رشيد خشانة –  تتزامن العودة الأمريكية إلى الشرق الأوسط مع حملة روسية قوية لتوسيع مناطق النفوذ في القارة الافريقية.

تقدم ليبيا، التي تقع في قلب المنطقتين، أنموذجا لهذه العودة، بعدما كانت أمريكا انسحبت منها في 2012. وبعدما وجد الروس أنفسهم بلا حليف محلي، في أعقاب الإطاحة بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وقبل أن تصبح روسيا لاعبا رئيسيا في الساحة الليبية، عمقت نفوذها في عدة بلدان أفريقية من بينها السودان، على أيام الرئيس المخلوع عمر حسن البشير، بواسطة مجموعة “فاغنر” الأمنية، التي كانت تُسدي النصائح لتقوية النظام وتعزيز سيطرته على الأوضاع السياسية والعسكرية.

ويُستفاد من وثائق سرية كانت نشرتها صحيفة “الغارديان” أن روسيا وضعت خطة لتعزيز نفوذها في 13 بلدا أفريقيا، من خلال إقامة علاقات مباشرة مع زعمائها، وإبرام صفقات عسكرية، والعمل على إبراز جيل جديد من الزعماء وأيضا من العملاء. وتضمنت الوثائق التي سربها رجل الأعمال الروسي المنشق ميخائيل خودوركوفسكي، المقيم في لندن، خريطة تضع السودان في أعلى سلم البلدان “المتعاونة” (الرتبة الخامسة) بينما أتت ليبيا في الرابعة، في إشارة إلى القائد العسكري للمنطقة الشرقية الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. ويمكن اعتبار الدخول الروسي القوي للساحة الليبية، منذ ثلاث سنوات، مدفوعا بثلاثة أهداف كبرى، أولها الموقع الاستراتيجي لليبيا، باعتبارها جسرا بين الساحل المتوسطي ووسط أفريقيا، وخاصة دول الساحل الأفريقي والصحراء الكبرى. وثانيها ثروات ليبيا الطبيعية المتنوعة، وخاصة مخزونها الهام من النفط والغاز. أما الهدف الثالث فهو تحصيل أكبر حصة ممكنة من صفقات إعادة الاعمار بعد نهاية الحرب.

ويُرجح خبراء أن موسكو تركز جهودها على السعي لاستعادة شبكات الحلفاء و”الأصدقاء” التي أضاعتها على إثر انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. كما عزا الخبير السويسري لويس ليما الأهمية المتزايدة التي يمنحها الروس للمنطقة، إلى محاولة الالتفاف على العقوبات الغربية، التي أثقلت كاهل الاقتصاد الروسي، “ما اضطر موسكو للبحث عن أسواق جديدة ومعاودة بناء الشراكات السابقة”. لكن تركيا سبقتها إلى ليبيا، إذ حصدت وزيرة التجارة التركية روهصار بكجان، خلال زيارتها الأخيرة لطرابلس 184 مشروعا موزعة على قطاع البنية التحتية والتعليم والصحة والخدمات الأساسية. وقدر وزير التخطيط الليبي طاهر الجهيمي، بحسب ما نقلت عنه صحيفة “صدى” الاقتصادية المحلية، قيمة تلك المشاريع بـ 16 مليار دولار.

تصنيف المشاريع التركية

وأوضح الجهيمي أنه تم تصنيف المشاريع التي تنفذها شركات تركية في ليبيا إلى ثلاثة أصناف، وهي أولا المشاريع التي تحظى بالأولوية والتي سيبدأ تنفيذها في المدى المنظور، والصنف الثاني هي المشاريع التي ستؤجل إلى مرحلة تالية، لم يتم تحديدها. أما الثالث فيخص المشاريع التي يمكن أن تلغى أو تستبدل بمشاريع أخرى، بالنظر لتعثرها، أو لكونها لم تبدأ أصلا. ووقعت الوزيرة التركية مع نظيرها الليبي على وثيقة في المجالين الاقتصادي والتجاري تضمنت ما اعتُبر “حلا للمشاكل العالقة للشركات التركية وكيفية الحصول على مستحقاتها المالية”. وتُعدُ ليبيا من أوائل البلدان التي استثمرت فيها تركيا في قطاع المقاولات، منذ عهد الرئيس التركي تورغوت أوزال، صديق معمر القذافي، وتجاوزت استثماراتها فيها 28 مليار دولار. أكثر من ذلك، قال الجهيمي إن حصة الشركات التركية من خلال العقود السارية مع الدولة الليبية، تبلغ نحو 20 في المئة من إجمالي تلك العقود، من حيث القيمة والعدد، وهي تعتبر بذلك، الحصة الأكبر بين شركات الدول الأخرى، على الرغم من أن ليبيا تعاقدت مع عدة دول لتنفيذ مشاريع تنموية في الفترة من 2008 إلى 2012.

