رشيد خشـانة – يتأسس هذا الحل على إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لكي تتألف مستقبلا من مجلس رئاسي يضمُ رئيسا ونائبين فقط بدل تسعة، ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس.

أسفرت اجتماعات بوزنيقة في المغرب ومونترو في سويسرا عن تقريب الشقة بين الفرقاء الليبيين، ما أتاح بلورة خريطة طريق أولية، للتدرج نحو انتخابات عامة، رئاسية وبرلمانية في نهاية 2021 أو بداية 2022. تعني “بوزنيقة” في اللهجة المغربية الشارع الضيق، فهي تصغير لـ”زنقة” (شارع) غير أنها اتسعت لأعضاء الوفدين الليبيين، من أجل وضع معالم حل سياسي للأزمة المستمرة منذ 2014. يتأسس هذا الحل، طبقا لمخرجات الاجتماعات التي استمرت ثلاثة أيام، على إعادة هيكلة السلطة التنفيذية لكي تتألف مستقبلا من مجلس رئاسي يضمُ رئيسا ونائبين فقط بدل تسعة، ومن حكومة وحدة وطنية مستقلة عن المجلس.

وفي خط مواز تجد المبادرة الأممية التي تتبناها أمريكا وألمانيا، طريقها نحو إقامة منطقة منزوعة السلاح، بشكل تدريجي، بدءا من مدينة سرت (450 كلم شرق طرابلس) إلى قاعدة الجفرة، مع وضع آلية رصد دولية مشتركة لمراقبة وقف إطلاق النار، وهي آلية لم تلق ترحيبا من الجنرال خليفة حفتر، الذي ما فتئ يعارض هذا المسار برمته. وقد يكون مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر، يشير إلى الجنرال حفتر، عندما تحدث في محاضرة بمعهد “بروكنغز”، عن وجود أشخاص عنيدين في ليبيا. كما شدد، في تلك المحاضرة، على أن من غير الممكن حل النزاع الليبي عسكريًا، وهذا نقيضُ الموقف المعروف عن حفتر. وكان الأخير رفض التوقيع على اتفاق لوقف القتال في موسكو وأبو ظبي، مُصرا على حسم عسكري لم يأت ولن يأتي.

على أن ما يتوجس منه الليبيون اليوم، هو احتمال توافق مجلس النواب (طبرق) والمجلس الأعلى للدولة (طرابلس)، على الدخول في مرحلة انتقالية جديدة تضمن التمديد لأعضائهما، عوضا عن الاتفاق على انتخابات جديدة يختار فيها الشعب ممثلين جُدُدا.

تباعد في المواقف

غير أن المجلس الأعلى للدولة، كثيرا ما أكد على ضرورة الذهاب إلى استفتاء على الدستور، قبل التوجه إلى الانتخابات، بينما يفضل عقيلة صالح انتخاب عضو من كل إقليم من الأقاليم الثلاثة (فزان وبرقة وطرابلس)، لتشكيل مجلس رئاسي يتخذ من سرت مقرا له، لفترة انتقالية تمتد من 18 إلى 24 شهرا. وهنا يبدو الاختلاف واضحا بين ما اقترحته اجتماعات بوزنيقة/مونترو، في شأن إجراء انتخابات في غضون 18 شهرا، وما دعا إليه السراج في شأن التوجه إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية في آذار/مارس المقبل.

على أن تطبيق الخطوات التمهيدية التي تم الاتفاق عليها مبدئيا، سيستغرق وقتا، بسبب تلكؤ السلطات في الشرق كما في الغرب في الالتزام بتنفيذها. وهذه الخطوات هي إنهاء ظاهرة الاحتجاز غير القانوني والإدانة لأسباب سياسية، وتفعيل قانون العفو عن السجناء السياسيين، والعمل على العودة الآمنة للمبعدين والنازحين، الذين يتجاوز عددهم 425 ألف نازح، وجبر الضرر، من دون إسقاط الحق الشخصي في التقاضي. وتتمثل الخطوة المقبلة باختيار أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة في إطار أعمال لجنة الحوار السياسي الليبي. ويكلف الأخير بتشكيل الحكومة، “بما يراعي وحدة ليبيا وتنوعها الجغرافي والسياسي والاجتماعي” ثم يطرحها لنيل الثقة.

