في الوقت الذي كان الليبيون ينتظرون جعل مدينة سرت منزوعة السلاح، وخروج مليشيات الجنرال الانقلابي خليفة حفتر وجميع مرتزقته منها، إذا بها تتحول إلى ساحة معركة بالأسلحة الخفيفة بعد صعود أنصار نظام معمر القذافي السابق كلاعب جديد ومستقل عن حفتر.
ما يجري في سرت حاليا يعكس بداية تخلي أنصار القذافي عن حفتر، بعد أن دعموه طيلة سنوات لإسقاط ثوار 17 فبراير، الذين أطاحوا بالنظام “الجماهيري” في 2011.
أنصار القذافي، الذين حاولوا تنظيم مظاهرات في كامل البلاد، في 20 أغسطس/ آب الماضي، في الذكرى التاسعة لسقوط طرابلس في يد الثوار، واجهوا حملة اعتقالات عنيفة من مليشيات حفتر في مدن سرت وأجدابيا (750 كلم شرق طرابلس) وبنغازي (ألف كلم شرق طرابلس).

بداية انشقاق أنصار القذافي عن حفتر
لكن حملة الاعتقالات في سرت كانت الأعنف، باعتبارها مسقط رأس الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، والمكان الذي قتل فيه، وأيضا معقل قبيلة القذاذفة التي ينتمي إليها.
ولأن أفرادا من قبيلة القذاذفة يمتلكون بعض الأسلحة الخفيفة، وقعت خلال الأيام الأخيرة اشتباكات لساعات بينهم وبين مليشيات حفتر، بعد مقتل شخص من القبيلة دهساً بسيارة مدرعة، إثر مشاركته في مظاهرات مؤيدة للنظام السابق.
واعتقلت مليشيات حفتر العشرات من قبيلة القذاذفة، التي خرج بعض أفرادها في سرت للتنديد بمقتل أحد أبنائها، بحسب قناة “ليبيا الأحرار”، وناشطين إعلاميين.
وهو ما أكده الناطق باسم غرفة عمليات سرت – الجفرة التابع للجيش الليبي، عبدالهادي دراه، قائلا إن المدينة شهدت حملة اعتقالات واسعة ومداهمات للمنازل، وأن قبيلة القذاذفة خرجت في مظاهرة منددة بعملية القتل واقتحام المنازل وممارسات مليشيات حفتر ومرتزقة الجنجاويد الداعمين لهم.
كما تداول ناشطون إعلاميون، بيانا مصورا لأشخاص من قبيلة القذاذفة في مدينة سبها (750 كلم جنوب طرابلس) هاجموا فيه اعتداءات مليشيات حفتر على أبناء قبيلتهم في سرت، وطالبوا شباب القبيلة المنضوين تحت لواء حفتر بالانسحاب، وهددوا بمحاربة مليشيات حفتر إذا لم تسلمهم قتلة أحد أبنائها، ولم تطلق سراح المعتقلين.
من جانبه، دعا الناطق السابق باسم نظام القذافي موسى إبراهيم، في منشور له عبر فيسبوك، إلى “اتخاد موقف واضح من قيادة الرجمة العميلة ومشروعها السلطوي التابع للأجنبي”.
واشترط إبراهيم، أن يكون هذا الموقف “جماعيا وحاسما حتى يكون له تأثيره الوطني الصحيح”.

لا نية لحفتر للانسحاب من سرت
ويعكس تردي الأوضاع الأمنية في سرت، وتوجه مليشيات حفتر لعسكرتها أكثر وفرض إجراءات أمنية أكثر صرامة تجاه أهلها، عدم نيتها في الالتزام بالتوافق الذي حصل بين رئيس المجلس الرئاسي للحكومة الليبية الشرعية فائز السراج، ورئيس مجلس نواب طبرق عقيلة صالح، برعاية دولية.
فبعد مرور أكثر من أسبوع على صدور البيانين المتزامنين للسراج وعقيلة، لا يوجد أي مؤشر على نية مليشيات حفتر، والمرتزقة الروس والأفارقة على الانسحاب من سرت، ناهيك عن محافظة الجفرة.
كما أن اقتراح عقيلة، جعل سرت مقرا مؤقتا لمجلس رئاسي جديد، تتولى تأمينه قوات شرطية من جميع المناطق، غير منطقي، في ظل الظروف الأمنية المضطربة بالمدينة.
فلم تكتف مليشيات حفتر بإرسال تعزيزات إلى سرت لقمع المتظاهرين، بل قامت بقصف الجيش الليبي بـ12 صاروخ غراد، الخميس، في خرق واضح لوقف إطلاق النار.