عودةُ أمريكا

أما أمريكا فتجلت عودتها للاهتمام بالشأن الليبي، في الآونة الأخيرة، من خلال الاتصالات بالفرقاء الليبيين، في إطار ما أطلق عليه سفيرها لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند “الحل منزوع السلاح في سرت والجفرة”. وهو الحل الذي ناقشه نورلاند في القاهرة مع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وسط تركيز كبير من الجانب الأمريكي على ضرورة تمكين “المؤسسة الوطنية للنفط” من استئناف عملها الحيوي، مع ضمان إدارة عائدات النفط والغاز بشفافية، وهي رسالة واضحة لقوات حفتر التي تتمادى في غلق الحقول والموانئ النفطية، في منطقة الهلال النفطي، منذ مطلع العام الجاري.

وسبقت المحادثات التي أجراها نورلاند في القاهرة مكالمتان بين الرئيس دونالد ترامب ونظيره المصري عبدالفتاح السيسي، وكذلك بين وزيري الخارجية مايك بومبيو وسامح شكري، حول الوضع في ليبيا. وعزا تقرير لشبكة “سي أن أن” بداية العودة الأمريكية للاهتمام مجددا بالملف الليبي إلى الضغوط التي قالت إن بعض زعماء المنطقة، ومنهم رجب طيب إردوغان وعبد الفتاح السيسي، مارسوها عليه، لتشجيعه على إقناع الرئيس الروسي بوتين بالتخلي عن نواياه التوسعية في ليبيا. غير أن التقرير أشار إلى رغبة ترامب بتفادي التورط في أي صراع اقليمي، عشية الانتخابات الأمريكية، مع أنه لم يمنع سفراءه في المنطقة من مواصلة الحوار مع القوى الفاعلة في الصراع. وتمكن مستشاره السابق للأمن القومي جون بولتن من إقناعه بالتقارب مع كل من السعودية والامارات وتعديل السياسة الأمريكية في ليبيا، باتجاه دعم الجنرال حفتر. وفي هذا الاطار كان لبولتن نفسه اجتماع مهم على انفراد مع حفتر. والمؤكد أن الدور المتزايد لروسيا في ليبيا اليوم، واستطرادا في شرق المتوسط، من أهم الدوافع التي حملت أمريكا على هذه الحركة الدبلوماسية المكثفة في الآونة الأخيرة، بالرغم من انشغالها بتداعيات الاتفاق الإماراتي الاسرائيلي.

الإمساك بطرفي الأزمة

والظاهر أن الأمريكيين يحاولون المسك بطرفي الأزمة في آن معا، إذ أكدوا في القاهرة دعمهم لرئيس مجلس النواب عقيلة صالح، واستطرادا للبيان المصري الصادر في 6 حزيران/يونيو الماضي، بعنوان “مبادرة مصرية للحل في ليبيا” مثلما أكدوا قبل ذلك، لرئيس حكومة الوفاق فائز السراج، في طرابلس، دعمهم للحكومة التي تحظى بالاعتراف الدولي. وذهب السفير نورلاند إلى أبعد من ذلك بتوسيع دائرة من تتوسم فيهم واشنطن المساهمة في إحلال السلام إلى “جميع القادة الليبيين الذين يتحلون بروح المسؤولية والساعين إلى حل سلمي للصراع، من شأنه أن يعيد لليبيا سيادتها ويعزز الإصلاحات الاقتصادية ويمنع مزيدا من التصعيد”.

وعلى الرغم من تأكيد مقربين من عقيلة صالح أن الأخير اتفق مع السفير الأمريكي على استمرار وقف إطلاق النار والإبقاء على مدينتي سرت والجفرة منزوعتي السلاح، إلى حين استئناف الحوار السياسي، والعودة إلى مائدة التفاوض، اعتبر دبلوماسيون من بينهم بيتر ميليت، السفير البريطاني السابق في ليبيا، أنه لا يمكن أن يُعتدَ بالاتفاقات التي تُبرم مع صالح. ويشعر الأمريكيون بقلق شديد من نشر مرتزقة مجموعة “فاغنر” في ليبيا، والتي انسحبت بعد هزيمتها العسكرية في التخوم الجنوبية لطرابلس، إلى قاعدة الجفرة الجوية، التي تبعد 500 كلم عن طرابلس، ويُقدر عددها بأكثر من ألفي عنصر. وتُحاذر موسكو من انكشاف تورطها المباشر في الصراع، من خلال دعمها أحد الطرفين المتنازعين، لكي تضمن مقعدا في محادثات السلام وفي مرحلة ما بعد الحرب عموما.