مرشحون للمؤسسات الرقابية

وأفاد المشاركون في الاجتماعات أنهم توصلوا إلى تفاهمات بشأن المؤسسات الرقابية، وكذلك بشأن الأسماء المقترحة لقيادتها، ما يعني أن هناك تقدما نحو توحيد هذه المؤسسات المنقسمة بين غرب البلاد وشرقها. وتتمثل المؤسسات الرقابية، بحسب المادة 15 من اتفاق الصخيرات، في حاكم مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس المفوضية العليا للانتخابات وأعضائها، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام.‎

بهذا المعنى يمكن القول إن ثلاثة أيام من الاجتماعات في بوزنيقة، وضعت معالم الحل المرحلي، وفوضت للجنة الحوار السياسي تقويم عمل السلطة ومتابعتها بشكل دوري، لمعرفة مدى إنجاز مهامها، مع دعوة مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى “الاتفاق في شأن المناصب السيادية والمسار الانتخابي في آجال معقولة”. قد يستغرب بعض المراقبين من السلاسة النسبية لاجتماعات بوزنيقة ومونترو، قياسا على الاجتماعات العقيمة في السابق، في باريس وباليرمو وموسكو، وغيرها من العواصم والمدن التي استضافت حوارات ليبية ليبية. صحيح أن اجتماعات بوزنيقة تم تمديدها من يوم واحد إلى ثلاثة أيام، بسبب الخلافات المستحكمة حول مسائل عدة، غير أن طبيعة المخرجات جعلت التمديد أمرا مقبولا.

ضغط أمريكي

من خلال أحاديث مع الشخصيات المشاركة في الاجتماعات من الجانبين، يتضح أن ثلاثة عناصر أساسية دفعت الأمور نحو الوصول إلى التوافقات التي انبثقت من اجتماعات بوزنيقة ومونترو. وأول هذه العناصر هي الدور الأمريكي، الذي ضغط بقوة، وخاصة على حفتر، لفرض نوع من الانضباط يردعه عن تخريب المحادثات. واعترف مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى، شينكر، وإن مُداورة، بذلك “الشغل” على ليبيا حين أكد أنه ووزير الخارجية مايكل بومبيو، يخصصان وقتا طويلا للملف الليبي، وأنه يبحث مع نظيريه البريطاني والفرنسي هذا الشأن بشكل مستمر. ويتجلى هذا الدور أيضا من خلال “الترحيب الحار” الذي أبدته الأمريكية ستيفاني وليامز، نائبة الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، بنتائج المشاورات. وكان السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند زار الجنرال حفتر في مقره بقاعدة الرجمة، في أعقاب إعلاني وقف إطلاق النار المتزامنين، الصادرين في 21 آب/اغسطس الماضي، عن رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، ليؤكد له أن الإعلانين “يُشكلان أساساً لجميع الأطراف الليبية، التي تتحلى بروح المسؤولية الوطنية”. ولوحظ أن وليامز هي التي سارعت إلى الاعلان من مونترو عن “توافق آراء المشاركين خلال المشاورات على وجوب إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في نهاية فترة تمتد لـ 18 شهراً، وفق إطار دستوري يتم الاتفاق عليه، مع انطلاق هذه الفترة بمعاودة تشكيل المجلس الرئاسي وتأليف حكومة وحدة وطنية.

مركز حوار سياسي

العنصر الضاغط الثاني هو سويسرا من خلال “مركز الحوار الانساني”، وهو منظمة غير حكومية، رسميا، متخصصة في تهدئة النزاعات، وهي تعمل في ليبيا منذ سنوات، في كنف الكتمان، بعيدا عن أضواء الاعلام. وأجرى خبراء المركز مئات اللقاءات مع طرفي الصراع في ليبيا، من دون الاعلان عن أية مخرجات.

ولعب “مركز الحوار الانساني” دورا فعالا، بالتنسيق مع الممثل الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، الدكتور غسان سلامة، في إعداد الأوراق التمهيدية للمؤتمر الوطني، الذي كان مُزمعا عقده في مدينة غدامس الليبية في أواسط نيسان/ابريل 2019 إلا أن الجنرال حفتر بدأ هجومه المُباغت على طرابلس قبل ذلك بعشرة أيام لإحباط المؤتمر. كما كان المركز وراء الاجتماع التشاوري الأخير في مدينة مونترو بمشاركة مجموعة من الشخصيات الليبية، وفي حضور البعثة الأممية لدى ليبيا. وهو الاجتماع الذي انتهى بالتأكيد على ضرورة تشكيل مجلس رئاسي، وحكومة وحدة وطنية مستقلة، وإجراء انتخابات في مواعيد لا تتجاوز 18 شهراً. ولهذا اعتبرت وليامز أن الدور الذي قام به المركز “نقطة تحول حاسمة في مسعى طويل بحثاً عن حل شامل للأزمة الليبية” على ما قالت.

