رشيد خشانة – الإماراتيون والروس والفرنسيون قد يتعاطون مع مفاوضات السلام باعتبارها وسيلة لإعطاء نفوذ لحفتر لم يستطع انتزاعه بالقوة، طيلة ثمانية أشهر من حصار طرابلس.

تضافرت جهود أطراف دولية ومحلية عدة طيلة الأسابيع الماضية لتحقق إنجازا انتظره الليبيون منذ سنوات. أتى البيانان الصادران الجمعة عن حكومة الوفاق في طرابلس ومجلس النواب في شرق البلاد متماثلين ومتزامنين للمرة الأولى، ما أشر إلى بداية مرحلة جديدة قد تُفضي إلى إنهاء الصراع الليبي الليبي.

وأول الخطوات تخص وقفا نهائيا لإطلاق النار وجعل مدينة سرت وقاعدة الجفرة منزوعتين من السلاح، بعدما كان متوقعا أن تندلع حولهما معارك في أي لحظة. وكان الإعلان في البيانين عن معاودة فتح الحقول والموانئ النفطية أهم خطوة عملية في إزالة جدار العداء بين الشرق والغرب. وأتت المؤشرات الأولى إلى التقارب متمثلة في تواتر حديث الأجانب والليبيين على السواء، في الأيام الأخيرة، عن حجم الخسائر الناجمة عن استمرار غلق الحقول والموانئ النفطية، والتي وصلت إلى 8.5 مليارات دولار، وما ترتب عنه من نقص في إنتاج الكهرباء في ذروة موسم الحرارة.

والظاهر أن الاتصالات التي تمت بين السراج والأطراف الدولية أثمرت اتفاقا بين الجانبين على أن المؤسسة الوطنية للنفط (قطاع عام) هي الوحيدة التي يحق لها الإشراف على تأمين الحقول والموانئ النفطية في جميع أنحاء ليبيا، وهو أمر لن يتحقق فورا وإنما سيستغرق وقتا، بضمانات من الدول الراعية للتسوية. وفي السياق وافق السراج على أن يتم إيداع الإيرادات في حساب خاص بالمؤسسة الوطنية للنفط لدى المصرف الليبي الخارجي، وألا يتم التصرف فيها إلا بعد التوصل إلى ترتيبات سياسية طبقا لمخرجات برلين. وإذ شدد السراج على ضرورة خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من البلد، فإن تلك العملية المعقدة والحساسة ستستغرق أيضا بعض الوقت.

ترامب وماكرون

اشترك في الدعوة لمعاودة فتح الموانئ الأمريكيون والروس والألمان، قبل أن ينضم إليهم الفرنسيون في أعقاب مكالمة بين الرئيسين ترامب وماكرون الجمعة، تطرقا خلالها إلى الأوضاع في ليبيا ولبنان. وقبل ذلك تحادث الرئيسان يوم 20 تموز/يوليو الماضي حول الوضع في ليبيا، وقال عنها ماكرون في تدوينة على حسابه بموقع “تويتر”: “أجريتُ مباحثات جيدة جدا حول ليبيا مع صديقي دونالد ترامب” لافتا إلى تلاقي وجهتي نظرهما حول هذه القضايا.

ثم كان الملف الليبي في قلب المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الأحد الماضي، مع نظيره التركي، مولود تشاووش أوغلو، خلال لقاء في الدومينيكان. وأسفرت مباحثات أوغلو مع بومبيو عن اتفاق على مواصلة التشاور في مستوى الخبراء بشأن ليبيا. في الوقت نفسه، أكد الروس والأتراك، المُزودون الرسميون للمتحاربين بأحدث الأسلحة والمقاتلين، أكدوا على لسان وزيري الخارجية الروسي والتركي، أنهما سيثابران على المشاورات السياسية، من أجل المحافظة على وقف إطلاق النار وبدء الحوار السياسي في ليبيا. وأتى اجتماع لافروف وأوغلو تنفيذا لاتفاقات تمت في مكالمة هاتفية سابقة، بين الرئيسين الروسي والتركي، حول ليبيا وسوريا. لكن لم تظهر بعدُ مؤشرات تدل على توقفهما عن إرسال الأسلحة إلى الطرفين المتحاربين، ولا على الاتجاه نحو تفاهم شبيه باتفاق أستانا.

