رشيد خشــانة – إذا كان ملفا الإرهاب والأزمة الليبية القاسم المشترك في محادثات إسبر مع المسؤولين المغاربيين، فإن حصاد الجولة على صعيد العلاقات الثنائية لم يكن أقل أهمية.

ثلاثة أيام أمضاها وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر متنقلا بين العواصم المغاربية، كانت كافية لبحث وسائل احتواء التمدد الروسي والصيني في منطقة تعتبرها واشنطن ذات أهمية استراتيجية لمصالحها ومصالح حلفائها في المتوسط. والبلدان الثلاثة التي زارها إسبر شريكة للحلف الأطلسي من دون أن تكون حاصلة على عضويته، إذ تُجري تشكيلات من قواتها مناورات سنوية مع قوات الحلف، في إطار ما يُسمى “الحوار المتوسطي”. وشمل هذا “الحوار” منذ العام 1994 ست دول عربية ليست عضوا في الحلف، إضافة إلى اسرائيل، بُغية “تأسيس علاقات جيدة وتفاهما ثنائيا أفضل، إلى جانب الترويج للأمن والاستقرار الإقليمي”.

وسبق إسبر إلى المنطقة قائد القيادة الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم) الجنرال ستيفن تاونسند، الذي زار المنطقة قبل أسبوع من جولة وزير الدفاع. وقبل أن يُعلن إسبر أن أمريكا تسعى لاحتواء النفوذين الروسي والصيني في شمال أفريقيا، أعلن الجنرال تاونسند لدى تسلمه مهامه في أيار/مايو العام الماضي، أن روسيا والصين تشكلان الخطر الرئيسي على الزعامة الأمريكية في القارة الأفريقية، وإن توقع أن تطيح الصين بروسيا في مجال التبادل التجاري.

اتفاق لعشر سنوات

وإذا كان ملفا الإرهاب والأزمة الليبية القاسم المشترك في محادثات إسبر مع المسؤولين الذين اجتمع معهم خلال جولته المغاربية، فإن حصاد الجولة على صعيد العلاقات الثنائية لم يكن أقل أهمية. وفي المحطة الأولى تونس، وقع إسبر ونظيره التونسي ابراهيم برتاجي على اتفاق للتعاون في مكافحة الإرهاب، يستمر عشر سنوات. ولم يُكشف عن مضمون الاتفاق، غير أن الوزير إسبر أكد أن الهدف من زيارته هو تعزيز العلاقات مع هذا الحليف “الكبير” في المنطقة، ومناقشة التهديدات التي تشكّلها التنظيمات الجهادية، مثل تنظيمي “الدولة الإسلامية” و”القاعدة” على تونس. ورمى الاتفاق، الذي ظلت مواده طي الكتمان، “إلى مساعدة تونس على حماية موانئها وحدودها وصد الارهاب” على ما قال إسبر. ويُعتبر هذا الاتفاق الأول في نوعه مع الحلفاء الاستراتيجيين لتونس، بمن فيهم فرنسا. إلا أن الاشارة إلى الموانئ والحدود قد تدل على أن التونسيين طلبوا دعما استخباراتيا ولوجستيا من الأسطول السادس الأمريكي في المتوسط، للتوقي من أي عمليات إرهابية قد تأتي من البحر أو من الحدود مع ليبيا.

وكانت مجموعات إرهابية اجتازت الحدود التونسية الليبية في آذار/مارس 2016 بهدف إقامة “إمارة إسلامية” في مدينة بنقردان، إلا أن الوحدات الأمنية والعسكرية، قضت على المهاجمين، بدعم قوي من سكان المدينة، وأسفرت العملية عن مقتل 43 من المهاجمين والقبض على سبعة منهم. في السياق كان الأمريكيون طلبوا من التونسيين، منذ عهد الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، نقل مقر القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا من ألمانيا إلى تونس، ولم يُستجب لطلبهم. ثم طلبوا من الحكومات التي أتت بعد الإطاحة به، إقامة قاعدة استخباراتية في جنوب البلد لمراقبة الوضع في ليبيا ومنطقة الساحل والصحراء، ولم يُلبَ طلبهم أيضا. إلا أن تونس تحتفظ بعلاقات تعاون متينة مع حلف شمال الأطلسي، وكانت حصلت في العام 2015 على وضع الشريك المفضل من خارج الحلف.

