رشيد خشانة – تسارعت في الأيام الأخيرة الزيارات واللقاءات المغاربية، المتعلقة بالأزمة الليبية، فيما موازين القوى على الأرض مُقبلة على تغيير كبير إذا ما نصبت تركيا صواريخ “إس 400” في ليبيا.

وكان المغاربة استضافوا رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في محاولة للبحث عن قواسم مشتركة يمكن البناء عليها. ولئن لم ينجحوا في جمع الطرفين حول مائدة واحدة، فإنهم حققوا تقدما في بلورة بعض النقاط التي قد تساهم في تعديل اتفاق الصخيرات، حسب مصادر مغربية عليمة، من دون إيضاحات. ووقّع طرفا النزاع الليبي، في كانون الأول/ديسمبر 2015 اتفاقا سياسيا بمدينة الصخيرات المغربية، نتج عنه تشكيل مجلس رئاسي يقود حكومة الوفاق، إضافة إلى التمديد لمجلس النواب، وإنشاء مجلس أعلى للدولة. لكن حفتر سعى طيلة سنوات إلى تعطيل الاتفاق وإسقاطه.

وفيما اعتبر المشري أن اتفاق الصخيرات هو المرجعية والأساس لأي حل سياسي في ليبيا، ما زال الجنرال المتقاعد خليفة حفتر ورئيس البرلمان الموالي له عقيلة صالح يعتبران أن الاتفاق تجاوزته الأحداث. وأكد المشري، عقب لقاء مع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة، أن جميع المبادرات التي يمكن أن تطرح لتفعيل الاتفاق السياسي، أو تطويره بما لا يتعارض مع آليات عمله، هي أمور مقبولة” في المقابل طرح صالح على المسؤولين المغاربة “مبادرته” السياسية، التي لم تحظ حتى الآن بدعم بلدان وازنة في الملف الليبي، عدا مصر. وأفادت مصادر مغربية أن المحادثات تركزت على صيغ تطوير “مبادرة” عقيلة صالح، ما يعني استبعاد الجنرال حفتر من الحل السياسي، بوصفه يتحمل المسؤولية عن حرب طرابلس”، التي استمرت 14 شهرا، وتسببت بخسائر بشرية ومادية لا تُحصى. غير أن بوريطة أكد أنه “ليست لدى المغرب أية مبادرة للشأن الليبي”، وأنه “ضد تعدد المبادرات”.

دعم أمريكي

مع ذلك يحظى التحرك المغربي بدعم خارجي قوي، إذ أكد مستشار رئيس حكومة الوفاق للعلاقات الأمريكية محمد الضراط وجود مبادرة مغربية، بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ما يعني أن دعوة المشري وصالح لعقد اجتماعات تشاورية في الرباط، بشأن إطلاق حوار سياسي، تندرج في إطار تطوير اتفاق الصخيرات ومخرجات اجتماع برلين، مطلع العام الجاري. وتنبغي الاشارة هنا إلى أن الأطراف متفقة على أن أية مبادرة “خارج الإعلان الدستوري والاتفاق السياسي ومخرجات اجتماع برلين لن يتم التعامل معها بجدية”. ومن العناصر التي تُضعف “مبادرة” صالح أن مجلس النواب الذي يرأسه، ومقره في طبرق (شرق) لم يجتمع منذ أكثر من سنة، بينما تجتمع مجموعة من النواب في العاصمة طرابلس وهم في صراع مع رئاسة المجلس.

تزامنت الحركة الدبلوماسية المغربية مع جهود بذلتها الجزائر في الفترة الأخيرة لإقناع الفرقاء الليبيين بالجلوس مجددا إلى مائدة الحوار، تحت راية الأمم المتحدة، بُغية الوصول إلى حل سياسي للصراع. على أن يكون الحوار تحديدا بين مجلس نواب طبرق برئاسة عقيلة صالح والمجلس الأعلى للدولة برئاسة خالد المشري. لكن من الواضح أن الجهود الجزائرية والمغربية والتونسية، التي لم ترتق إلى مستوى المبادرة المُتبلورة، ما زالت ضعيفة وبعيدة عن تحقيق الاختراق المطلوب.

