رشيد خشـانة – تفاقمت الخلافات بين حفتر وعقيلة صالح، بعد تداول الحديث عن احتمال تسمية الأخير رئيسا لحكومة الوفاق، إلى جانب اتخاذه مواقف عدة لم يستحسنها حفتر.

عاد المفاوضون الليبيون من بوزنيقة بمشاريع قرارات لن تصبح نافذة إلا بعد تصديق الجهات الدستورية عليها. وكانت اجتماعات مونترو في سويسرا الشهر الماضي مهدت لهذا التقارب بطي أجواء الحرب، وقبول الطرفين الانخراط في المسار السلمي. لكن ما زالت الأمور غير محسومة، طالما أن مجلس النواب في الشرق ومجلس الدولة في الغرب لم يُعطيا موافقتهما على اتفاقات بوزنيقة، خاصة مع التحذيرات التي تصدر، هنا وهناك، من العودة إلى القتال. وقد حذر وزير الدفاع في حكومة الوفاق، صلاح الدين النمروش، من هجوم محتمل قد تقوم به قوات الجنرال خليفة حفتر على مدن بني وليد وترهونة وغريان. ووجه النمروش برقية عاجلة إلى رئاسة الأركان، وآمري المناطق العسكرية، لحضهم على الاستعداد لأي هجوم محتمل من الشرق. على أن هذا الاحتمال يبقى ضعيفا، لأنه غير متوائم مع القرار الدولي، الذي يبدو أنه حسم أمره نهائيا، في اتجاه إقرار تسوية سلمية للنزاع في ليبيا.

والأرجح أن إعلان طرفي الصراع في آب/اغسطس الماضي وقفاً لإطلاق النار، بشكل مفاجئ، أتى ثمرة جهود مكثفة بذلتها رئيسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ستيفاني وليامز، التي طارت إلى واشنطن، بعد تصاعد التهديدات المتبادلة بين مصر وتركيا، لإشعار كبار المسؤولين في وزارتي الخارجية والدفاع بخطورة الوضع. وقد تكون وليامز، التي تعرف الخريطة الليبية بجميع تفاصيلها، كونها شغلت منصب القائمة بالأعمال في سفارة بلدها لدى ليبيا، أقنعت المسؤولين في الوزارتين، بأن الوضع مُنذرٌ بالانزلاق في أي لحظة، إلى حرب مصرية تركية في ليبيا، ربما تتحول إلى حرب إقليمية، إذا ما انضمت إليها اليونان وقبرص، فضلا عن الروس الموجودين على الأرض أصلا، من خلال عناصر الشركة الأمنية “فاغنر”.

ويجوز القول إن شبح التمدد الروسي في جنوب المتوسط من جهة، وانشغال الإدارة الأمريكية بأجواء الانتخابات، من جهة ثانية، ساعدا وليامز، مدعومة بالسفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، على الإقناع بضرورة تدخل واشنطن للحد من التصعيد المتبادل، وتوجيه الأمور نحو وجهة المفاوضات. لذلك لم يجرؤ أحد على رفض الانخراط في المسار الجديد، فضلا عن محاولة تخريبه أو تعطيله، مثلما كان الأمر في محاولات سابقة، انتهت بالفشل.

من هذا المنطلق أعدت الأمم المتّحدة لسلسلة من الاجتماعات والمشاورات، بُغية تسهيل التوصّل إلى “اتفاق سياسي شامل”. ومن تلك الاجتماعات المفاوضاتُ التي تمت في مصر بين ممثلين عسكريين من الطرفين في نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، والتي تمهد الطريق لوقف دائم لإطلاق النار. ويمكن أن نستشف حقيقة الموقف الأمريكي من طبيعة الاستدارة التي تحققت في الأشهر الأخيرة، من خلال تجديد السفير نورلاند، رفض بلاده “أي تصعيد عسكري في ليبيا” وتحذيره من خطر إطالة الصراع وانتشاره، وهي رسالة إلى حفتر وإلى خصومه على السواء، معتبرًا الحوار الليبي، الذي تقوده الأمم المتحدة بمثابة “الطريق الوحيد الذي يفضي إلى حل يحفظ السيادة الليبية”. وكان السفير أكثر حماسة في حديث أدلى به إلى صحيفة مصرية، فأكد إصرار واشنطن على “استخدام جميع أدواتها الدبلوماسية لإيجاد وضع أكثر استقرارا وأقل خطرًا، وإطلاق عملية سياسية تقود إلى حل (سياسي) في ليبيا”. ومن ضمن هذا الدور كان الموقف الأمريكي من معاودة فتح الحقول والموانئ النفطية بمثابة أمر لقوات حفتر. وكان الهدف من هذا الأمر، في الدرجة الأولى، إخراج عناصر “فاغنر” منها، ووضع حد لعسكرتها، وهو ما عبر عنه الأمريكيون بصورة صريحة في بيان تحذيري من “التهديد الذي يشكله وجود المرتزقة الأجانب” في الحقول والموانئ النفطية. وكان لافتا ما جاء في رسالة حفتر إلى السفير الأمريكي (المنشورة في موقع السفارة) من استجابة منضبطة للأوامر، إذ ورد فيها أن “القوات المسلحة العربية الليبية” تنقل إلى الحكومة الأمريكية الالتزام الشخصي للمشير حفتر بالسماح بإعادة فتح قطاع الطاقة بالكامل في موعد أقصاه 12 أيلول/سبتمبر.

