رشيد خشانة – عادت تركيا إلى الفضاء المتوسطي، بعدما أمضت سنوات تطرق أبواب الاتحاد الأوروبي، أملا بالحصول على عضوية كاملة. اعترضت دول وازنة في الاتحاد على ضم بلد إسلامي قوامه قرابة 100 مليون ساكن، بالرغم من أن أنقرة قبلت بسن قوانين واعتماد إصلاحات جديدة استجابة للشروط الأوروبية. ومنذ أغلق الأتراك في عهد “حزب العدالة والتنمية” الإسلامي، قوس المفاوضات مع الأوروبيين، استداروا إلى محيطهم الاستراتيجي يبحثون عن بناء تحالفات جديدة. وبالإضافة إلى بلدان آسيا الوسطى، المرتبطة تاريخيا بالدولة العثمانية، مثل أذربيجان وأوزباكستان وتركمانستان، ركزت تركيا أيضا على محيطها المتوسطي، بدءا من سوريا وليبيا وتونس وصولا إلى الجزائر. وغدا هذا الفضاء يحظى بالأولوية في خطط “العدالة والتنمية” على إثر صعوده إلى سدة الحكم في العام 2002. ووصف مُنظر الحزب أحمد داود أوغلو، الذي تولى لاحقا رئاسة الحكومة، هذه المنطقة الممتدة من آسيا الوسطى إلى شمال أفريقيا، بـ”العمق الاستراتيجي”. وهو يرى في المنطقة المتوسطية جسرا لتحويل تركيا إلى قوة إقليمية متوسطة الحجم.

وتبوأت ليبيا موقعا بالغ الأهمية في العقل الاستراتيجي التركي، لأسباب تاريخية أولا، فقد استنجد بها الليبيون لتحرير بلدهم من احتلال “فرسان مالطا” في 1551 ثم أصبحت ولاية عثمانية، إلى أن احتلها الإيطاليون في 1911 وكان من بين المشاركين في تلك الحرب الزعيم التركي مصطفى كمال، الذي صار أول رئيس للجمهورية التركية. أما الاعتبار الثاني فهو استراتيجي ويتعلق بموقع ليبيا بوصفها معبرا من سواحل المتوسط إلى الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل. والاعتبار الثالث اقتصاديٌ، إذ شكلت ليبيا منذ عهد معمر القذافي سوقا كبيرة للمنتوجات التركية، ومجالا فسيحا للمقاولات التي عهد لها الليبيون ببناء المطارات ومد الطرقات السريعة وإقامة الجسور والموانئ والمشاريع السكنية.

ومنحت ثورات الربيع العربي فرصة غير متوقعة للأتراك لإقامة علاقات مباشرة مع قوى سياسية واجتماعية مؤثرة في ليبيا، حتى أن كثيرا من وسائل الإعلام الليبية هاجرت إلى اسطنبول لتبث من هناك، وتحاول التأثير في الرأي العام الليبي، من دون تعريض عناصرها ومكاتبها لضربات الميليشيات أو انتقام السلطات في الشرق كما في الغرب.

تورغوت أوزال

وخلافا لما كتب بعض الخبراء الغربيين المتخصصين بالشؤون التركية، من أمثال الفرنسية دوروثي شميت، لم يُعد الأتراك “اكتشاف ليبيا” بعد الربيع العربي، وإنما انطلق هذا المسار منذ عهد الرئيس الراحل تورغوت أوزال (1989-1993). ويؤكد مؤرخون أن الدولة العثمانية انكفأت على نفسها وتراجعت مكانة المتوسط في أذهان قادتها، بعد سلسلة الهزائم العسكرية، التي جعلتها تفقد ولاياتها المطلة على هذا البحر، بدءا من اليونان (1821) وقبرص (1878) والجزائر (1930) وتونس (1881) ومصر (1882) وانتهاء بليبيا (1911). أكثر من ذلك أدت هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى، والتوقيع على “معاهدة سافر” (1920) إلى التخلي تماما عن سواحلها المتوسطية. وبفضل “حرب الاستقلال” التي قادها مصطفى كمال، استعادت مقاطعاتها المشرفة على هذا البحر، بموجب معاهدة لوزان (1923).