وأكد الأمريكيون أن الاتفاق الذي وقع عليه إسبر، الأربعاء، هو خريطة طريق من أجل تطوير العلاقات من خلال التدريب في حال قررت تونس شراء أسلحة دقيقة. أما السلطات التونسية فأكدت، مرارا، أنه لا توجد قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها، وأنها لن توافق على إقامة كهذا قاعدة مستقبلا. غير أن تقارير إعلامية أمريكية كشفت في العام 2017 أن فريقا عسكريا متخصصا في تسيير الطائرات دون طيار موجود في قاعدة سيدي أحمد، في محافظة بنزرت (شمال).

بعد ذلك أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا في بيان أصدرته في ايار/مايو أنه حيال تأزم الوضع في ليبيا، تعتزم إرسال فرق دعم إلى تونس، ما أثار انتقادات واسعة من الأحزاب والجمعيات والرأي العام التونسي. ودفعت ردود الفعل القوية “أفريكوم” إلى التأكيد، في بيان ثان، أن هذه الفرق ستكون للتدريب المشترك وليس للقتال. والثابت أن العلاقات العسكرية الوثيقة بين واشنطن والعواصم المغاربية، ومن ضمنها تونس، تُقلق شركاءها التقليديين، وخاصة فرنسا وإيطاليا، اللتين توجد معهما برامج تعاون عسكري منذ الاستقلال. وقد خصص البنتاغون دعما للجيش التونسي بحوالي مليار دولار منذ ثورة 2011 وفقا لبيان صادر عن “أفريكوم”.

تطويق الجماعات المسلحة

ويندرج الاهتمام الأمريكي المتزايد بمنطقة شمال أفريقيا في إطار الاستفادة من موقعها الاستراتيجي لتطويق الانتشار الواسع للجماعات المسلحة في ليبيا، ومنها جنوبا نحو بلدان الساحل والصحراء، بعدما عجز 5100 عسكري فرنسي عن احتواء تلك الشبكات والقضاء عليها. كما يرمي الحضور الأمريكي المتزايد إلى الحد من توسُع النفوذ الروسي في المنطقة، ولا سيما إثر القمة الأولى الروسية الأفريقية في تشرين الأول/اكتوبر 2019 والتي جمعت عددا كبيرا من الرؤساء الأفارقة. وشعر الأمريكيون أن روسيا، التي ابتعدت عن القارة طيلة ثلاثة عقود، أي بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، عائدة إليها بقوة، بعدما استطاعت جمع ذلك العدد الكبير من الرؤساء حول فلاديمير بوتين.

وارتدت زيارة إسبر إلى الجزائر أهمية خاصة بحكم وزنها العسكري وموقعها الاستراتيجي، المُطل على أربعة بلدان في الساحل والصحراء تنشط فيها بكثافة الجماعات الإرهابية وشبكات تهريب السلاح والمخدرات. وشجع الأمريكيون على إنشاء مجموعة “الميدان” التي تضم قوات خمسة بلدان صحراوية بقيادة الجزائر، كما عززوا التعاون العسكري مع الجيش الجزائري الذي عبأ حوالي 40 ألف جندي، لمراقبة حدود يصل طولها إلى 7000 كلم، للحؤول دون تسرب العناصر الإرهابية، المتسللة من جنوب الصحراء.

واستدل مراقبون من المحادثات التي أجراها الوزير الأمريكي إسبر مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون (الذي يشغل في الوقت نفسه منصب وزير الدفاع) ورئيس أركان الجيش اللواء سعيد شنغريحة، رغبة واشنطن بمحاصرة النفوذ الروسي، إذ أن الجزائر هي أهم زبون للسلاح الروسي في المنطقة.

الزبون الأول

وإسبر هو أول وزير دفاع أمريكي يزور الجزائر منذ زيارة كسبار واينبرغر لها قبل 14 عاما. غير أن العلاقات بين الجانبين ظلت متينة طيلة السنوات الماضية، بحكم التعاون المستمر في مكافحة العناصر والجماعات الإرهابية في المتوسط، وفي منطقة الساحل. وإذا كانت الجزائر أهم زبون للأسلحة الروسية في شمال أفريقيا، فإن أمريكا ما زالت تراهن على كسب ود الجزائريين كي يُقبلوا على شراء أسلحتها. وكانت الجزائر اتفقت أخيرا مع روسيا على صفقة لشراء 18 طائرة حربية من طراز “سوخوي 35”. وتعزو أوساط جزائرية مسؤولة هذه الصفقة إلى ضرورة تعويض الطائرات الاعتراضية ميغ 25 القديمة، التي انتهى عمرها الافتراضي، والتي من المقرر أن تُسحب من الخدمة مع أواخر العام الجاري. وحسب رئيس مجموعة التصنيع العسكري الروسية “روسوبورون إكسبورت” تأتي الجزائر في الرتبة الثالثة عالميا، بين زبائن “سوخوي 35” التي تُعتبر فخر الصناعة الحربية الجوية الروسية، لكونها مُتعددة الوظائف، وقادرة على حمل ثمانية أطنان من الأسلحة، ومُجهزة برادار متطور.

