رشيد خشانة – الجيش المصري الذي تحوَل إلى مؤسسة اقتصادية ضخمة، سيجد صعوبة في مواجهة الجيش التركي، الذي خاض حروبا كثيرة خارج أراضيه، واكتسب منها خبرات قتالية كبيرة.
عندما عادت القوات المصرية من اليمن في العام 1967 كانت تلك العودة معجونة بمرارة شديدة، وأقنعت المصريين بالاحجام عن أي تدخل عسكري في الخارج، كيفما كانت المبررات. بعد عشر سنوات من تلك المغامرة المكلفة بشريا وماديا، اندلعت حرب بين مصر وليبيا استمرت أربعة أيام في تموز/يوليو 1977 وانتهت بانتصار الجيش المصري على الجيش الليبي، و”احتلاله” عدة مدن ليبية. لكن الجيشين انهزما في الواقع، لأنهما دمرا قدراتهما العسكرية، أو في الأقل قسما منها، في حرب عبثية.

بين اليمن وليبيا

اليوم تدفع بعض القوى في مصر نحو تكرار ذلك الخطأ الاستراتيجي في ليبيا. فمنذ انسحاب قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، إلى مدينة سرت وقاعدة “الجفرة” بعدما حاصرت العاصمة طرابلس لأكثر من سنة، انطلق التسخين في الجانب المصري، لتهيئة الأجواء لتدخل عسكري في الصراع بين الغريمين الليبيين، أسوة بتدخل مصر عبد الناصر في الحرب بين الجمهوريين والملكيين في اليمن. في هذا الإطار اتخذ البرلمان المصري قرارا بإجازة تدخلات الجيش في الخارج، فيما تعالت أصوات التهديد والوعيد في وسائل الإعلام مُنذرة بإشعال فتيل، إذا ما اقتربت قوات حكومة “الوفاق” من مدينة سرت وقاعدة الجفرة. ويشكل خط سرت-الجفرة بوابة السيطرة على منطقة الهلال النفطي التي تضم 80 في المئة من حقول النفط ومرافئ تصديره. والهلال النفطي هو حوض نفطي يقع على ساحل البحر المتوسط، ويمتد على طول 205 كلم من طبرق شرقا إلى السدرة غربا. وسيطرت عليه بالكامل قوات خليفة حفتر في أيلول/سبتمبر 2016. في هذا الإطار سيكون مفتاح السيطرة على الهلال النفطي هو قاعدة الجفرة، فاذا ما سيطرت قوات حكومة السراج على الهلال النفطي بمساعدة تركيا، سيضعف ذلك بشدة موقف الجنرال حفتر وحلفاءه، وستُرسخ تركيا مواقعها ونفوذها، ما يعزز موقف القوى السياسية الداعمة لحكومة “الوفاق”.

بانتظار الضوء الأخضر

بعيدا عن أجواء الحرب في اليمن في ستينيات القرن الماضي، يمكن القول إن الأوضاع تغيرت في المنطقة، ولم يعد في وسع الحكومة المصرية أن تتخذ قرار إعلان الحرب بمفردها، فهي مضطرة لأخذ ضوء أخضر من “الحليف الأكبر” أمريكا، خاصة إذا كان الخصم هو تركيا العضو الأساسي في حلف شمال الأطلسي. وهذا عنصر أول يُلجم اندفاع البعض لامتطاء جواد الحرب. وهناك ما لا يقل عن ثلاثة أسباب تُرجح إحجام مصر عن التدخل عسكريا في ليبيا، أولها الاعتبارات العسكرية البحت، فمدينة سرت وكذلك الجفرة تقعان على بعد أكثر من ألف كلم من قواعد الجيش المصري في المنطقة الشمالية الغربية. وسيكون من الصعوبة بمكان تموين الجيش بالوقود والسلاح والعتاد والغذاء. والعنصر الثاني هو الأجواء الملبدة بين مصر وأثيوبيا بسبب أزمة سد “النهضة” ما يجعل مواجهة تداعيات أزمتين في وقت واحد قرارا بعيدا عن الحكمة. أما العنصر الثالث فيتعلق باختلال موازين القوى العسكرية بين مصر وتركيا، فالجيش المصري الذي لم يخض أي حرب منذ عقود، والذي تحوَل إلى مؤسسة اقتصادية ضخمة، سيجد صعوبة في مواجهة الجيش التركي، الذي خاض حروبا كثيرة خارج أراضيه خلال السنوات الأخيرة، واكتسب منها خبرات قتالية كبيرة.