وتقول الخبيرة آمال برلار دال الأستاذة في جامعة مرمرة التركية، إن “القادة الأتراك يعتقدون راسخ الاعتقاد أن البحر المتوسط بحرُنا، فقد كان كذلك على مدى قرون وسيستمر مدى الدهر. إنه نافذتنا على العالم”. وتعزو دال هذا التصور إلى السببين التاليين: الأول هو إرادة امتلاك الفضاء الشرقي للمتوسط من جديد، باستدعاء التاريخ المعاصر (وهذا ما يُسميه داود أوغلو بـ”العمق التاريخي”) فيما يتمثل العنصر الثاني في النظرة الوظيفية لهذا البحر، بوصفه وسيلة للانتشار الاقتصادي والثقافي في المنطقة المتوسطية وما ورائها، بحكم موقع تركيا الجغرافي الفريد في مفترق القارات، وهو ما يصفه داود أوغلو بـ”العمق الجغرافي”. علما أن سواحل ليبيا المتوسطية تبلغ 4000 كلم، أي أكثر من ضعف السواحل الليبية. وفي هذا الإطار تضيف الخبيرة دوروثي دال أن البحر المتوسط، الذي كان في الماضي مرادفا للهزائم والاذلال والبلقنة، ارتدى اليوم معاني إيجابية في المخيال الجمعي التركي.

قوة متوسطة الحجم

في خط مُواز، تغيرت وظيفة تركيا، العضو البارز في الحلف الأطلسي، من ستار حديدي لاحتواء التمدد السوفييتي نحو المياه الدافئة، إلى قوة متوسطة ذات مصالح إقليمية مع شركاء محتملين في المنطقة. وهكذا عززت علاقاتها مع الدول المتوسطية اعتبارا من 2005 وخاصة بعد 2009 وهي السنة التي تسلم فيها داود أوغلو حقيبة الخارجية في حكومة “العدالة والتنمية”. وبرأيه يشكل المتوسط الفضاء الطبيعي لإعادة إدماج تركيا في الساحة الدولية، وتمكينها من لعب دور إقليمي متصاعد.

من هنا عاد اهتمام النخبة التركية بتطوير العلاقات مع هذه الدول، والذي جسدته الاتفاقات الموقعة مع كل من ليبيا وتونس والجزائر، والتي بوأت تركيا مكانة مميزة، في منافسة شديدة مع القوى الأوروبية التقليدية. وتعكس الهجمات المتواترة للرئيس الفرنسي ماكرون على تركيا وانتقاداته لدورها في شرق المتوسط، وجها من وجوه هذا الصراع على النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة.

وفي هذا السياق اتجهت أنظار صناع القرار الأتراك إلى ليبيا، التي ترافقت إعادة اكتشافها في المخيال التركي، مع معاودة تقدير المصالح المشتركة التي يمكن بناؤها بين الجانبين. ومع أن داود أوغلو استقال من رئاسة الحكومة، انتهج صُناع القرار بعده الطريق التي وضع معالمها، قبل استقالته، ومفادها أن على تركيا أن تتطور من دولة طرفية إلى دولة مركزية. وأفضى هذا النهج إلى تحقيق نقلة في العلاقات الثنائية مع كل من تونس وليبيا بشكل خاص. وشكلت مذكرة التفاهم الخاصة بالتعاون العسكري والأمني، التي تم التوصل إليها في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية، انعطافا جوهريا في الصراع الليبي الليبي، إذ كرست بداية تقهقر قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، التي حاصرت العاصمة طرابلس طيلة أكثر من عام، وكادت تقبض على أعضاء الحكومة والمجلس الرئاسي.

طائرات مسيرة

بقدر ما كان دخول المرتزقة التابعين لشركة “فاغنر” الأمنية الروسية، الحرب إلى جانب قوات حفتر، خطوة ذات تأثير حاسم في تغيير الموازين العسكرية، كان تدخل الطائرات التركية المسيرة، من طرازي “بيرقدار” و”أنكا” (العنقاء) هو الذي حقق التفوق على قوات الشرق، وأنهى الضغط على حكومة الوفاق، بسيطرتها الكاملة على الأجواء. وكانت أولى الانتصارات العسكرية للقوات الموالية لـ”الوفاق” سقوط قاعدة الوطية (140 كلم جنوب العاصمة) في الليلة الفاصلة بين 17 و18 أيار/مايو الماضي. وبعد مطاردة القوات المقابلة، توقفت قوات “الوفاق” عند شارف مدينة سرت، حيث ما زال الوضع يتسم بالتوتر بالرغم من سكوت المدافع استجابة لوساطة ألمانية. غير أن وقف إطلاق النار ما زال هشا، فيما ما زالت الاتصالات السياسية لم تعط ثمارها من أجل وضع محادثات السلام على السكة.

على خلفية هذه الانتصارات، وهي الأولى التي تحققها حكومة “الوفاق” تبلور المحور السياسي-العسكري أنقرة /الدوحة /طرابلس، الذي جسده الاجتماع الأخير لوزراء دفاع البلدان الثلاثة خلوصي أكار وخالد بن محمد العطية وصلاح النمروش، مرفوقين بقادة أركانهم. وحسب صحيفة “ترك برس” التركية، تطرق المسؤولون العسكريون في اجتماعاتهم إلى الأنشطة المُنفذة في إطار التعاون الأمني والعسكري. ويحظى هذا التجمع المناهض للتمدد الروسي في ليبيا، بعطف أمريكا، وهو ما قد يكون أبلغه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو خلال اجتماعه الأسبوع الماضي مع نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، في الدومينيكان، وكان الملف الليبي محوره الرئيسي. وأسفرت تلك المباحثات عن اتفاق على مواصلة التشاور في مستوى الخبراء بشأن ليبيا. في الوقت نفسه، أكد الروس والأتراك، المُزودون الرسميون للمتحاربين بأحدث الأسلحة والمقاتلين، أنهم سيثابرون على المشاورات السياسية، من أجل المحافظة على وقف إطلاق النار وبدء الحوار السياسي.