انقسام معسكر حفتر إلى ثلاثة أطراف
تتسارع الأحداث في المعسكر الذي كان يقوده حفتر، بسبب الانقسامات التي تتجلى في الأحداث الأخيرة التي أعقبت توقف المعارك في المنطقة الغربية إثر اندحار مليشياته على الأبواب الجنوبية للعاصمة طرابلس.
إذ انقسم معسكر الشرق إلى ثلاث تيارات رئيسية، مازال يجمعها تحالف هش قد ينهار في أي لحظة، وهذه التيارات هي:
1- معسكر عقيلة صالح: يحظى بدعم روسيا ومصر وبدرجة أقل من فرنسا، وباعتراف دولي كرئيس لمجلس نواب طبرق (رغم أن أغلب النواب تخلوا عنه)، بالإضافة إلى تأييد قبائل الشرق، وعلى رأسهم قبيلة العبيدات (أكبر قبيلة في الشرق) التي ينتمي إليها.
لكن نقطة ضعف عقيلة عدم امتلاكه لقوة عسكرية كبيرة على الأرض، وحتى المجموعات المسلحة التي تولت تأمينه في وقت سابق، جرّدها حفتر من الأسلحة الثقيلة أو همشها.
ومع ذلك، نجح عقيلة، بدعم دولي وقبلي، في إفشال مخطط حفتر لحكم البلاد عبر تفويض شعبي وهمي، والحصول على حصانة رئيس دولة تحميه من محاكمة دولية على جرائم الحرب التي ارتكبها في ليبيا.
2- معسكر القذافي: ويقوده سيف القذافي، نجل زعيم النظام السابق، والمختفي منذ سنوات بمدينة الزنتان منذ 2015 بعد الإعلان عن إطلاق سراحه، وتحالف هذا المعسكر مع حفتر، في قتال الثوار السابقين.
وقوة هذا المعسكر، في استمرار ولاء عدة قبائل له، خاصة القذاذفة والورفلة والمقارحة، وامتلاك أنصاره لقوة مالية سمحت لهم بإنشاء منابر إعلامية، مثل قناة الجماهيرية، ووكالة الجماهيرية للأنباء وموقع بوابة إفريقيا، ناهيك عن الدعم الروسي.
لكن ولاء الكتائب الأمنية لنظام القذافي مثل كتيبة خميس، واللواء32 معزز، وكتيبة امحمد المقريف، أصبح محل شك، بعدما أعاد حفتر تأطير عناصرها وتوزيعهم على مختلف الوحدات.
نقطة ضعف معسكر سيف القذافي، أنه متابع لدى محكمة الجنايات الدولية بارتكاب جرائم حرب، وعدم امتلاكه لقوة عسكرية موحدة، وافتقاده لدعم دولي باستثناء الروسي.
3- معسكر حفتر: ما زال الجنرال الانقلابي يحظى بدعم الإمارات، كما أنه لم يخسر تماما الدعم الروسي والمصري، ويسيطر على أغلب مليشيات الشرق وعلى رأسها اللواء 106، الأكثر تسليحا، الذي يقوده أحد أبنائه، وكذلك كتيبة طارق بن زياد.
لكن هزيمته في معركة طرابلس، وانهيار مليشياته في الغرب الليبي، وفشله في تنصيب نفسه رئيسا على شرق وجنوب البلاد، أضعف موقفه في الداخل والخارج.
والتوافق الذي حصل بين عقيلة والسراج، كشف عن رغبة دولية في إخراج حفتر من المشهد الليبي بعد أن أصبح حجر عثرة في طريق السلام.
وجاءت محاكمته في الولايات المتحدة الأمريكية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في قضيتين رفعتهما عائلتين ليبيتين، لتعمق جراحه.
فحفتر ليس مهددا فقط بخسارة ممتلكاته في الولايات المتحدة، بل قد تفتح إدانته في الولايات المتحدة الباب أمام محاكمات أخرى، وقد تقبل محكمة الجنايات الدولية النظر في بعضها، مما سيجعله مطاردا قضائيا.
لذلك قد نشهد انهيار معسكر حفتر في أي لحظة وهروبه من ليبيا، تحت ضغط دولي وانقسام داخلي.

تعليقات