رشيد خشانة – مع أن الرئيس حبيب بورقيبة هو من فرض قانون الأحوال الشخصية، بعد شهور من الاستقلال في 1956 ومنح المرأة حقوقا لم تكن تحلم بها، فإنه تعاطى بقسوة مع الفتيات اللائي انخرطن في العمل السياسي اليساري، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. تعرضت اليساريات اليافعات إلى الاعتقال والتعذيب، ومثلن أمام محكمة أمن الدولة بتهم شتى.

بعد أربعين عاما التقت الناشطات ليكتبن سردياتهن عن ذلك الجدار الذي لو لم يخطفن أجزاء منه، لانهار بلا عودة وضاع إلى الأبد. واعتبرت الصحافية والناشرة زينب فرحات، التي حولت السرديات الشفوية إلى كتاب صادر أخيرا عن دار النشر “زنوبيا” أن تلك الفتيات “وقفن وقفة أنتيغون ليقلن لا لمشروع السيطرة المطلقة لنظام ما بعد الاستقلال”. أما المشرفة على المشروع الكاتبة والإعلامية العراقية هيفاء زنكنة، فتشرح كيف جمعت اليساريات، لا لكي يُقدمن تفاصيل عن الاعتقال والتعذيب وحسب، على أهميتها، وإنما لتقديم سرد شخصي محوره حدث يضيء الماضي القريب، بنمط في الكتابة يختلف عن القصة، لأنه بلا نهاية محددة، ويتميز بالدعوة المفتوحة للمشاركة مع الآخرين. لذا أتت الشهادات/ القصص الإخبارية حاملة مشاعرهن وأفكارهن، وتلك الومضات والمواقف الإنسانية الحميمة، الفردية منها والجماعية، بين رفيقات الدرب، وهن يعشن أصعب الظروف.

ست مناضلات

ربما من الصدف الجميلة أن المشاركات في الورشة كُن ينتمين إلى “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي” الذي كان يُصدر المجلة الفكرية “آفاق تونسية” فيما كانت زنكنة التي أدارت ورشة الكتابة الإبداعية، مع ست مناضلات تونسيات، ينتمين إلى تنظيم مشابه في العراق، وفي الفترة نفسها تقريبا. واللافت أيضا أن التنظيمين العراقي والتونسي اشتغلا كثيرا على دعم الفيتنام ضد الغزو الأمريكي، وتجلى ذلك في مناسبات عدة بينها تسيير الطلاب التونسيين مظاهرة في العاصمة تونس، ضد زيارة نائب الرئيس الأمريكي هيوبرت همفري العام 1968 ثم وزير الخارجية وليم روجرز العام التالي.

في الجامعة التونسية كان عدد الفتيات مُهما لأن تعليم البنات بدأ في زمن مبكر، وخاصة بعد تأسيس مدرسة نهج (شارع) الباشا الخاصة بالفتيات في 1911 والتي درست فيها بعض المناضلات اليساريات. وتقول أستاذة التاريخ الدكتورة ليلى تميم البليلي، التي كانت من بين المناضلات المعتقلات في 1973 إن حضور الفتيات في الجامعة كان واسعا جدا سواء كن من تونس العاصمة أم من المدن الداخلية أم من المناطق النائية. وشاركن في الاجتماعات وحلقات النقاش وقمن بتأطير المظاهرات في الشوارع. وعلقت البليلي بأن قسما كبيرا من شباب الجامعات في السبعينيات اختار معسكره، وهو أيديولوجيا اليسار، أيا كانت انتماءاتها شيوعية أم ماوية أم تروتسكية أم قومية عروبية. وعلى الرغم من خلافاتها الداخلية، تقف تلك التيارات صفا واحدا أمام خصم مشترك هو الطلاب الدستوريون، المنتمون للحزب الواحد “الحزب الاشتراكي الدستوري”.