اتفاق أستانا ليبي؟

من المؤكد أن هذا الملف يحظى باهتمام الرئيسين التركي والروسي، إذ أن اجتماع الوزيرين لافروف وأوغلو أتى تنفيذا لاتفاقات تمت في مكالمة هاتفية سابقة، بين الرئيسين اردوغان وبوتين حول ليبيا وسوريا. لكن لم تظهر بعدُ مؤشرات تدل على توقفهما عن إرسال الأسلحة إلى الطرفين المتحاربين، ولا على الاتجاه نحو تفاهم شبيه باتفاق أستانا الخاص بالحرب في سوريا.

أما الموقف الغربي فيُراوح بين الدعم الأمريكي الخفر لحكومة “الوفاق” في أعقاب خيبة أملها من الجنرال حفتر، وموقف الحلف الأطلسي، الذي أعلن أمينه العام يانس ستولتنبرغ أن الحلف لا ينوي الاعتراض على دور تركيا في ليبيا، وهي دولة عضو في الحلف، كما أنه لا يستطيع وضع حفتر “في كفة واحدة مع الحكومة الليبية التي تعترف بها الأمم المتحدة” على ما قال.

وحسب تقرير صدر أخيرا عن البنتاغون، أرسلت تركيا 3500 مقاتل سوري إلى ليبيا خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة لدعم قوات حكومة الوفاق، مشيرا إلى أن موسكو ترسل أيضا مقاتلين لم يُحدد التقرير أعدادهم، تابعين لشركة “فاغنر” من سوريا إلى ليبيا، لتعزيز قوات حفتر. والأرجح أن ما حصدته تركيا أهم بكثير مما استطاع الروس تحقيقه في ليبيا، وهو ما يؤكده الخبير في الشؤون الليبية جان دومنيك مرشي، الذي يعتقد أن التدخل التركي، في ليبيا أواخر السنة الماضية، لمنع سقوط حكومة “الوفاق” وكسر الطوق عن ضواحي طرابلس الجنوبية، أحدث تغييرا مفاجئا في الموازين العسكرية. وعزا التفوق الذي حققته قوات حكومة الوفاق على قوات الشرق، إلى أن الرئيس اردوغان وضع كل ثقله في الميزان اعتبارا من حزيران/يونيو الماضي، فأمد قوات “الوفاق” بالضباط والطائرات المسيرة والأسلحة المتطورة، ما أتاح له الاستئثار بأوراق الحرب والسلام في ليبيا.

أوراق الحرب والسلام

ويمكن القول إن القوى التقليدية في المتوسط، وخاصة منها فرنسا وإيطاليا، فقدت الأدوار التي كانت تقوم بها في ليبيا، بعد الاختراقين الروسي والتركي، إذ تغيرت علاقة القوة بين الغريمين الليبيين، حكومة الوفاق والجنرال المتقاعد حفتر، لكنها أعادت، في الوقت نفسه، تشكيل التحالفات في شرق المتوسط، بعد فرض الدور التركي كلاعب أساسي في مواجهة روسيا.

أكثر من ذلك، بدا الاتحاد الأوروبي اليوم لاعبا صغيرا مع تعاظم دور أنقرة، وهو ما تجلى في ضعف التضامن مع اليونان العضو في الاتحاد، في خصومته مع الأتراك. وفيما تتمسك ألمانيا بمسار برلين، وتسعى بشكل خاص إلى تفعيل الحوار العسكري المعروف بـ5+5 الذي يجمع ضباطا من الطرفين، لا وجود لاتفاق أوروبي على موقف موحد من الأزمة الليبية، سوى التوجس من صعود تركيا، الذي هو القاسم المشترك. وحسب الخبيرة كريستين شاتينو تتلخص أولويات الرئاسة الألمانية الحالية، بخمس ليس بينها الملف الليبي، أهمها خطة الانعاش الأوروبية بعد جائحة “كوفيد-19” والموازنة الاتحادية والمفاوضات مع بريطانيا لتفادي طلاق قاس. أما باقي الملفات فيُرجح إرجاؤها بالنظر لضغوط الأزمة الاقتصادية والصحية، وهذا ما يمنح تركيا هامشا أوسع للحركة في المستقبل.

تعليقات