ونقلت بوابة “الوسط” الليبية عن السفير الأميركي لدى الجزائر جون ديروشر، إقراره بوجود “صعوبات” في المحافظة على وقف إطلاق النار، مشيراً إلى توافق واشنطن والجزائر على ضرورة دعم مسار الأمم المتحدة لإحلال السلام والاستقرار في ليبيا. وتبدو أمريكا والجزائر أهم طرفين يعملان في اتجاه تنفيذ مخرجات مؤتمر برلين الخاص بليبيا، مطلع العام الجاري، من خلال المشاورات المكثفة التي تحدث عنها ديروشر، من دون إعطاء تفاصيل عن فحواها.

في خط مواز للاتصالات الاقليمية والدولية حول الملف الليبي، أعلنت مجموعة من النواب المجتمعين في طرابلس، الثلاثاء الماضي، عن إطلاق ما وصفوه بـ”مناقشة علنية لمبادرة سياسية شاملة لحل الأزمة الليبية” تتضمن إنهاء المرحلة الانتقالية، والوصول إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري. وبحسب المُبادرين، يسعى مشروع “المبادرة الوطنية” التي استُبعد منها حفتر، إلى تحقيق عدة أهداف من بينها وقف الحرب وتمكين أجهزة الدولة من بسط سيطرتها على كامل التراب الليبي، والحفاظ على المسار الدستوري والديمقراطي، وإنهاء المراحل الانتقالية وتوحيد مؤسسات الدولة. مع ذلك لا يستبعد محللون أن يتفجر الوضع العسكري في أية لحظة، بالنظر للتحشيد العسكري المتواصل من الجانبين، في محيطي سرت والجفرة، وسط عجز الأمم المتحدة عن مراقبة شحنات الأسلحة المتدفقة على الفريقين.

وطبقا لتقرير شبكة “سي أن أن” حاصرت قوات موالية لحفتر ومجهزة بآليات روسية مصفحة مدينة سرت، وكان على متن المصفحات مرتزقة سوريون. ويبدو أن تصاعد التوتر بين الجانبين هو مقدمة لمفاوضات يستعد لها الطرفان الروس والأتراك بكل قوة، إذ أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زخاروفا، الخميس، أن المفاوضات مع تركيا في شأن الأزمة الليبية ستقام خلال هذا الشهر أو الشهر المقبل، مشيرة إلى تواصل موسكو “مع جميع الأطراف المعنية بالملف الليبي”.

وسيكون منطلق المفاوضات، بحسب زخاروفا، مُخرجات مؤتمر برلين وقرارات مجلس الأمن الدولي الخاصة بليبيا. إلا أن تركيا غير موافقة على مُخرجات برلين، فقد هاجم الرئيس إردوغان الدول المشاركة في مؤتمر برلين، مؤكداً أنها جميعها لم تفِ بالتزاماتها. وإذا صح انطلاق تلك المفاوضات قريبا، ستكون الدول العربية والأوروبية على السواء قد خرجت صفر اليدين تقريبا، في مقابل تجميع أوراق الحل بين أيدي الغريمين اللدودين روسيا وتركيا. وستكون موسكو على ما قالت زخاروفا، هي “المحطة القادمة للمفاوضات بين المؤسسات الروسية والتركية المعنية بالأزمة في ليبيا”، ما يعتبر تهميشا للدور الأوروبي.

فاتهم القطار

لهذا السبب حض الايطاليون، الذين لديهم مصالح كثيرة في ليبيا، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، على الدعوة إلى اجتماع استثنائيً لأعضاء الاتحاد السبعة والعشرين، يكون جدول أعماله مخصصا لبحث الوضع في منطقة شرق المتوسط. وإذا كان التعبير عن التضامن مع عضوي الاتحاد اليونان وقبرص ضد تركيا أمرا واردا ضمن قرارات الاجتماع، فإن مناقشة الملف الليبي ستكون مثار خلافات بعضها قديم (بين فرنسا وإيطاليا) وبعضها الآخر مُستجدٌ. وحتى لو اتفق جميع أعضاء الاتحاد على موقف موحد، وهو أمرٌ صعبُ التحقيق، فإن القطار الليبي يكون قد فاتهم.

تعليقات