رشيد خشـانة –  حضّ مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة مجلس الأمن، على الإسراع بالالتفات إلى مطلب تنظيم الانتخابات. غير أن عقبات جمَة ما زالت تعرقل التقدم في هذا الاتجاه.

يسعى رئيس حكومة “الوفاق” فائز السراج إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا بحلول آذار/مارس المقبل، بينما الأوضاع العسكرية والأمنية ما زالت بعيدة عن الأجواء التي يمكن أن تُجرى فيها انتخابات حرة ونزيهة شفافة. وفي مقدم الشروط لتحقيق ذلك الهدف، إغلاق قوس الحرب الأهلية، الذي يبدأ بإنهاء حالة الاستنفار المتبادل بين المعسكرين المتحاربين، في محيط مدينة سرت وقاعدة الجفرة. وفي هذا الإطار دفعت ألمانيا ونائبة رئيس البعثة الأممية للدعم في ليبيا ستيفانى وليامز، أعضاء اللجنة العسكرية المشتركة، المعروفة بـ5+5 إلى مناقشة إقامة منطقة منزوعة السلاح، في كل من سرت والجفرة، وتثبيت وقف نهائي لإطلاق النار.

وأكدت المظاهرات التي اندلعت في طرابلس، لمناهضة الفساد والمطالبة بتأمين الخدمات العامة، وخاصة الكهرباء، ضرورة إطلاق المسار الانتخابي بشكل مستعجل. كما أن مندوب ليبيا الدائم لدى الأمم المتحدة، السفير طاهر السني، ركز كلمته، في الجلسة التي خصصها مجلس الأمن للوضع الليبي، الأربعاء الماضي، على ضرورة الإسراع بالإعداد لتنظيم الانتخابات. غير أن عقبات جمَة تعرقل التقدم في هذا الاتجاه، وفي مقدمها ضرورة الاتفاق على القاعدة الدستورية التي ستُجرى الانتخابات على أساسها. ويمكن حل هذا الاشكال بدعوة لجنة من الأكاديميين المتخصصين إلى مراجعة القانون الانتخابي، الذي أجريت على أساسه انتخابات المؤتمر الوطني عام 2012 ومجلس النواب 2014 من أجل وضع إطار قانوني من صنع ليبي خالص.

ويبدو أن خيار الانتخابات يستهوي أكثر من طرف سياسي في ليبيا هذه الأيام، فقد توجهت شخصيات من النظام السابق برسالة إلى الرأي العام نشرتها بوابة “الوسط” الليبية، وطالبوا فيها بتسريع الحل السلمي وإخراج القوات الأجنبية من ليبيا. واعتبروا أن الأزمة لم تعد مجرد صراع على السلطة والثروة بين أطراف ليبية “بل باتت ليبيا ساحة لصراعات بين أطراف خارجية” منبهين إلى أن بعض الدول، التي لم يُسموها “وجدت في الظروف التي تمر بها البلاد منذ العام 2011 فرصة لتسوية حساباتها الإقليمية والدولية، وتحقيق مصالحها”.

وفي السياق نفسه، يتحرك أنصار سيف الإسلام نجل الزعيم الراحل معمر القذافي لتسويقه انتخابيا بوصفه “رجل الوفاق” مع أن سجله حافل بالجرائم السياسية. وتعكس هذه الحملة رغبة أنصار النظام السابق بالانضمام إلى العملية السياسية، التي يُتوقع أن تنطلق بعد الاتفاق على وقف دائم لإطلاق النار. وكشف اعتقال جاسوسين روسيين في الزنتان، حيث يحظى سيف الإسلام باللجوء حاليا، عن وجود اتصالات بينه وبين روسيا، التي يُرجح أنها تدعم ترشيحه للرئاسة. وما زال أحد الجاسوسين، اللذين استظهرا بهوية باحثين، مسجونا في الزنتان. وسبب مراهنة الروس على نجل القذافي اعتقادهم أنهم تعرضوا لمقلب من الدول الغربية، التي أطاحت بحكم صديقهم معمر القذافي في 2011 ما أدى إلى خسارة صفقات كبرى لم تُستكمل، من يينها صفقات عسكرية ضخمة، بالإضافة لتعليق مشاريع كانت مجموعات روسية تتولى تنفيذها في ليبيا.

من هذه الزاوية تعتبر موسكو أن وقف إطلاق النار، المدعوم أمريكيا، والذي يقضي بنزع السلاح من محور سرت- الجفرة الإستراتيجي، خدعة غربية لإحباط نفوذ روسيا العسكري والاقتصادي والسياسي الدائم في الجارة الجنوبية لأوروبا، باعتبار أن نزع السلاح يعني في المقام الأول، سحب القوات الروسية المتمركزة في المنطقة. وكشف تقرير أعده خبراء أمميون في 24 نيسان/أبريل وقُدم إلى مجلس الأمن، عن وجود جنود خاصين في ليبيا يعملون لدى مجموعة “فاغنر” الروسية، لدعم الجنرال حفتر.

