيويورك تايمز” أماطت اللثام عن اتصال بين حفتر ومستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون، شجع الأخير خلاله حفتر على “إنهاء الشغل بسرعة”.

إصلاح ما كسره الغرب

في الطرف المقابل يسعى الرئيس الروسي بوتين إلى أن يُنظر إليه في الداخل والخارج على أنه صانع سلام، بعدما أظهر قوته العسكرية في سوريا، واستطرادا، فهو يُقدم صورة عن روسيا باعتبارها تعمل على إصلاح ما كسره الغرب في حرب 2011 وما بعدها. هكذا أصبحت ليبيا هدفاً متميزاً لطموح روسيا للتأثير في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي تعارض، من هذا المنطلق، رئيس الحكومة المدعوم من الغرب السراج، سرا وعلنا. كما أن استمرار دعم روسيا للجنرال يعزز أيضًا علاقات موسكو مع راعيته الرئيسة، مصر. ويرى محللون أن سياسة حفتر المناهضة للتيارات الأصولية جعلته “شريكًا جذابًا في مكافحة الإرهاب” ليس فقط لموسكو وإنما أيضا للعواصم الغربية. وفي نهاية المطاف فإن موسكو تريد أن تثبت أن تغيير النظام في ليبيا كما في أوكرانيا، لم يولد سوى الفوضى.

على هذا الأساس طور الكرملين دعمه لحفتر، ففي ربيع العام 2016 قدمت موسكو دعمًا ماليًا مهما لحفتر، من خلال طباعة الدينار الليبي في روسيا. وتعززت العلاقات في حزيران/يونيو من ذلك العام، مع قيام حفتر بعدة زيارات لروسيا، أو مبعوثه الخاص عبد الباسط البدري، السفير الليبي لدى السعودية. وبعد ذلك تمت دعوة حفترعلى متن حاملة الطائرات كوزنستوف، حيث تحادث بالفيديو مع وزير الدفاع الروسي سيرغاي شويغو.

ثلاثة طلبات

وحسب مصادر روسية كانت لدى حفتر ثلاثة طلبات رئيسة من الروس، وهي الدعم السياسي لتعزيز صورته كزعيم شرعي لليبيا، والمساعدة في رفع حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، وتسليمه أسلحة. لكن يبدو أن حفتر، الذي كان يتوقع، من خلال ما دار في تلك الاجتماعات، أنه سيحصل من موسكو على نفس النوع من الدعم، الذي حصل عليه الرئيس الأسد في سوريا، أصيب بخيبة أمل، بحسب قراءة الباحث في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية” ماتيا توالدو.

في البداية أصر الكرملين في العلن على الالتزام بقرارات الأمم المتحدة برفضه توريد الأسلحة إلى أن يُرفع الحظر. ولم يكن على استعداد لخوض معركة في الأمم المتحدة للتفاوض على هذا الموضوع. لكنه لم يتوان عن بيع الأسلحة لشرق ليبيا عبر مصر، أي “بشكل قانوني”. وكان هذا الترتيب مناسبا لروسيا، ليس فقط لأنه يسمح لها بالبقاء ضمن حدود حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، ولكن أيضًا لأن مصر تمثل “زبونا أكثر موثوقية من حفتر” بفضل الأموال السعودية، على ما يرى الخبير توالدو.

بعد تلك المرحلة بات السلاح الروسي يتدفق إلى ثكنات حفتر عبر مصر أو جوا وقد وصلت طائرات “ميغ 29″ و”سوخوي24”. أما القوات الخاصة الروسية فتم نشرها في البداية على الحدود بين مصر وليبيا، وأيضا في حماية الفنيين الروس، الذين يساعدون في صيانة أنظمة الأسلحة، قبل أن يصبحوا عنصرا محوريا في العمليات القتالية، خاصة في الضواحي الجنوبية لطرابلس، ويُغيروا علاقات القوة في الغرب الليبي عن طريق مرتزقة “فاغنر”.

لم تقطع حبل الحوار

مع ذلك لم تقطع موسكو حبل الحوار مع حكومة الوفاق، إذ استقبلت رئيس الوزراء السراج، وإن في مستوى أدنى من الذي حظي به حفتر، كما استقبلت وفدا من مدينة مصراتة، المناهضة بشدة للجنرال. على هذه الخلفية يُفضل الكرملين في صورة اندلاع حرب في سرت والجفرة أن تكون مواقفه متطابقة مع الموقف المصري، وهو يرى أن مثل هذه الحرب ينبغي أن تكون محدودة في المساحة والزمن، لكي تُفضي إلى محادثات سلام.

