تغوص فرنسا يوما بعد آخر، في مستنقع الأزمات الممتد من منطقة الساحل والصحراء، إلى شرق المتوسط، والتي تشكل ليبيا حلقتها المركزية. وبعدما احترقت أوراق باريس في ليبيا مع احتراق ورقة حفتر، الذي راهن عليه قصر الإيليزي إلى اللحظة الأخيرة، أتى انقلاب العسكر في مالي، يوم 18 آب/أغسطس، الذي أطاح بصديق فرنسا الرئيس ابراهيم أبو بكر كايتا (75 عاما) ليُزعزع الأوضاع الأمنية الهشة في منطقة الساحل والصحراء، ويُظهر عجز قوات “عملية برخان” على ضبط الأمور. وتحتفظ فرنسا بقوات قوامها 5100 جندي في منطقة تزيد مساحتها عن ضعف مساحة فرنسا، ما جعلها في مواجهة دائمة مع الجماعات الارهابية، التي غادرت ليبيا نحو الجنوب، لكي تتحصن في الفضاء الصحراوي الشاسع. وكانت مالي أبصرت انقلابا عسكريا مماثلا في آذار/مارس 2012 قاده ضباط ضد نظام اعتبروه عاجزا عن احتواء انتفاضات عرقية هنا وهناك، وصدامات مع جماعات مسلحة سيطرت على شمال البلد.

ولما أرسل الرئيس السابق فرانسوا أولاند قواته إلى المنطقة، في يناير/كانون الثاني 2013 لاستعادة مدن الشمال من الجماعات المسلحة وشبكات المهربين، استطاعت أن تفعل ذلك، لكن مازال أكثر من 5000 جندي فرنسي منتشرين حتى اليوم في تلك المنطقة. ولاشك بأن خلفه ماكرون ندم على التعهد الذي قطعه في 2018 بالقضاء النهائي على الجماعات، إذ أن الحرب في مالي صارت أطول من حرب الجزائر (1954-1962).

ويقول الفرنسيون إنهم تعلموا من انقلاب 2012 ألا يخفضوا من الاستعدادات العسكرية أثناء فترات الاضطراب، لضرورة التحسب من استثمار الجماعات المسلحة انخرام الأوضاع الأمنية في العاصمة، من أجل الاستحواذ على مدن ومواقع جديدة في غفلة من الجميع. ويقول الخبير الفرنسي نيكولا باروت إن باريس تتابع الأوضاع في مالي بقلق شديد باعتباره إخفاقا استراتيجيا. وأقرَ باروت بوجود خلاف داخل القيادة الفرنسية، بين من يدعون إلى الاتعاظ من الإخفاقات السابقة وفتح قنوات حوار مباشرة مع حكومة الوفاق الليبية من جهة، والداعين إلى التمادي في سياسة التحيُز ضدها من جهة ثانية. واعتبر أن الخلاف يعكس مقدار التردد والشك المُحيطين بمركز القرار الفرنسي، سواء في الإيليزي أم في “المديرية العامة للاستخبارات الخارجية”. ويُشجع الاماراتيون الفريق الثاني، فيما يدعو الفريق الأول إلى التزام التوازن في علاقات فرنسا مع الغريمين الليبيين.

وفي إطار المراهنة على حفتر قدمت “المديرية العامة للاستخبارات الخارجية” المشورة إلى قوات الشرق الليبي، على مدى سنوات، عبر ذراعها العسكرية “سرفيس أكشن” بعنوان المساعدة في ملاحقة تنظيم “داعش”. وأدى إسقاط مروحية في بنغازي ومقتل ثلاثة من ضباط المخابرات الفرنسية الخارجية كانوا على متنها، إلى كشف النقاب عن حجم الدعم الفرنسي للجنرال المتقاعد حفتر، إذ تحدثت بعض المصادر عن وجود ما لا يقل عن مئة ضابط ومستشار فرنسي في المنطقة الشرقية. لكن هذه الأرقام تبقى عادة في كنف السرية.

الفرار الكبير

وإمعانا في التحيُز ضد حكومة الوفاق، تلقى عناصر من القوات الخاصة الفرنسية تعليمات بمرافقة قوات حفتر لدى زحفها نحو العاصمة طرابلس في 2019. وكشفت هزيمة تلك القوات في غريان، جنوب العاصمة، النقاب عن حجم الدعم الفرنسي، إذ هربت مجموعة من “المستشارين” عبر الحدود التونسية القريبة، فيما عُثر في القاعدة العسكرية على صواريخ فرنسية مضادة للدبابات من طراز “جافلان” في صناديقها.

