رشيد خشانة – باشرت الجزائر تحركات واتصالات تمهيدا لإطلاق مبادرة تُحقق تسوية سلمية للأزمة في ليبيا، وتقاطعت تلك الجهود مع الموقفين الروسي والأمريكي.

عاودت أمريكا الاهتمام بالأوضاع السياسية والعسكرية في ليبيا، منتقدة بلهجة شديدة التداخلات الخارجية في الصراع ومُعلنة، في الوقت نفسه، إجراءات عقابية في حق ثلاثة ليبيين ممن تشتبه بضلوعهم في عمليات نقل مهاجرين غير نظاميين نحو السواحل الأوروبية.

وفي انتقاد واضح للدول الماسكة بأوراق الملف الليبي، قالت السفارة الأمريكية لدى ليبيا إن واشنطن “تعارض بشدة التدخل العسكري الأجنبي، بما في ذلك استخدام المرتزقة والمتعهّدين العسكريين الخواص، من قبل جميع الأطراف، في إشارة غير مباشرة إلى مرتزقة شركة “فاغنر” الأمنية الروسية الخاصة. وحذر بيان السفارة، الذي أرسلت نسخة منه إلى “القدس العربي” القوى الأجنبية من “استغلال الصراع لإقامة وجود عسكري دائم والسيطرة على الموارد التي يمتلكها الشعب الليبي”. تزامنت معاودة الاهتمام الأمريكية هذه مع مكالمات أجراها الرئيس ترامب، في الأسابيع الأخيرة، مع عدد من قادة العالم، لم يُكشف عن هوياتهم، وكان محورُها الوضع في ليبيا، انطلاقا مما اعتبرته أمريكا “محاولات لتقويض مصالح الأمن الجماعي للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها في منطقة البحر المتوسط”.

في السياق فرضت أمريكا الخميس الماضي، عقوبات مالية على شبكة تهريب للمهاجرين غير النظاميين، من بينهم ثلاثة أفراد ليبيين يعملون تحت غطاء شركة مسجلة في مالطا. واعتبرت السفارة الأمريكية أن ذلك الإجراء يُبرز أنّ الولايات المتحدة عازمة على اتخاذ إجراءات ملموسة “ضدّ أولئك الذين يقوّضون السلام والأمن والاستقرار في ليبيا”. ورأى وزير الداخلية في حكومة الوفاق، فتحي باشاغا، أن العقوبات التي أعلنت أمريكا عن فرضها على الليبيين الثلاثة “هي غيض من فيض سيضرب الفاسدين، الذين ساهموا في تقويض السلام ونشر الفوضى والانقسام” على حد قوله، مؤكدا أن الوزارة على تعاون وثيق مع الجهات الدولية المختصة بمكافحة الفساد.

ويمكن تلخيص الموقف الأمريكي الراهن من سُبُل الخروج من الأزمة الليبية في أربع خطوات تحظى بالأولوية، هي أولا تمكين المؤسسة الوطنية للنفط من “استئناف عملها الحيوي بشفافية كاملة” وهو ما يقتضي إنهاء سيطرة قوات الجنرال خليفة حفتر على الحقول والموانئ النفطية، وثانيا إقامة منطقة منزوعة السلاح حول مدينة سرت وقاعدة الجفرة، وثالثا تشديد حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على الأطراف الليبية، أما الخطوة الرابعة فتتمثل في التوصل إلى صيغة نهائية لوقف إطلاق النار، بموجب محادثات اللجنة العسكرية 5+5 التي ترعاها الأمم المتحدة، والمنبثقة من مؤتمر برلين، وهي معطلة حاليا.