تنشيط مسار برلين

ثم كان الملف الليبي في قلب القمة الفرنسية الألمانية أواخر الأسبوع الماضي، مع أن فرنسا اختارت منذ فترة بعيدة مؤازرة الفريق الذي يقوده الجنرال حفتر بالخبراء والسلاح والدعم الدبلوماسي. غير أن القمة الفرنسية الألمانية أتت في مثابة محاولة لتنشيط مسار برلين وتحويل الهدنة المسلحة إلى اتفاق على وقف إطلاق النارعلى خطَي سرت والجفرة. كما أتت القمة أيضا في أعقاب الاجتماع الذي ضم وزراء الدفاع التركي والقطري والليبي في طرابلس، والذي أثار حفيظة فرنسا، فسعت مع ألمانيا لاستعادة زمام المبادرة الدبلوماسية.

أما الألمان، الذين استضافوا مؤتمر برلين في 19 كانون الثاني/يناير الماضي، فلم ينتظروا شركاءهم الأوروبيين لكي يتحركوا في اتجاه جميع الفرقاء المحليين والإقليميين، من خلال جولة وزير الخارجية هايكو ماس، التي بدأها من طرابلس وكان أول من حذر من “هدوء خادع” قال إنه يسود ليبيا منذ توقف المعارك في محيط سرت. وما من شك بأن الوزير الألماني تطرق خلال محادثاته مع السراج في طرابلس إلى المطلب الثالث في حزمة الحل السياسي، بعد فتح موانئ تصدير النفط وتثبيت وقف إطلاق النار في كافة أنحاء ليبيا، وهو المتمثل بإخراج المرتزقة الروس والسوريون والتشاديون والسودانيون من ليبيا.

دور مغربي خلف الأضواء

الأرجح أيضا أن الرباط لعبت دورا أساسيا لكنه بعيدٌ عن أضواء الإعلام، لإحياء اتفاق الصخيرات (2015) والمساعدة على بلورة توافق جديد بين الفرقاء الليبيين يُفضي إلى سلام دائم. وكانت زيارة كل من رئيس المجلس الرئاسي خالد المشري، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، إلى المغرب، أواخر الشهر الماضي، أمارة على أن أمرا ما يُطبخ على نار هادئة في الملف الليبي، وقد يكون هذا الأمر بمثابة “الصخيرات2”. وعلى الرغم من شطارة المغاربة في فن تدوير الزوايا، أسوة بحذقهم لصناعة المعمار، فإن ثلاث عقبات ستجعل تعبيد الطريق لمسار سلمي جديد، عملية شاقة ومعقدة. وأول العقبات الاتفاق على سحب الأسلحة المتوسطة والثقيلة، والذي سيعارضه بشدة أمراء الميليشيات، الذين استولوا على مناطق نفوذ خاصة بهم، مع انهيار مؤسسات الدولة بعد العام 2011. والعقبة الثانية هي الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية ومجلس رئاسي مؤلف من ثلاثة أعضاء (بدلا من تسعة حاليا) يمثلون مناطق ليبيا الثلاثة، برقة وفزان وطرابلس. ومن الصعوبة بمكان العثور على شخصيات وفاقية تحظى بتزكية الفريقين. أما العقبة الثالثة فتتمثل في الإعداد لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية على أساس دستوري، حدد بيان السراج ميقاتها بشهر آذار/مارس المقبل لكن بيان عقيلة صالح صمت عن هذا الأمر. كما أن هناك تساؤلات عن طبيعة الأساس الدستوري للانتخابات طالما أن مشروع الدستور لم يُعرض على استفتاء شعبي.

توافق روسي تركي

لا يمكن أن تتوقف طبول الحرب في سرت والجفرة طالما لم يوجد حل لملف معاودة تصدير النفط في إطار خطة شاملة، يتبناها الجانبان الروسي والتركي، بالإضافة إلى ألمانيا بصفتها الضامنة لاتفاقات برلين والراعية لمسار 5+5 الخاص بالترتيبات العسكرية بين الطرفين المتحاربين، على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2510.

في السياق ينبغي التوقف عند مضامين الضغوط الأمريكية، التي نقلها السفير الأمريكي لدى ليبيا نورلاند إلى رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، لدى لقائهما في القاهرة، في وقت سابق من هذا الشهر، إذ ربط نورلاند بين ضرورة الفتح من جهة والتزام الشفافية والعدل بين مناطق ليبيا في توزيع الإيرادات من جهة ثانية. واللافت أن عقيلة صالح حاول استيعاب الموقف الأمريكي في هذا الشأن عندما قدم اقتراحا للسفير الأمريكي، يقضي بتوزيع إيرادات النفط على المناطق الثلاث بحيث تُعطى نسبة 50 في المئة لطرابلس و38 في المئة لإقليم برقة (الشرق) و12 في المئة لإقليم فزان (الجنوب) وهي طريق قد تؤدي إلى التقسيم. وزعم ناطق باسم صالح في تصريح إثر الاجتماع أن الجانب الأمريكي وافق على الاقتراح، في محاولة لاحتواء الموقف الأمريكي.