شغفٌ بكانط وروسو

في هذا المناخ انخرطت طالبة الفلسفة زينب بن سعيد في المعترك السياسي، وهي تقول إن تلك النقلة كانت انعطافا في حياتها، فهي كانت شغوفة شغفا كبيرا بكانط وروسو ولم تكن قد قرأت بعدُ ماركس. مع ذلك كان أحد مُدرسي الفلسفة في تلك الكلية نفسها ماركسيٌ بارز هو ميشيل فوكو. وتنقل زينب شهادة أستاذها فوكو عن الغليان الطلابي في تلك السنة، إذ قال “كانت تجربة مذهلة. كنا في اذار/مارس 1968 وشهدنا إضرابات وانقطاعا عن الدروس واعتقالات وإضرابا عاما للطلاب. اقتحمت الشرطة الجامعة وانهالت بالضرب على عدد كبير من الطلاب بالهراوات فجرحت كثيرا منهم. حوكم بعضهم (في محاكمة سياسية) وحُكم على بعضهم بثماني سنوات سجنا، والبعض الآخر بعشر سنوات، بل حُكم على آخرين بأربع عشرة سنة”. أما زينب فعادت من باريس إلى تونس العام 1972 بعدما أكملت دراستها العليا. وانضمت هناك إلى “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي” حيث باشرت الاتصال بالعمال التونسيين وتوزيع منشورات التنظيم عليهم. غير أن عودتها تزامنت مع سلسلة من المآسي التي حلت بأسرتها بسبب الالتزام السياسي، إذ اعتقل شقيقها محمد الطالب في كلية الطب بعد انتخابه عضوا ممثلا للطلاب في المجلس العلمي للكلية. وتصف زينب كيف اقتاد رجال شرطة شقيقها إلى بيت الأسرة، مكبل اليدين لتفتيش غرفته، أملا بالعثور على منشورات سرية. وتصف كيف كانت والدتها ترتجف وتصرخ “لماذا تقيدوا يديه؟ ابني ليس مجرما؟ أطلقوا سبيله” وكان مصير محمد تجنيده في إحدى الثكنات البعيدة حيث تعرض لسوء معاملة استوجبت إدخاله المستشفى. أما شقيقتها هاجر فاعتقلت في سياق حركة شباط/فبراير 1972. ووصفت زينب حال والدتها التي لم تفهم مصدر سوء الحظ الذي ضرب أبناءها الثلاثة، بعدما كانت تشجعهم وتساندهم بقوة “لكنها باتت تعتقد أنهم مفرطون في الاندفاع”.

في نهاية رواق الذكريات، الذي تقودك هيفاء زنكنة عبر محطاته المختلفة، تسرُ إليك بأن هذا الكتاب يحتضن أصوات نساء استثنائيات يقفن بنضالهن جنبا إلى جنب مع الأسيرات الفلسطينيات المحررات وبقية المعتقلات والسجينات السياسيات التونسيات، على مدى سنوات ما بعد الثورة. إنهن استثنائيات بامتياز، لعدة أسباب أولها أنهن رفضن قبول الأمر الواقع، بعبوديته وظلمه، وثانيها أنهن واصلن النضال وهن داخل المعتقل والسجن، إذ واجهن السجان والجلاد بصلابة أفشلت محاولاته للسيطرة عليهن وإخضاعهن لما يريد. أما الثالثة فهي متابعة النضال بأشكال جديدة بعد إخلاء سبيلهن، بالرغم من القيود الإدارية وحرمانهن من الحقوق المدنية، والتضييق عليهن حتى في كسب القوت.

المعطف الأحمر

توفقت زينب في وصف المواقف المختلفة والمتضاربة التي عاشتها كأم ومناضلة وزوجة ومدرسة فلسفة، ثم كمفصولة من العمل لسنوات من المدارس العمومية. وحتى لما قبل صاحب معهد خاص أن يشغلها، كان دخلُها لا يسد رمق أسرة مؤلفة من خمسة أفراد. ونقتبس من الكتاب هذه السطور عن ظروف استنطاقها في 1974 إذ كتبت “استمر استجوابي في سوسة أسبوعين على الأقل. كانت أساليب التحقيق أكثر إنسانية (من وزارة الداخلية). كان لدي سرير وبطانيتان خفيفتان من النوع الذي يُستخدم عادة في الثكنات. حصلت على هذا الامتياز بعدما قضيت ليلة نائمة على الأرض في مكتب بالطابق الأرضي على حصير كبير مخصص لمسح الأحذية الملوثة. استلقيت عليه وتغطيت بمعطفي الأحمر الجميل. كان معطفا طويلا اشتريته من باريس العام 1971 بمناسبة موسم التنزيلات. لم أتصور أن هذا المعطف سيغطيني يوما في مركز للشرطة في بلدي العزيز، الذي كنت أستعجل العودة إليه لتعليم الفلسفة”.