إعجاب أمريكي بالسراج

في المقابل تبدو أمريكا مُعجبة برئيس حكومة “الوفاق” إذ أعلنت “تقديرها للشراكة الوثيقة مع حكومة السراج” في تغريدة نشرتها السبت قبل الماضي، السفارة الأمريكية في طرابلس، على حسابها بموقع تويتر، تعليقا على بيان بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. وكانت البعثةُ دعت في البيان إلى “عملية سياسية شاملة ومتكاملة”. وجاء في التغريدة أيضا أن الولايات المتحدة تدعم سيادة القانون وتحث رئيس الوزراء السراج “على التعاون لما فيه مصلحة توفير الحكم الرشيد للشعب الليبي”. وفي إشارة إلى المظاهرات التي اندلعت في طرابلس أواخر الشهر الماضي، قالت البعثة في بيانها، إن الأحداث الأخيرة التي تشهدها ليبيا “تؤكد الحاجة الملحة للعودة إلى عملية سياسية شاملة ومتكاملة، من شأنها تلبية تطلعات الشعب إلى حكومة تمثله بشكل ملائم”.

لكن السفير طاهر السني اعتبر أن نجاح العملية الانتخابية يتوقف على وجود نوايا صادقة لدى المجتمع الدولي، ودعم كامل من الأمم المتحدة، وتنسيق وثيق مع باقي المنظمات الإقليمية، مؤكدًا أن ذلك يمكن من إنهاء أزمة الشرعيات وتوحيد المؤسسات واستئناف العمل في المشاريع التنموية والسكنية المعطلة.

أمراء حرب بلاحرب

إلا أن العقبة الأكثر تعقيدا على طريق إجراء انتخابات عامة هي الأجسام العسكرية التي سيفقد أمراؤها سلطاتهم وموارد أموالهم غير النظيفة، حالما تنتهي الفوضى الراهنة وتنبثق من الانتخابات مؤسسات تحظى بالشرعية الكاملة. وتتمثل العقبة الأخرى في الصراعات الداخلية للمجلس الرئاسي وحكومة “الوفاق” إذ أن أعضاءهما ليسوا على قلب رجل واحد، ما يُعطل دور الهيئتين في تسهيل إجراء الانتخابات. وطفت على السطح بعض تلك الخلافات في الفترة الأخيرة، ومنها الانتقادات العلنية اللاذعة التي وجهها نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق لرئيس المجلس فائز السراج، وكذلك النقد الشديد الموجه أيضا من وزير الداخلية فتحي باشاغا إلى السراج متهما إياه بالفساد. أما العقبة الثالثة فتتمثل بضخامة أعداد المُهجرين والنازحين الذين سيُحرمون من الإدلاء بأصواتهم، لأنهم يوجدون حاليا خارج مواطنهم الأصلية. اللهمَ إلا إذا اهتدت المفوضية العليا للانتخابات، إلى حلول مبتكرة بالاعتماد على مشروع بطاقة الناخب الالكترونية. وتُقدر إحصاءات موثوقة أعداد هؤلاء المهجرين والنازحين بـ425 ألف شخص، أي ما يمثل حوالي 15 في المئة من الشعب الليبي.

بالمقابل يمكن اعتبار الحلقة الناقصة في مسار الإعداد للانتخابات متمثلة في عدم جاهزية “المفوضية الوطنية العليا للانتخابات” التي ما زالت تشتغل بشكل دائم، بالرغم من تعرُضها لعملية إرهابية استهدفت موظفيها ومقرها الرئيس. وتوقع رئيس المفوضية الدكتور عماد السايح، تحقيق مشاركة كبيرة في أي انتخابات مقبلة تشهدها البلاد، لكنه أبدى استغرابه من دعوة السراج إلى انتخابات في اذار/مارس المقبل، في ظل عدم تقديم الحد الأدنى من الميزانية للمفوضية.

مع ذلك لم يتوقف العمل، فقد ناقش مجلس المفوضية أخيرا، مشروع بطاقة الناخب الإلكترونية، خلال جلسة عمل أدارها رئيسها الدكتور السايح. وتعتبر البطاقة الجديدة وثيقة ذكية تضمن مشاركة الناخب وفق أعلى معايير النزاهة، وهو ما أكدته التجارب الدولية المتقدمة في هذا المجال. والظاهر أن ألمانيا، المكلفة بمتابعة تنفيذ مقررات مؤتمر برلين، بالتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة للدعم، مهتمة بدور المفوضية العليا في أي مسار انتخابي محتمل. وتجلى ذلك الاهتمام من خلال الزيارة التي أداها السفير الألماني، أوليفر أوفتشا، الأسبوع الماضي، إلى مقر المفوضية، وكان مرفوقا بوفد من الخبراء الألمان. واعتبر السايح أن الزيارة علامة على “دعم المجتمع الدولي للمسار الديمقراطي في ليبيا، وحرصه على الاطلاع على مستوى جاهزية المفوضية، لتنفيذ أية عملية انتخابية تقرها أية تسوية سياسية مرتقبة”.