إلى هذا الدعم العسكري الواضح، دأبت الدبلوماسية الفرنسية في الأمم المتحدة على تعطيل أي مشروع قرار يمكن أن يصدر عن مجلس الأمن، لدفع الأمور باتجاه تسوية سياسية في ليبيا. كما عرقلت باريس إصدار أي بيان يُدين حصار طرابلس ويطلب وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والقانون الدولي الإنساني، فضلا عن التحقيق في الجرائم ضد الانسانية المرتكبة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة. ولم تجد فرنسا صعوبة في تمرير هذه السياسة بما أن أربعة من الأعضاء الدائمين الخمسة في مجلس الأمن ينتهجون السياسة نفسها، عدا الصين.

ربما كانت أكثر الهزائم إيلاما لحفتر وداعميه الإقليميين (الإمارات ومصر والسعودية) والدوليين (روسيا وفرنسا) انسحابه من ضاحية طرابلس بلا أمل بالعودة إلى تلك المواقع، واضطراره إلى معاودة فتح الحقول والمرافئ النفطية. والأصعب من ذلك تغييبه تماما من المسار السياسي، الذي يُرجح أن يُستأنف قريبا بجهد ألماني. ويتوقع الرئيس السابق للمخابرات العسكرية التركية، العميد اسماعيل حقي بيكين، مع بعض التحفظ، أن مسار برلين سيُحقق تقدما في الفترة المقبلة، إذا ما تم تثبيت وقف إطلاق النار.

المهندس لودريان

في قلب السياسة الفرنسية في ليبيا ومنطقة الساحل عموما، توجد شخصية مفتاحية، هي وزير الخارجية الحالي إيف لودريان، الذي كان مهندس التدخل العسكري سنة 2012 على عهد الرئيس أولاند، لما كان وزيرا للدفاع. واستمر الملف بين يديه عندما اختاره ماكرون وزيرا للخارجية. وعلى الرغم من أن خارطة الطريق التي وضعها لودريان لحماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الفرنسية في ليبيا، قادت إلى الطريق الخطإ، لا تُبدي الحكومة الفرنسية أي استعداد لمراجعتها وإحداث توازن في علاقاتها مع الطرفين المتصارعين. ويعتقد الخبير الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية رومان غيبار أن باريس توقفت عن إرسال السلاح إلى حفتر (كانت تدفع ثمنه الإمارات) لكنها مازالت تحافظ على علاقات متينة مع حفتر “حتى وإن انزعج منها شركاؤها الأوروبيون الذين لم تعد صدورهم تتسع لمجاملة “أمير حرب” بحسب غيبار.

وتحافظ فرنسا أيضا على علاقات قوية مع أنظمة استبدادية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، من بينها حليفها في تشاد ادريس ديبي إتنو، الذي سمى نفسه أخيرا “ماريشال تشاد”. ويرى محللون أن بلدا غنيا بالثروات الطبيعية والامكانات الزراعية مثل تشاد، يخضع منذ ثلاثة عقود إلى حكم الرئيس ديبي وأسرته ضد إرادة الشعب، وبمباركة عسكرية فرنسية. وعلى الرغم من اكتشاف ثروة نفطية في البلد منذ عشرين عاما، فإن أسرة ديبي تستحوذ على إيراداتها لتضعها في الملاذات الضريبية، على ما يقول خبراء فرنسيون. وأسفرت هذه السياسة عن انخرام الأمن في البلد وتعميق الإنقسامات العرقية والمناطقية، وضرب الحريات، فيما وضعت مؤشرات التنمية تشاد في أسفل سلم المؤشرات الاقتصادية والبشرية. وعندما تطالب قوى التغيير بإصلاح الأوضاع في البلد، يأتي جواب باريس وعواصم غربية أخرى أن ديبي يشكل “سورا على الصعيد الاقليمي أمام انتشار الجماعات الارهابية” وأن “لا أحد سواه قادر على احتواء الهجمات الجهادية واستيعاب الصراعات الحدودية”، على الرغم من المجازر الكثيرة التي أمر بها واحترافه إرسال ميليشيات مسلحة إلى بلدان الجوار.

نصائح أمريكية

مع أن مركز بحوث أمريكي نبه فرنسا إلى الكلفة السياسية الباهظة لدعم ديبي، استمرت باريس بمنحه دعما سخيا يوصف بكونه صكا على بياض. ورأى خبراء المركز الأمريكي أن وجود ميليشيات مسلحة ودعم مادي ومعنوي من فرنسا عززا من عنهجية ديبي وزادا من صلفه، وشجعاه على تكريس عبادة الفرد والتلاعب بالدستور للبقاء في الحكم. بمثل هذه الأنظمة الهزيلة تعتقد باريس أنها ستحافظ على مصالحها. وإذا كانت الحوكمة الرشيدة تتقدم فعلا في بعض البلدان الأفريقية، ومنها كينيا وغانا، فإن المستعمرات الفرنسية السابقة في غرب أفريقيا مازالت متعثرة، فبعضها محكوم بأنظمة استبدادية مثل الكامرون وتشاد، وبعضها الآخر يتجه نحو تحويل الجمهوريات إلى ممالك أسوة بالغابون والتوغو وساحل العاج، بالرغم من مرور ستة عقود على استقلال بلدان غرب أفريقيا عن الامبراطورية الاستعمارية العجوز.