كان هذا هو الوضع الذي عاشته أيضا أستاذة الفلسفة العائدة من باريس آمال بن عبا، التي طرحت هي ورفيقاتها السؤال التالي “كيف يمكن تفسير هذا الصمت الطويل لمناضلات منظمة (آفاق) وأنا واحدة منهن عن القمع الوحشي الذي تعرضن له في السبعينيات من اعتقالات غير قانونية وتعذيب في محلات أمن الدولة ومثول أمام هيئات قضائية استثنائية أفضت إلى أحكام سجنية بالنسبة للبعض منا؟”. وتمضي سائلة في نصها الذي يحمل عنوان “تجربة حياة”: لماذا تطلب الأمر كل هذه السنوات قبل أن تلتقي أحاديثنا ويُرفع الستار، أخيرا، عن هذا الماضي المشترك؟”. وتجيب آمال على سؤالها بالإشارة إلى أن الجلاد لوث فعل الكتابة نفسه، إذ كان يُرغمهن على كتابة مسارهن النضالي تحت التهديد، من أجل الكشف عن هويات رفاقهن، وكلما وجدوا ذلك غير كاف، مزقوا الأوراق وطلبوا منهن معاودة الكتابة.

التداوي بالحكي

عائشة قلوز هي أنتيغون أخرى دُعيت إلى الورشة لتقص سرديتها عن أحداث “تراكمت فوقها طبقات من الصمت والنسيان” مثلما قالت، مضيفة أن “الكتمان في علم الطب داء ينخر النفس، ولا دواء منه إلا بالحكي لأن ما عشناه يبقى قطعة منا إلى الأبد، ولأننا تركنا فيه حفنة منا في جميع الحالات”. وتمضي عائشة متحدثة عن لقائها مع رفيقاتها فتكتب “يوم اللقاء استدعيتُ بكاء طالما راود جفوني، فإذا بضحكة تنسيني كل الدموع”. ومنحت الورشة فسحة لعائشة لم تكن تتوقع لذتها. “ما حكيت يوما لأحد عن تلك الذكريات، ولا شاركني أحد مخاوفي ورعبي وشوقي إلى تقاسم الأوجاع. تكلموا عني وما تكلمت عن أحد واحتفظ كلٌ بصندوقه الأسود”.

غير أن عائشة تكلمت فعلا هذه المرة، مُبتدئة بهذه الجملة “أنا السجينة السياسية رقم 362. هذا هو المُعرَف الذي تداولته الوثائق الإدارية. كان ذلك منذ 46 سنة أي منذ اعتقالي، واستعدت هذا اللقب عندما راجعت رسائل كانت ترد علي من رفاق بعضهم غاب عن نظري وبعضهم الآخر واراه تراب النسيان وبعضهم الثالث واراه تراب الأرض”.

إلى قصر الأميرات

كانت السجينة 362 واحدة من “بنات السياسة” مثلما يُلقبن في السجن، وهو اسم أسبغته عليهن الحارسات تمييزا لهن عن سجينات الحق العام، بحسب اليسارية ساسية الرويسي، التي سلكت نفس المسار بانتمائها إلى التنظيم نفسه، ومثولها أمام محكمة أمن الدولة، ومن ثم الزج بها في سجن النساء في ضاحية منوبة. ومن الطرائف التي تخبرنا بها ساسية أن هذا السجن ليس سوى قصر كان مخصصا لأميرات الأسرة الحسينية قبل إعلان النظام الجمهوري في 1957. لكن عندما دخلت إليه اليساريات، بعد نحو عقدين من الزمن، بات متداعيا وحمَاماته مُقرفة. ولم يطل مقام المناضلات اليساريات في هذا السجن، إذ تراوحت الأحكام الصادرة في حقهن بين ستة شهور سجنا نافذا وسنة مؤجلة التنفيذ.