أما تركيا فتعتمد على إمكاناتها العسكرية المتطورة وعلى الدعم الأمريكي لتكون اليوم القوة العسكرية الأولى في المشهد الليبي، وتمد يد العون بسخاء لحكومة “الوفاق”. ولم يكن مفاجئا، في هذا الاطار أن يعلن حلف شمال الأطلسي، حينما احتدمت معركة طرابلس، أنه “يدعم، أمنيّا ودفاعيا حكومة الوفاق الوطني، ويؤيد تدخل تركيا في ليبيا، لمناصرتها”. وشكل هذا الموقف الأطلسي “خذلانا” للبلدان الخمسة التي أصدرت بيانا أدان التدخل التركي في ليبيا، وهي فرنسا واليونان (العضوان الأساسيان في الحلف) وقبرص ومصر والإمارات. من هنا يُرجح أن يقف الحلف في صف تركيا، إذا ما اندلعت حرب محدودة بين قوات حفتر وقوات “الوفاق”، حول مدينة سرت وقاعدة الجفرة. وما يؤكد هذا الترجيح ما جاء على لسان الأمين العام للحلف، من أن الدول الأعضاء قد تختلف حول مواضيع عديدة، غير أن تركيا، كيفما كانت الاختلافات معها، تظل عضوا هامّا فيه.

تهيُب من صدام مع تركيا

ولاشك بأن الرئيس المصري يعلم أهمية تركيا في الحلف، ويُدرك ضخامة إمكاناتها العسكرية، ولذلك فهو يتهيب من الصدام معها، إذ لم يتخذ أية مبادرة لتنفيذ التهديدات التي ما انفك يُطلقها. واكتفى بجمع من أسماهم بـ”رؤساء القبائل” الليبية (وغالبيهم من الموالين لحفتر) مع الوعد بتسليحهم. فمن له القدرة العسكرية على التأثير في مجرى الصراع الليبي لا يحتسب كم شيخ قبيلة يقف إلى جانبه، وإنما كم يستطيع أن يحرك من لواء ومن دبابة وطائرة. بالمقابل يستند الأتراك على اتفاق التعاون الأمني، الذي توصلوا له مع حكومة “الوفاق” لكي يُضفوا غطاء شرعيا على تدخلهم العسكري، متى طلبت منهم ذلك الحكومة المعترف بها دوليا.

واللافت أن الجزائر ردت بشكل مباشر على مبادرة جمع “رؤساء القبائل” الليبية، إذ حذر رئيسها عبدالمجيد تبون، من أن حمل القبائل الليبية السلاح، قد يحول ليبيا إلى صومال جديد، وينعكس سلبًا على أمن المنطقة بأسرها. وشبَه وضع ليبيا الراهن بالوضع السوري “بسبب تعدد التدخلات الأجنبية”. ويُعتبر هذا الموقف نهاية للمبادرة الثلاثية حول ليبيا، التي أطلقتها كل من تونس والجزائر ومصر، وظل موتها غير مُعلن إلى اليوم. بالمقابل، تستطيع الجزائر، بالرغم من متاعبها الداخلية، أن تلعب دورا مؤثرا في الحؤول دون اندلاع حرب مفتوحة حول سرت أو حول قاعدة الجفرة، أو حول الاثنتين معا.

سيناريو سوري؟

من المستبعد أن يتكرر السيناريو السوري في ليبيا، إذ اصطدمت تركيا في البداية مع روسيا على الأرض السورية، قبل أن تعقدا تفاهمات بينهما، وصلت إلى حد شراء تركيا المنظومة الدفاعية الروسية “إس400” متجاهلة التحذيرات الأمريكية والأطلسية. أكثر من ذلك وضع الأتراك أساسا لترابط مستقبلي متين مع موسكو، من خلال مد الأنبوب الذي سيزودهم بالغاز الروسي، وينقل إلى أوروبا قسما من احتياجاتها من المحروقات. لذا من الصعب أن يتدحرج التجييش القائم حاليا، من الجانبين، إلى حرب مفتوحة، وإن محدودة، بين تركيا ومصر، المشغولة بالتداعيات الوخيمة لأزمة سد “النهضة”.

على هذه الخلفية المتوترة، يشير محللو أسواق النفط العالمية إلى حرب أخرى تدور في ليبيا حول النفط والغاز. وقد تأثر مستوى الانتاج والتصدير بسبب الحرب. وبحسب موقع “أويل برايس” الأميركي المتخصص بأسواق النفط، تحتشد جميع الأطراف من أجل معارك ستحدد من هو المسيطر على الأرض.

ويُرجح الموقع اندلاع صدام بين مصر وتركيا في سرت، مستدلا بالمناورات التدريبية الأخيرة قرب الحدود الليبية، حيث استعرضت كل منهما القوات الموجودة على الأرض وفي البحر. وقد تكون الاعتداءات التي ينفذها عناصر شركة “فاغنر” الروسية على حقول النفط، قادحا لتلك الحرب الإقليمية. غير أن ترامب سيبادر إلى إطفاء الحريق، إذا ما اندلع، لكي يقول للأمريكيين إنني منعت حربا بين مصر وتركيا في ليبيا، وهو إنجاز يحتاج إليه في حملته الانتخابية.

تعليقات