لا وجود لخريطة طريق

في هذا الإطار عزز الجزائريون التنسيق مع روسيا، وطار وزير الخارجية صبري بوقدوم إلى موسكو لبحث تداعيات الملف الليبي مع نظيره سيرغي لافروف. وشدد الأخير على التزام روسيا والجزائر بتنفيذ مخرجات مؤتمر برلين، التي أقرها مجلس الأمن الدولي، انطلاقا من إيمانهما بأن “لا حل عسكريا في ليبيا، وأن الحل الوحيد هو الحل السياسي” على ما قال لافروف. مع ذلك حرص على أن يوضح في مؤتمره الصحفي المشترك مع نظيره الجزائري، أنه “ليست هناك خارطة طريق ثنائية روسية جزائرية مخصصة للازمة الليبية”. قبل ذلك بيومين كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون يستقبل ستيفاني وليامز، رئيسة بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، في إطار محاولة إحياء المسار التفاوضي بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، انطلاقا من أن الاتفاق السياسي “هو أساس الحل، الذي لا يمكن أن يكون إلا سياسيا”. وفي السياق تسعى الأطراف إلى تجديد عمل اللجنة المشتركة خمسة زائد خمسة، المنبثقة من مؤتمر برلين، لإعداد مؤتمر الحوار الوطني الشامل، بمشاركة ممثلين عن جميع المناطق الليبية.

عودة أمريكية

في خضم المشاورات واللقاءات لحلحلة الأزمة، تعود أمريكا إلى المنطقة المغاربية على أطراف الأصابع. وعززت عودتها الخفرة إلى الأزمة الليبية بخطوتين الأولى دبلوماسية والثانية تشريعية، إذ زار القائم بالأعمال الأمريكي جوشوا هاريس مصراتة، في حركة نادرة، حيث اجتمع مع نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق ووزير الداخلية فتحي باشاغا. وركز هاريس على “ضرورة إحباط التصعيد العسكري في سرت والجفرة ومعاودة فتح قطاع الطاقة في ليبيا” بحسب ما جاء في بيان صحافي للسفارة الأمريكية لدى ليبيا أرسلت نسخة منه لـ”القدس العربي”. وهذا دليل على ورود معلومات موثوقة إلى الأمريكيين مفادها أن هناك مجابهة عسكرية وشيكة بين الفريقين المتصارعين في سرت والجفرة.

من هنا يمكن أن يُفهم تشديد رئيس حكومة الوفاق فائز السراج على أن تحقيق تقدم في أعمال اللجنة العسكرية المنبثقة من مؤتمر برلين، المعروفة بلجنة 5 زائد 5، هو المعيار الوحيد لمدى نجاح أو فشل المسارين الأخريين (الاقتصادي والسياسي). واللافت أن السراج اجتمع مع الضباط المشاركين في لجنة 5 زائد 5 العسكرية، وأكد لهم ضرورة أن تضمن الترتيبات الأمنية المرتبطة بوقف إطلاق النار، عدم تعريض المدن والمواقع الحيوية لأي تهديد مستقبلا” واعتبر إن المسار العسكري “هو المحك، فعلى ضوء نتائجه يتحرك أو يقف المساران الآخران”.

تشديد الحظر على الأسلحة

أما الخطوة الثانية فتمثلت في إقرار مجلس النواب الأمريكي، الخميس الماضي، إدخال 13 تعديلا على مشروع قانون “دعم الاستقرار في ليبيا”. ورمت التعديلات إلى تكريس الحل السلمي للأزمة الراهنة، ودعم القرارات الأممية التي تخص فرض حظر على توريد الأسلحة إليها، إضافة إلى دعم سيادة ليبيا ووحدتها الوطنية. كما شملت التعديلات إقرار حل سلمي للصراع من خلال عملية سياسية، ومعاقبة الأشخاص والكيانات التي تخرق تنفيذ قراري مجلس الأمن 1970 و1973، اللذين فرضا حظرًا على توريد الأسلحة إلى ليبيا، والقرارات اللاحقة المعدلة والموسعة للحظر. وحض أحد التعديلات الأطراف الليبية على “طرد القوات الأجنبية والمرتزقة الأجانب” من بلدها. واستطرادا حض تعديل آخر على “إقناع القوى الأجنبية بالتوقف عن توفير الأفراد، بما في ذلك المرتزقة، والأسلحة والتمويل الذي يفاقم النزاع”.