بعدما أخفقت الحركة اليسارية في الارتباط بالطبقة العاملة التي كانت تتطلع للالتحام بها، منحتها الحركة النقابية فضاء فسيحا، خصوصا مع توتر العلاقات بين الحكم وقيادة النقابات العمالية في أواخر السبعينيات. ووجد المدرسون اليساريون المفصولون سندا قويا في نقابة التعليم الثانوي، التي دافعت عن إعادتهم إلى مراكز عملهم، لا بل نفذت اضرابا عاما للقطاع دعما لمطلبهم المشروع. وأثناء الصدام بين حكومة هادي نويرة واتحاد النقابات، مطلع 1978 كان اليساريون، ومنهم زينب بين المحاصرين في مقر الاتحاد لدى اقتحامه من قوات الأمن، فعرفت مجددا الاعتقال والاستنطاق داخل مقر الداخلية.

انتظرن قرابة أربعين سنة قبل أن تُبصر أعينهن أمواجا من البشر زاحفة نحو مبنى وزارة الداخلية في قلب العاصمة يوم 14 كانون الثاني/يناير 2011 قبيل هروب بن علي من البلد. تصف ساسية كيف وجدت رفيقاتها ورفاقها السابقين، في الجادة الكبيرة، من دون اتفاق مسبق. كانوا يتعانقون ويقبلون بعضهم البعض، فبن علي سيرحل والثورة على قدم وساق. “ربما هي ليست الثورة التي حلمنا بها” تقول زينب، “لكن النظام الاستبدادي انهار”. منذ تلك اللحظة قررت زينب الانخراط في السياسة مجددا. ومع اقتراب ميقات الانتخابات العامة، وكانت أول انتخابات حرة وشفافة منذ الاستقلال، انتابها شعور بالخلاص ونهاية القمع وهي تتوجه إلى مركز الشرطة القريب، لكي تعرف أين المساحة المخصصة لوضع بياناتها الانتخابية على جدران مدينة منوبة. وعلقت قائلة “أزاحت تلك البادرة تاريخا من القهر مارسته أجهزة الدولة على المنادين بالتعددية السياسية”. لكن “حزب العمل” الذي انضمت إليه زينب لم يحصد أي مقعد في المجلس التأسيسي (الجمعية التأسيسية).

المحافظة على الذاكرة

انتهت غالبية المشاريع السياسية التي قادها اليسار الجديد بعد الثورة، إلى الفشل، فهو لم يعرف كيف يتكيف مع التغييرات الاجتماعية الكبرى التي عرفها البلد طيلة ربع قرن. وفي الأخير أسست زينب مع رفيقاتها ورفاقها القدامى جمعية ضمن مسار مواطني، للمحافظة على ذاكرة ذلك الجيل من المناضلين من أجل الحرية. وأزاحت الجمعية الغبار عن تاريخ اليسار ومساهماته في تطوير الحركتين الفكرية والثقافية، وخاصة عبر مجلته “آفاق” التي أعيدت طباعة أعدادها، بعدما كانت مطاردة ومصنفة في خانة الممنوعات.

سردت الناشطات مساراتهن بكامل الشفافية، فأكملن بذلك حلقة كانت مفقودة من الذاكرة الجماعية ومن تاريخ النخبة المتمردة على الدولة الوطنية في بواكير الاستقلال. كان حصاد الورشة شهادات ثمينة بإيقاعات مختلفة، عن حقبة أليمة لم تمنع غالبيتهن من استئناف الدراسة بعد السجن، ونيل شهادات الدكتورا، فيما تبوأ بعضهن مراكز مهمة في الدولة. والثابت أن المناضلات اللائي لم يطلبن يوما أي نوع من التعويض عن تضحياتهن، يدركن أن أشياء كثيرة تغيرت في النظرة المجتمعية إلى المرأة، وقدرتها على حمل مشروع اجتماعي كان حكرا على الرجال، “ففي دخول السجن اقتحام لمناطق يحكمها الرجال” مثلما تقول زينب فرحات، ناشرة الكتاب. ولعل في ذلك وجها من وجوه المساواة بين الجنسين.

تعليقات