ويقول الخبير الألماني ولفرم لاخر في هذا الصدد “ليس هناك من سبب يدعونا إلى الاعتقاد أن داعمي حفتر تخلوا عن هدفهم القديم في تغليبه على خصومه في المنطقة الغربية”. ويُخشى فعلا من أن داعمي حفتر الإماراتيين والروس والفرنسيين سيتعاطون مع مفاوضات السلام باعتبارها وسيلة لإعطاء نفوذ لحفتر لم يستطع انتزاعه بالقوة، طيلة ثمانية أشهر من حصار طرابلس.

لجنة تحقيق أممية

حتى لو وضعت الحرب أوزارها فعلا فإن ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب لن تتوقف، وهو ما جعل المفوضية الأممية لحقوق الإنسان تُقدم على تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات الواسعة وجرائم الحرب المسجلة في ليبيا في السنوات الأخيرة. وتحتاج اللجنة إلى كثير من المصداقية، بعدما فقدت الولايات المتحدة والدول الأوروبية معظم المصداقية المتبقية لها في ليبيا، خصوصا بعد الاستقالة المدوية لموفد الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا الدكتور غسان سلامة.

وستحتاج الولايات المتحدة بالتأكيد إلى لعب دور رئيس في هذا الصدد، لا سيما لاحتواء النفوذ الروسي المتزايد نوعا وكما في المنطقة الشرقية من ليبيا. ومع ذلك فإن الإدارة الأمريكية الحالية بالكاد لها مواقف ثابتة من الوضع في ليبيا، وبخاصة في أجواء انتخابية حامية الوطيس.

انحياز فرنسي

لكن يمكن لإيطاليا وبريطانيا وألمانيا ودول أوروبية أخرى ممارسة نفوذ أكبر مما فعلت حتى الآن، مع احتمال انخراط فرنسا أيضا في هذا المسار، على الرغم من انحيازها المكشوف لحفتر، وانهيار ثقة الليبيين بها، خصوصا بعد اكتشاف الصواريخ الفرنسية في قاعدة غريان (80 كلم جنوب طرابلس) على إثر انسحاب قوات حفتر منها في يونيو/حزيران 2019.

ومن الواضح أن الدعم العسكري والسياسي الفرنسي لحفتر يضر بالمصالح الأوروبية، ويُقسم صفوف الاتحاد الأوروبي، بينما يسعى الألمان إلى بلورة موقف أوروبي موحد يقبل به الفرقاء الليبيون، وهذا هو فحوى الرسائل التي حملها وزير الخارجية هيغو ماس خلال جولته الأخيرة على العواصم المعنية بالأزمة الليبية. وأتى الانقلاب الأخير في مالي ليثبت للفرنسيين مجددا الحاجة إلى الاستقرار ومعاودة بناء مؤسسات الدولة في الجنوب الليبي لما لها من تأثير مباشر في استقرار الأوضاع في بلدان الجوار، ومكافحة عصابات التهريب وتجار السلاح والجماعات الإرهابية. أكثر من ذلك، أكد الألمان، في انتقاد مبطن للفرنسيين أنه يجب أن يكون الهدف مقاربة أوروبية موحدة تجاه داعمي حفتر الأجانب.

إهمال الجنوب

أدت سيطرة حفتر على الجنوب إلى إهمال طويل لهذه المنطقة من قبل حكومة الوفاق الوطني. كما أن السكان رحبوا بتعهد حفتر بإعادة فرض النظام، بسبب انعدام الأمن والشلل الواسع للخدمات العامة، على إثر انهيار ما تبقى من مؤسسات الدولة. من هنا فإن عودة الاستقرار إلى الجنوب الليبي يُعتبر أيضا مصلحة لباريس المشغولة بحماية مراكز نفوذها الاقتصادي والسياسي في منطقة الساحل والصحراء.

مع ذلك، من بين الاحتمالات التي لا يستبعدها المراقبون، والتي قد تؤدي إلى تفكك تحالف حفتر وإضعاف سلطته في الشرق والجنوب، تقدُمُه في السن (76 عامًا) ومرضه، ما يعني أن رحيله يمكن أن يثير في أية لحظة تدافعًا لملء الفراغ. وما يزيد الأمر تعقيدا تفاقم عبادة الشخصية المحيطة به، واعتماده على جهاز أمني تقوده دائرته الداخلية ذات المصالح المتضاربة. لكن الأرجح أن العواصم الدولية والإقليمية المعنية استعدت لحقبة ما بعد حفتر، والتي يعتقد الأوروبيون أنها ستكون سياسة واقعية وأكثر عقلانية من التخبطات الحالية لـ”رجل الشرق القوي”.

تعليقات