لكن لا توجد في الأفق مؤشرات إلى التهدئة، فجميع الرسائل تدل على احتمال اندلاع حريق بين سرت والجفرة، في أي وقت، وهو احتمال لم يستبعده وزير الخارجية التركي تشاووش أوغلو، خلال مقابلة مع صحيفة “فاينانشيال تايمز” البريطانية، وخاصة بعد المناورات الكبرى التي أجرتها القوات المصرية “حسم 2020″، والتي بدأت كتدريبات برية، ثم توسعت لتشمل استخدام حاملة طائرات وغواصات، على مرمى حجر من السواحل الشرقية لليبيا. كما أعلنت تركيا من جانبها، أنها تعتزم إجراء مناورات بحرية وجوية واسعة، قبالة السواحل الليبية، دون أن تحدد موعدا لها.

صواريخ “إس 400”

الأخطر من ذلك هو تواتر الحديث عن احتمال دخول منظومة الصواريخ “إس 400” روسية الصنع إلى ليبيا، التي سبق أن اشترتها تركيا بالرغم من التحفظات الأمريكية. وفي هذا الصدد رجحت صحيفة “صباح” التركية أن السيناريو الذي يمكن أن تتفق عليه الأطراف الثلاثة، أي تركيا وروسيا وأمريكا، هو نشر منظومة “إس 400” في ليبيا، بناء على مذكرة التفاهم الخاصة بالتعاون العسكري والأمني، والموقعة بين أنقرة وحكومة الوفاق في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بعد التشاور مع موسكو وواشنطن. وفي رأي خبراء أن تركيا تسعى لتجنب عقوبات أمريكية منتظرة، والحفاظ في الوقت ذاته على علاقات جيدة مع روسيا. وفيما يُرجح أن يوافق الروس على نشر تلك المنظومة في ليبيا، أملا بكسب زبون سابق للأسلحة الروسية (ليبيا في عهد القذافي) ستحقق حكومة “الوفاق” في جانبها، تفوقا حاسما على قوات الجنرال حفتر، أهم من التفوق الذي أتاحته الطائرات التركية المسيرة في سماء طرابلس. أما أمريكا فستكون متأرجحة بين التزامها بالقرارات الأممية، الخاصة بحظر إرسال السلاح إلى ليبيا، ومجاملة تركيا حليفتها في حلف شمال الأطلسي، بأن تغض الطرف عن انتهاكات الأخيرة للحظر.

وقد يكون هذا الموضوع هو العنوان الرئيس للمكالمة، التي أجراها رئيس الأركان الروسي فاليري غيراسيموف، أخيرا مع نظيره التركي يشار غولر، ولم يُكشف عن مضمونها، وإن ذكر بيان لوزارة الدفاع الروسية أنها تركزت على “الوضع الراهن في ليبيا”. ومن أجل تخفيف الاحتقان مع قوى اقليمية ودولية، فتح الأتراك باب الحوار مع جارتهم اللدودة اليونان، بعد تصعيد كاد يصل إلى احتكاك بين الجيشين، في أعقاب التوقيع على مذكرة التفاهم الأمني بين ليبيا وتركيا الخريف الماضي. لكن أيا كانت المؤشرات الإيجابية الضئيلة، فإن سماء ليبيا مدلهمة بالسحب الكثيفة التي تنذر برعود وعواصف شديدة.

وتتقابل قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر والقوات الموالية لحكومة “الوفاق”، وجها لوجه، في محيط مدينة سرت، المعقل السابق للعقيد معمر القذافي، لكن الصاعق الكهربائي ليس في أيديهم، وإنما هو في أيدي القوى الدولية المتحكمة بخيوط اللعبة الليبية، وأساسا الروس والأتراك. يحبس أهالي سرت أنفاسهم مع تصاعد التوتر والتهديد والوعيد من الجانبين المتقابلين. تتعمق الحيرة مع توارد تقارير متناقضة.. حرب؟ لا حربٌ؟ فبعد الهزائم المتكررة التي مُنيت بها قوات حفتر والمرتزقة الروس والجنجويد والتشاديون، استطاعت قواتهم وقف تقدم قوات “الوفاق” يوم 7 حزيران/يونيو الماضي، عند مشارف سرت، بواسطة قصف جوي مكثف. ومضت القوى الكبرى تغدق الأسلحة والذخائر على الطرفين بما فيها القاذفات الروسية من طرازي ميغ وسوخوي، استعدادا لمعركة فاصلة لا يُعرف ميقاتها. لكنها ستكون بالتأكيد أشد عنفا وأكثر دموية من جميع المعارك السابقة في ليبيا.

تعليقات