أما العنصر الثالث الذي لم يمارس ضغوطا بقدر ما لعب دور المُيسر فهو المغرب. واشتغل المغاربة منذ فترة لإنضاج المواقف الليبية لكي تجنح إلى السلم، استعدادا للقاء على مائدة الحوار. واتسمت الاتصالات المغربية بالتكتم، إلى أن وصلت المساعي إلى المرحلة الأخيرة، التي تُوجت بزيارة كل من عقيلة صالح وفائز السراج إلى المغرب بشكل متزامن، لوضع اللمسات الأخيرة على مشروع الاتفاق الذي نوقش لاحقا في اجتماع بوزنيقة.

وسطاء أم مُيسرين؟

بالرغم من أن الوساطة بين الفرقاء الليبيين كانت أحد محاور المنافسة الجزائرية المغربية، ومع أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دعا الليبيين أكثر من مرة للاجتماع في الجزائر، واستقبل كلا من السراج وصالح في يونيو/حزيران الماضي، إلا أن آلته الدبلوماسية كانت أثقل خطوا وأقل فعالية من مثيلتها المغربية. ومن هنا حرص المغاربة على قلة الظهور في المشهد الليبي، عدا كلمة وزير الخارجية بوريطة في الجلسة الافتتاحية ببوزنيقة، مع إبراز التواصل في دورهم بوصفهم مُيسرين لا وسطاء. من هنا أبرز المغاربة أن اتفاق بوزنيقة أتى تطبيقا للمادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي، الموقع بالصخيرات، وتأكيداً على مخرجات مؤتمر برلين، التي تدعم الحل السياسي في ليبيا، وبناء على قرارات مجلس الأمن ذات الصلة. ومن المهم أن الغريمين اتفقا أخيرا على إصدار بيان مشترك في أعقاب جلسات بوزنيقة، وهو أمر كان غير ممكن مع حفتر في لقاءات باريس (سال سانكلو) وباليرمو وأبو ظبي وموسكو وبرلين. كما أن من المهم أيضا اتفاق الطرفين، في ذلك البيان المشترك، على “تحديد المعايير والآليات الشفافة والموضوعية لتولي المناصب السيادية”.

متشددون في المعسكرين

لكن حساب الحقل قد لا يُطابق حساب البيدر، فالوفدان اللذان عادا إلى ليبيا سيجدان في المعسكرين أصواتا متشددة ترفض الحل السياسي وتدعو إلى الحسم العسكري، وفي مقدمة هؤلاء حفتر وبعض ضباطه. كما سيوجد في الفريق الآخر من يرفض نقل العاصمة، وإن مؤقتا، إلى مدينة سرت، وفي مقدم هؤلاء الطرابلسيون والمصراتيون. لهذا السبب تم الاتفاق على استئناف اللقاءات في الأسبوع الأخير من أيلول/سبتمبر الجاري، “من أجل استكمال الإجراءات التي تضمن تنفيذ هذا الاتفاق وتفعيله”، وفي الحقيقة من أجل امتصاص الاعتراضات على الاتفاق في الجهتين. والأرجح أن السراج على سبيل المثال، لن يكون سعيدا بإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وإنشاء حكومة وحدة وطنية، تحل محل الحكومة التي يرأسها منذ كانون الأول/ديسمبر 2015.

يبقى أن ما أنجز في بوزنيقة ومونترو سيبقى مجرد مدخل للمسار السلمي وليس هو المسار نفسه، إذ أن المسائل الكبرى التي لا سلام من دونها، مازالت لم توضع على مائدة الحوار، ومن بينها إخراج الأسلحة الثقيلة من المدن ومعاودة بناء الجيش والمؤسسات الأمنية وحل المليشيات والاتفاق على صيغة إعادة إدماجها، وإخراج المرتزقة من البلد، وعودة المهجرين إلى بيوتهم، فهل سيتوفق الوسطاء إلى حل هذه القضايا خارج قاعات الاجتماعات، قبل إضفاء الأمم المتحدة الغطاء الشرعي عليها، في اجتماعات رسمية؟

تعليقات