وجرب الجزائريون هذا النوع من الطائرات، منذ عشر سنوات، لدى شرائهم الدفعة الأولى من “سوخوي 34”. وتُصنف الجزائر اليوم باعتبارها القوة العسكرية الرابعة في أفريقيا، من حيث عدد أفراد القوات المسلحة. أما من حيث الاعتمادات المخصصة لموازنة الدفاع، فتتبوأ الجزائر الرتبة الأولى بحوالي 6 مليارات دولار (5 في المئة من المنتوج الوطني الخام).

وختم إسبر جولته المغاربية في الرباط، الحليف التاريخي القوي للولايات المتحدة. ويُعتبر المغرب حليفا استراتيجيا وزبونا وفيّا لأمريكا منذ أيام الحرب الباردة. وتشير إحصاءات تخص صفقات التسلح، المُبرمة خلال السنوات الماضية، إلى أن 91 في المئة من واردات السلاح المغربية مصدرها أمريكي. وكانت الادارة الأمريكية وافقت على بيع المغرب 36 مروحية من طراز “أباتشي” بمبلغ 4.25 مليار دولار، و24 مقاتلة من طراز أف 16 و24 طائرة تدريب، بالإضافة لتجديد 200 دبابة قديمة من طراز “أبرامز”. كما طلبت الرباط شراء صواريخ أرض جو وأنظمة اتصال داخلي، وأجهزة خاصة بمراقبة الملاحة، بالاضافة إلى قطع الغيار.

اتفاق الصخيرات

استأثرت ثلاثة ملفات بمحادثات إسبر مع القادة المغاربة، وهي تطوير التعاون الثنائي العسكري والأمني، وتكثيف التنسيق لمحاربة التنظيمات الإرهابية، بالإضافة إلى تطورات الملف الليبي، الذي يلعب فيه المغرب دورا بارزا، باستضافة محادثات 2015 التي أسفرت عن اتفاق الصخيرات، وأخيرا لقاءات بوزنيقة، التي تمهد لتسوية سلمية للنزاع. وكان وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ناقش هذه القضايا مع كبار المسؤولين المغاربة، خلال زيارة رسمية للرباط في كانون الأول/ديسمبر الماضي.

واسوة بتونس وقع المغاربة اتفاقا للتعاون العسكري مع الوزير الأمريكي لتعزيز التنسيق المتطور أصلا، إذ يحتضن المغرب كل سنة، مناورات الأسد الأفريقي، بإشراف القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا، وهي العملية التي ألغيت هذه السنة جراء وباء كوفيد-19. وينظر الأمريكيون بإيجابية إلى احتضان المغرب “الحوار الليبي” في مدينة بوزنيقة بداية الشهر الماضي، والذي انتهى بالتوصل إلى اتفاق إطاري يحدد “المعايير والآليات الشفافة والموضوعية لتولي المناصب السيادية”.

وتزامنت زيارة إسبر للرباط الجمعة مع انطلاق الجولة الثانية من محادثات بوزنيقة، بمشاركة وفد من المجلس الرئاسي وآخر من البرلمان، والتي يُفترض أن تخصص بشكل أساسي لبحث المادة 15 من الاتفاق السياسي الليبي الموقع بالصخيرات، والتي تتمحور حول ما تسمى المناصب السيادية، ومنها رئيس البنك المركزي الليبي ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس مجلس الحوكمة، ورئيس المفوضية العليا للانتخابات، والمدعي العام، وكذلك رئيس المجلس القضائي. وأتت الجولة الثانية من المفاوضات السياسية ببوزنيقة، على إثر اللقاء الذي احتضنته مدينة الغردقة المصرية، والذي ركز على الملف الأمني، فيما تتواصل دعوات الحكومة المعترف بها دوليا، برئاسة فائز السراج، وأطراف دولية عدة، إلى ضرورة وقف نهائي لإطلاق النار على جبهة سرت من أجل إنجاح مخرجات الحوار السياسي

تعليقات