كما أنه يأتي في الرتبة الثانية بين جيوش الدول الأعضاء في الحلف الأطلسي، من حيث حجم القوات المسلحة، بعد أمريكا. لذا فإن أي انتشار مصري داخل ليبيا سيعرقل جهود وقف القتال وسينطوي على مجازفة بالنسبة للقاهرة، ما يُرجح أن التهديدات المصرية ليست سوى حرب نفسية، بما في ذلك القرار الذي اتخذه البرلمان المصري بمنح الضوء الأخضر لتدخل الجيش في الخارج.

عبارة متواترة

وأكد البيان الصادر عن اجتماع مجلس الأمن القومي التركي الأربعاء الماضي تصميم أنقرة على التدخل في ليبيا، في حال تدخل الجيش المصري لدعم قوات حفتر. وهذا ما حمل الولايات المتحدة على بذل جهودها لمنع اندلاع الحريق في شرق ليبيا، إذ أكد السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، في اتصال مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إصرار واشنطن على التوصل إلى حل سلمي تفاوضي للصراع في ليبيا، بدءا بتهدئة الأوضاع حول سرت والجفرة. واللافت أن بيان السفارة الأمريكية الصادر بعد اللقاء تضمن جملة تكررت في البيان الصادر عن اجتماع مجلس الأمن القومي التركي، وكذلك في التصريحات الأخيرة للناطقة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، إذ نُقل عن نورلاند أنه تطرق في مكالمته مع صالح إلى دعم سيادة ليبيا “وتمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملياتها على الصعيد الوطني” وهو انتقاد مبطن لإقدام قوات حفتر على إغلاق الحقول النفطية، التي يقع معظمها في المنطقة الشرقية. وفي اليوم نفسه أكدت زخاروفا ضرورة العمل على “ضمان التوزيع العادل لإيرادات صادرات النفط والغاز بين جميع الليبيين بلا أي تمييز” في إشارة إلى تحويل إيرادات النفط والغاز إلى مصرف ليبيا المركزي، الذي يوجد مقره في طرابلس.

انحياز روسي

لكن الروس لم يخفوا انحيازهم للجنرال حفتر في هذه المسألة، إذ قالت الخارجية الروسية إن عائدات صادرات النفط “تراكمت إلى وقت قريب (أي قبل إغلاق الموانئ) في مصرف ليبيا المركزي، الذي تسيطر عليه حكومة الوفاق الوطني، على الرغم من أن معظم حقول النفط تقع في شرق البلاد، ما حرم سكان تلك المنطقة من فرصة استخدام الأموال المكتسبة من مبيعات النفط” بحسب ما ذكرت زخاروفا، مع أن المصرف المركزي دأب على توزيع العائدات بالعدل بين المناطق الثلاثة (طرابلس – برقة – فزان). في السياق نفسه، وقف الممثل الأعلى للأمن والعلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل موقفا مختلفا، إذ أكد في مكالمة مع السراج، على ضرورة “رفع الإغلاق عن المواقع النفطية واستئناف إنتاج النفط بإشراف المؤسسة الوطنية للنفط”.

ومن المفارقات أن حكومة “الوفاق” ثابرت على صرف رواتب أفراد القوات التي تحاصرها وتحاصر العاصمة، فهي لم تتوقف عن إرسال قسم من عائدات النفط إلى حكومة طبرق، التي تستخدمه بدورها لدفع الرواتب. وبعبارة أخرى، يمكن القول إن النفط هو كلمة السر وراء التزام حكومة طرابلس بتمويل الجيش الذي يحاصرها، كما أنه كلمة السر لفهم خلفيات الصراع الإقليمي الدائر هناك. في هذا السياق سعت الأوساط القريبة من حفتر إلى إنشاء مصرف مركزي مواز ومؤسسة نفطية موازية، في مسعى منها للسيطرة على المؤسسات السيادية، والهيمنة على مبيعات النفط. لكن تلك المحاولات لم تعط أكلها. من هنا عاد عقيلة صالح إلى الحديث في مكالمته مع السفير الأمريكي عن “ضرورة وضع آلية لتوزيع العائدات النفطية بشكل عادل وشفاف بين كافة أبناء الشعب الليبي”.