يتقاطع هذا الموقف الأمريكي مع الموقف الجزائري الذي يسعى إلى إطلاق مبادرة لحل الأزمة الليبية، بعدما يئس من فرص إعلان مبادرة ثلاثية مع مصر وتونس، بسبب تباعد المواقف مع القاهرة، خاصة في شأن تسليح القبائل الليبية في المنطقة الشرقية، وتهديد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بالتدخل العسكري المباشر في الصراع، دعما لقوات حفتر. ومن أهم الأوراق التي تملكها الجزائر علاقاتها المتينة مع أطراف النزاع الإقليمية والدولية، وخاصة تركيا وروسيا، بالإضافة لفرنسا والسعودية. على هذه الخلفية باشر المسؤولون الجزائريون، أخيرا اتصالات مكثفة مع موسكو وباريس وتونس، ركزوها، بحسب صحيفة “الخبر” الجزائرية، على محورين رئيسين هما أولا تجميد الوضع العسكري في جبهتي سرت والجفرة لأطول وقت ممكن، كي تتسنى العودة إلى مائدة التفاوض، وثانيا إفساح المجال أمام الأمم المتحدة كي تفرض حظرا صارما على إدخال السلاح ونقل المرتزقة إلى ليبيا، بعدما أثبتت الإجراءات الراهنة قلة نجاعتها. ويستدل الجزائريون على وجاهة اقتراحهم بأن منطلق الأزمة في ليبيا كان قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 1970 الصادر في آذار/مارس 2011 والذي فرض حظرا على إدخال السلاح إلى ليبيا وجمَد سلاح الجو الليبي في الأرض، بناء على اتهامه باستهداف المتظاهرين السلميين.

دعوة إلى دور أكبر

في هذا الإطار هاتف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون نظيريه التركي اردوغان والروسي بوتين، كما استقبل رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ستيفاني وليامز، فيما عقد وزير الخارجية صبري بوقدوم اجتماعات منفصلة مع كل من الرئيس التونسي قيس سعيد في تونس ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في موسكو، إلى جانب نظرائه المصري والليبي والموريتاني، بالإضافة لمكالمات مع وزراء آخرين من بينهم وزير خارجية الصين، التي حضها الجزائريون على لعب دور أكبر في تسوية الأزمة الليبية. وكان لافتا أن افتتاحية مجلة “الجيش” الناطقة باسم المؤسسة العسكرية في الجزائر، شددت في افتتاحية عددها الجديد على بقاء الجزائر “على مسافة واحدة من الطرفين المعنيين بالصراع الحالي في ليبيا، وحرصها على إيجاد حل سلمي يكون في مصلحة الشعب الليبي دون سواه”. وأكدت الافتتاحية أيضا أن الجزائر التي تشترك مع ليبيا في 1000 كلم من الحدود البرية، تحدوها قناعة راسخة بأن أي مكروه تتعرض له ليبيا سيمس الجزائر أيضا، مُنتقدة في هذا السياق فكرة تسليح القبائل، التي اعتبرتها “أخطر من الحرب بالوكالة لأنها ستحول البلد إلى صومال جديد”.

وتُلاقي الجهود الجزائرية تجاوبا من رئيسة البعثة الأممية في ليبيا ستيفاني ويليامز، التي تسعى، في دورها، إلى تأمين هدنة جديدة، وإنشاء منطقة منزوعة السلاح وسط البلد، مع الفصل بين قوات حكومة الوفاق وقوات حفتر في محيط مدينة سرت، بالإضافة إلى إبعاد جميع المقاتلين الأجانب، بموجب جدول زمني متفق عليه، قبل مغادرة منصبها في تشرين الأول/أكتوبر المقبل. وأفاد عضو في الفريق الدبلوماسي الجزائري، الذي يشتغل على الملف الليبي، أن الجزائر أنهت الشهر الماضي، المرحلة الأولى من تحركات ماراثونية في اتجاه العواصم الدولية المؤثرة في النزاع، من أجل وضع أرضية متينة، لم يكشف عن طبيعتها، تمهيدا لبدء مسار التسوية السياسية. واعتبر المصدر أن الشهور الثلاثة الأخيرة كانت انعطافا في تعاطي الجزائر مع الأزمة الليبية، إذ حركت خلالها علاقاتها مع العواصم المنسجمة مع رؤيتها للحل السياسي. ونقلت صحيفة “الخبر” عن مصدر رفيع المستوى في الخارجية الجزائرية أن لافروف وافق على المبدأ الذي طرحه بوقدوم والوفد المرافق له إلى موسكو، والقائل بأولوية دول الجوار الليبي في البحث عن تسوية سلمية للأزمة ووضعها حيز التنفيذ.