وتسعى المفوضية إلى الحصول على مزيد من الدعم في مجال الخبرات الدولية وتكنولوجيا الانتخابات. ويمكن اعتبار هذه المساعي تصب في خطة السراج، الراغب في إجراء الانتخابات في الربيع المقبل، فيما يسعى حفتر إلى إحباطها، بعدما سمى نفسه حاكما عاما على ليبيا، وهو يخشى من بروز أية سلطة شرعية تُفرزها صناديق الاقتراع، وتحظى بشرعية داخلية وخارجية، لأنها تقوض السلطة التي بسطها بالقوة على الشرق والجنوب الليبيين.

نهاية الفترة الانتقالية؟

الجدير بالإشارة هنا أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية كانت إحدى التوصيات التي نصت عليها مخرجات مؤتمر برلين في النقطة السادسة والعشرين، والتي صادق عليها رؤساء وفود الدول الست عشرة المشاركة في المؤتمر. وأكدت التوصيات على أن نهاية الفترة الانتقالية تكون من خلال “انتخابات برلمانية ورئاسية حرة، ونزيهة وشاملة، وذات مصداقية، تقوم بتنظيمها لجنة انتخابات وطنية عليا مستقلة وفعالة”.

ويعتقد مراقبون أن هناك جسما منتخبا يمكن أن يلعب دورا إيجابيا في الأعمال التمهيدية للانتخابات ثم في إجرائها، بحكم خبرته في هذا المجال، وهو سلك عمداء البلديات، وهم منتخبون انتخابا مباشرا، ولا يمكن لأحد أن يُشكك بصدقيتهم. غير أن البلديات تعاني منذ سنوات من اضطراب حبل الأمن وتأخير تحويل الموازنات إليها. وشكا عميد بلدية سبها عاصمة اقليم فزان (جنوب) الشاوش غربال في تصريحات أدلى بها إلى بوابة “الوسط” الليبية من أن البلدية لم تحصل على اعتمادات من الحكومة. وقال “منذ تسلمنا العمل، وكأي جسم منتخب من الشعب، لم نتسلم أية مخصصات أو ميزانية من المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق (غرب) أو الحكومة المؤقتة (شرق) ولا دينار ولا درهم تم صرفه لنا حتى الآن، وخاطبنا جميع الجهات والوزارات، بالطرق الرسمية، كما ناشدنا البرلمان ولجان الأزمة، ولكن حتى الآن لم يصلنا أي رد. نحن نعمل بمجهودات ذاتية”.

وفي ظل شح الامكانات المحلية يلجأ بعض السياسيين إلى مؤسسات خارجية للمساهمة في تهيئة الأجواء الأمنية الملائمة لإجراء الانتخابات. وفي هذا الإطار اجتمع السراج بوفد من مؤسسة “جونز” الأمريكية للاستشارات الأمنية والعسكرية، برئاسة الجنرال شك والد، يرافقه الجنرال توم والدهاوسر، وعدد من كبار مسؤولي المؤسسة. ولم يرشح شيء عن هذا الاجتماع، لكن الأرجح أن واشنطن ستشرف على نشر قوات شرطية مشتركة في الجفرة وسرت، بدعم أممي، لتأمين الحكومة الموحدة، التي يُفترض أن تحتضنها مدينة سرت. لكن لا أحد يستطيع أن يضمن شيئا من هذا القبيل في الوقت الراهن، لأن المسار ما زال في بداياته. وقد يكون هذا الدور الأمريكي، إذا ما تكرس في الواقع، أرضية لعودة أمريكا إلى ليبيا، بعد غياب استمر منذ 2012 تاريخ اغتيال سفيرها جون كريستوفر ستيفنز يوم 11 أيلول/سبتمبر في مكاتب القنصلية الأمريكية ببنغازي.

لكن لا يُعرف الموقف الأمريكي من الدور الذي تعتزم تركيا القيام به لمعاودة بناء الجيش الليبي “من الصفر” عبر اتفاق تم توقيعه مع حكومة “الوفاق” يقضي بتحويل الميليشيات إلى جيش نظامي. ويندرج في إطار هذا الاتفاق “إنشاء مرافق للتدريب والاستشارات وإرسال مستشارين وعناصر عسكرية (تركية) إلى ليبيا”. ويعتمد نجاح هذه الخطوة على مدى قدرة أنقرة على إيجاد شركاء أقوياء يدعمون هذه “الشراكة” خصوصا ألمانيا وأمريكا، القلقتان من الاهتمام الروسي المتزايد بليبيا. وما يُعزز موقف حكومة “الوفاق” في هذا الصدد، أن واشنطن وبرلين لم تتخذا موقفا علنيا من مبادرات أنقرة وتداخلاتها في ليبيا، على عكس الأمر في سوريا.

تعليقات