أنموذج سوريا

على الرغم من التباعد بين الموقفين الروسي والتركي، من هذه القضايا المتشابكة على الساحة الليبية، استطاع الجانبان البحث عن قاسم مشترك لحلحلة الأزمة، أسوة بتجربتهما في سوريا. وأسفرت تلك الجهود عن تشكيل مجموعة عمل روسية تركية للدفع في اتجاه وقف إطلاق النار وتشجيع الفرقاء الليبيين على الحوار. غير أن أنقرة متفقة مع حكومة “الوفاق” على استبعاد حفتر من أية تسوية سياسية للأزمة، وهو ما أكده المتحدث باسم الرئاسة التركية ابراهيم كالين، لدى الاعلان عن تشكيل مجموعة العمل التركية الروسية. وتضمن الاتفاق الذي توصل إليه الروس والأتراك السماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى من يحتاجها و”بذل جهود لتعزيز الحوار السياسي بين الأطراف الليبية المتناحرة”.

مواجهة بين تركيا واليونان؟

وقد نتجت عن تعقيدات الأزمة الليبية تداعياتٌ وأزماتٌ فرعية في الإقليم، لا تقل خطورة على الأمن في شرق المتوسط، عن المضاعفات المتوقعة على الساحة الليبية، وفي مقدمها الأزمة بين تركيا واليونان الغريمين التاريخيين والعضوين في الحلف الأطلسي. وحذرت مجلة “فورين بوليسي” المتزنة من مخاطر مواجهة وشيكة بين اليونان وتركيا. وفي أعقاب الجولة التي قام بها وزير الخارجية اليوناني إلى عواصم المنطقة حاملا حقيبة من التظلمات والمآخذ على الأتراك، دخل الجيش اليوناني في حالة تأهب، على إثر إعلان تركيا عزمها على التنقيب عن النفط بالقرب من جزيرة كاستيلوريزو اليونانية، غير بعيد عن سواحل تركيا. واحتمالات المواجهة المباشرة بين تركيا واليونان، أخطر بكثير من سيناريو المواجهة غير المباشرة بين مصر وتركيا في سرت، بالرغم من التعزيزات الكبيرة التي تصل حاليا إلى الجانبين. والظاهر أن التوتر بين أثينا وأنقرة وصل مؤخرا إلى حافة الصدام بين بوارج تركية ويونانية، لتعطيل تقتيش الأتراك عن النفط والغاز بمحاذاة السواحل اليونانية، ما حمل المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل على التدخل السريع لتفادي اندلاع مواجهة بين الدولتين.

مبادرة جزائرية؟

غير أن مسار برلين الذي انطلق مع مطلع العام الجاري، ليس بالنجاعة نفسها على ما يبدو، إذ أن لجنة المتابعة الدولية بشأن ليبيا مازالت تدور في حلقة مفرغة، فيما تتكدس الطائرات والعتاد والأسلحة المختلفة على جانبي الجبهة، استعدادا للساعة الصفر. من هنا التفتت الأنظار إلى الجزائر التي استقبل رئيسُها عبد المجيد تبون الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني وليامز، لمناقشة الأوضاع في ليبيا، غير أن مخرجات اللقاء كانت هزيلة، لأنها لم تغادر العبارات الفضفاضة، مع الاكتفاء عمليا بدعم جهود الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار. مع أن الجزائر تملك أوراقا مهمة بينها علاقاتها الجيدة مع كل الفرقاء الليبيين، وصداقتها مع كل من تركيا وروسيا وأمريكا. وبتعبير آخر ليست هناك مبادرة جزائرية في الأفق لحل الأزمة في ليبيا. وقد يكون الحراك الداخلي في الجزائر والأوضاع المغاربية غير المستقرة، خاصة مع المغرب، كابحين لتقديم مبادرة سياسية جزائرية في المدى المنظور.

تعليقات