أكثر من ذلك، دخل منافسون جدد إلى الملعب الأفريقي، أبرزهم روسيا والصين وتركيا، بما يحكم على النفوذ الفرنسي بمزيد من التقهقر. هكذا يبدو مشهد فرنسا اليوم كالتالي: ساق غارقة في الرمال الليبية المتحركة، والساق الأخرى غائصة في غابة الصراعات الأفريقية المتشابكة. مع ذلك يستحث الرئيس ماكرون جيران تركيا للدخول في احتكاكات معها أملا بالانتقام لهزيمة حليفه حفتر، وإشعال حريق جديد يُنسي ما يحدث في ليبيا.

مع اليونان.. ضد تركيا

عدا ليبيا ومنطقة الساحل، حيث تلقت فرنسا ضربات مؤلمة هذا العام، جعلت بعض الفرنسيين يتساءلون “ماذا نفعل هناك؟” وبعضهم الآخر يدعو إلى عودة الجنود إلى بلدهم، انخرط الرئيس ماكرون في الصراع بين تركيا واليونان، وكان من كبار المشجعين على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، الذي صدق عليه البرلمان اليوناني الخميس. وأثار الاتفاق غضبا في أنقرة، التي اعتبرته ردا على الاتفاقية الليبية التركية الموقعة أواخر العام الماضي، وارتياحا في باريس. أكثر من ذلك قامت قوات من فرنسا وإيطاليا واليونان وقبرص بمناورات عسكرية مشتركة، استمرت ثلاثة أيام، فيما أجرت القوات التركية في الوقت نفسه، مناورات مشتركة مع قوات أمريكية، باعتبارهما عضوين في الحلف الأطلسي.

وأفادت وزيرة الدفاع الفرنسية فلورانس بارلي أن باريس شاركت في المناورات بثلاث طائرات من طراز “رافال” وفرقاطة وحاملة الطائرات شارل ديغول. ودخلت قطع بحرية وطائرات فرنسية على خط الأزمة، في عملية اعتُبرت استفزازا لسفينة المسح الزلزالي التركية “الريِس عروج”، والقطع الحربية المرافقة لها. وإذ كان الملف الليبي “الغائب الحاضر” في تلك المناكفات، مثلما أشار إلى ذلك موقع “الوسط” الليبي، فإن فرنسا كانت النافخ في نار الخلافات، بدافع تحشيد الضغوط على تركيا والانتقام من هزيمة حليفها حفتر في ليبيا.

تدخل ترامب

بالرغم من أن الرئيس الأمريكي تدخل، قي مكالمتين منفصلتين مع الرئيسين التركي والفرنسي، لتهدئة الأجواء ووقف التصعيد من الجانبين، فإن باريس مضت في ممارسة الشحن وسكب الزيت على النار، بما قد يُفجر الوضع العسكري. بهذا المعنى نفهم التحفظ الألماني الذي وضع اليونان وتركيا في نفس الدرجة، وطلب منهما التعقل.

واللافت هنا أن هذه القضية كرست تباعد المواقف بين ألمانيا وفرنسا بشكل أدى إلى شرخ عميق في الاتحاد الأوروبي، إذ اعتُبر “خذلان” ألمانيا لكل من فرنسا واليونان، تكريسا لنهاية الثنائي الفرنسي الألماني، بعدما كانت برلين وباريس قاطرة الاتحاد. والظاهر أن الألمان غير مقتنعين بالحجج التي تعللت بها فرنسا لتبرير هذه الحمية الزائدة، إذ أن السواحل الفرنسية تُطل على الحوض الغربي للمتوسط، بينما الخلاف التركي اليوناني منحصر في الحوض الشرقي. وهكذا خرجت فرنسا حتى الآن خاسرة من تورطها في الخلاف اليوناني التركي، لينضاف هذا الاخفاق إلى انتكاسات الديبلوماسية الفرنسية في كل من ليبيا ومنطقة الساحل. ولاشك بأن استمرار هذه السياسة الانفرادية سيزيد من عزلة باريس ويُعمق شقة الخلاف مع شركائها في الاتحاد الأوروبي، ويُضعف موقفها التفاوضي في حال وُضعت الآزمة الليبية على سكة الحل السياسي.

تعليقات