على الطرف الآخر من المشهد برزت بعض التشققات في جدار “الوفاق” مع التصريحات النارية التي أدلى بها نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق، منتقدا “سلطة الفرد المطلقة” التي رأى أنها منبع الفساد و”السبب في اتخاذ قرارات أدت إلى تدني مستوى الخدمات الأساسية”. وحض الليبيين على التظاهر “للتعبير عن رأيهم بكل وضوح والمطالبة بفتح تحقيق في الأموال التي صُرفت وأوجه صرفها”.

حماية المتظاهرين

وطالب معيتيق، وهو أحد أعضاء المجلس الرئاسي التسعة، المنبثق من اتفاق الصخيرات (2015) وزير الداخلية، فتحي باشاغا، باتخاذ “الإجراءات اللازمة لحماية المتظاهرين، والحفاظ على الأمن العام”. وخلال السنوات الأخيرة لم يكن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج ونائبه معيتيق على قلب رجل واحد، لكن الخلاف لم يخرج إلى العلن مثلما هو بعد البيان الذي نشره معيتيق على صفحته بموقع “فيسبوك”. وأنذر في البيان “جميع من تولوا مناصب في الدولة الليبية أن يكونوا جاهزين للمحاسبة وأنا أول الجاهزين” كما قال، متعهدا بعدم السكوت، والكشف عن كل من أفسد وعرض ملفاته أمام الليبيين.

وكان باشاغا أعلن في 28 تموز/يوليو الماضي، عن انطلاق التعاون مع مكتب النائب العام لمحاسبة مسؤولين كبارا في الدولة، لم يكشف عن أسمائهم. وقال “لا يمكن تحقيق الأمن في ظل غياب حقوق المواطن وخدمات الكهرباء والصحة والفساد المستشري في الدولة” مؤكدًا هو أيضا على “حق الشارع في الخروج والاحتجاج على الفساد وسوء الخدمات”. أكثر من ذلك، أشرف باشاغا على إطلاق تطبيقة على الهاتف الجوال، تحمل اسم “الداخلية موبايل” لتيسير التواصل بين المواطنين وأجهزة الوزارة. وصرح في تلك المناسبة بأن الدولة في ليبيا “تُستَغل وتُبتز بطرق ووسائل عدة، ولن نرضى بذلك، وسندفع الدماء لمحاربة هذه المحاولات وصيانة الدولة المدنية”.

ليبيا الغد… ليبيا الأمس

غير أن بعض المراقبين ربطوا بين تخريجة معيتيق وتواتر الحديث عن احتمال إجراء انتخابات عامة، في إطار الاتفاق على حل سياسي للأزمة. وليس معيتيق الوحيد الذي يستعد للأجندة الانتخابية، فمؤيدو سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي (48 عاما) أعلنوا عن إطلاق “مسيرات تحشيد” اعتبارا من 20 الجاري، تحت عنوان “رشحناك، من أجل ليبيا اخترناك”. وتتمثل الحملة في “مسيرات شعبية” في جميع المدن للمطالبة بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية، وحضِ محكمة الجنايات الدولية على رفع القيود المفروضة على مرشحهم، المطلوب للعدالة الدولية منذ 2011. والظاهر أن أولئك المؤيدين لا يملكون من الخيال ما يساعد على ابتكار شعارات جديدة، إذ عادوا إلى شعار “يد بيد
من أجل ليبيا الغد” في استعادة لمشروع سيف الإسلام، المسمَى “ليبيا الغد” والذي استطاع أن يستقطب من خلاله بعض النخب على عهد والده، قبل أن يُقوض الأب لعبة الابن بجرة قلم في 2010. ولعل من الأدق، اليوم، تسمية هذه المبادرة “ليبيا الأمس” لأنها تستعيد تاريخا مضى… ولن يعود.

تعليقات