جولات للدعم

ليس من المبالغة القول إن السفير الأمريكي حل محل موفد الأمين العام للأمم المتحدة المستقيل غسان سلامة، إذ اجتمع في القاهرة بشكل منفصل مع عقيلة صالح ورئيس المخابرات العامة المصرية ورئيس المخابرات العسكرية، بعد ما تحاور مع السراج ووزيري الدفاع والخارجية في حكومة الوفاق النمروش وسيالة. ثم انتقل إلى أنقرة حيث اجتمع مع كبار المسؤولين الأتراك لدرس “الحاجة الملحة لدعم الأصوات الليبية التي تسعى بصدق إلى إنهاء الصراع والعودة إلى الحوار السياسي، الذي تيسّره الأمم المتحدة” بحسب ما جاء في بيان للسفارة. وناقش نورلاند خلال الزيارة، التي أعقبت مكالمات هاتفية بين الرئيسين ترامب واردوغان، “الخطوات اللازمة لتحقيق حل منزوع السلاح” كما ورد في البيان نفسه. وتتمثل تلك الخطوات في انسحاب كامل ومتبادل للقوات الأجنبية والمرتزقة من الحقول والموانئ النفطية، وتمكين المؤسسة الوطنية للنفط من استئناف عملها الحيوي، وتعزيز الشفافية وتحقيق الإصلاحات الاقتصادية اللازمة، إضافة إلى “كسر حلقة النهب، التي تمارسها بعض الجماعات المسلحة ضد موارد الطاقة”.

ومن أنقرة طار نورلاند إلى باريس، أحد الداعمين الرئيسيين للجنرال حفتر بالسلاح والمستشارين الأمنيين والعسكريين، حيث أجرى محادثات، وصفتها السفارة الأمريكية بأنها “مثمرة” مع مسؤولين في الرئاسة الفرنسية ووزارة الخارجية. ويدل هذا الحراك الأمريكي على الاهتمام المتزايد بملف الصراع الإقليمي والدولي في ليبيا، وهو ما أكده وزير الخارجية مايك بومبيو، الذي وعد باستخدام “جميع الأدوات المتاحة في الترسانة الدبلوماسية للولايات المتحدة من أجل تهيئة الظروف لاستقرار ليبيا، ودعم عملية سياسية تقود إلى حل للأزمة”.

لكن ماذا لو تعثرت الجهود السلمية وتعطلت المصالحة الليبية-الليبية؟ الظاهر أن واشنطن مصممة على مجابهة أية محاولات لتفجير المسار السلمي، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الإيطالي لويجي دي مايو، على إثر اجتماعه في روما مع نظيره الأمريكي بومبيو، حين أكد أن إيطاليا وحلفاءها “يعتمدون على النفوذ الذي ستمارسه واشنطن على المحاورين الليبيين، واللاعبين الدوليين المعنيين، من أجل التصدي لمحاولات التخريب المحتملة، وكذلك للسماح بالاستئناف العاجل لإنتاج النفط”. وتُعتبر إيطاليا أقرب الحلفاء إلى واشنطن في البحر المتوسط، وقد منحتها دور الوكيل في الملف الليبي خلال السنوات التي ابتعدت فيها عن المنطقة، في أعقاب مقتل سفيرها بيتر ستيفنس. إلا أن نفوذ إيطاليا في ليبيا تقلص، مثلما هو شأن فرنسا أيضا، بدخول الروس والأتراك على خط الصراع الليبي-الليبي في السنوات الأخيرة.

اتصالات موازية

على أن “محاولات التخريب” التي تحدث عنها دي مايو، قد لا تأتي فقط من القوى الخارجية، وإنما يُحتمل أن تنبع من الخلافات المحتدمة داخل كل معسكر من المعسكرين الليبيين المتصارعين، والتي طفت على السطح في الفترة الأخيرة. ففي المنطقة الشرقية تفاقمت الخلافات بين حفتر وعقيلة صالح، خصوصا بعد تداول الحديث عن احتمال تسمية الأخير رئيسا لحكومة الوفاق، إلى جانب اتخاذه مواقف عدة لم يستحسنها حفتر، الذي كان يرى في صالح أحد المشمولين بحمايته. وفي طرابلس توترت العلاقات بين السراج ونائبه أحمد معيتيق، الذي فتح خطا للحوار مع محيط حفتر، بواسطة روسيا، وتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار مع نجله خالد حفتر، في 21 آب/أغسطس من دون علم السراج، وهو القائد الأعلى للجيش، بالاضافة لكونه رئيس المجلس الرئاسي ورئيس حكومة الوفاق.

وأعلن معيتيق شروط الصفقة مع نجل حفتر، بالتزامن مع إعلان حفتر إنهاء الحصار. ونددت شركة النفط الوطنية الليبية بشدة بالصفقة، مؤكدة أنها لن تقبل أبدًا وجود قوات فاغنر في المنطقة. وتجدر الاشارة هنا إلى أن معيتيق هو أول شخصية من قيادات طرابلس تزور موسكو في عام 2017 وتحافظ على اتصالات وثيقة مع روسيا، كما يُعتبر الشخصية الوحيدة، في حكومة الوفاق الوطني، التي تربطها علاقات جيدة بكل من أنقرة وموسكو معا.

وزاد إعلان السراج عن تنحِيه من رئاسة الحكومة والمجلس الرئاسي، مع نهاية الشهر الجاري، من إذكاء الخلافات داخل المجلس والحكومة، والتي طفت على السطح مع إعطاء السراج أوامره باعتقال وزير الداخلية القوي فتحي باشاغا. ورجحت صحيفة “ألمونيتور” أن لقاء باشاغا مع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أثار حفيظة رئيس وزراء حكومة الوفاق، فحمَله مسؤولية قمع عنيف لاحتجاجات الشارع على أداء الحكومة. ووصل الأمر إلى حد الحديث عن انقلاب محتمل ضد السراج. وبدأ الخلاف يتراجع بعد إعادة باشاغا إلى منصبه في أوائل أيلول/سبتمبر، لكن الحادثة كشفت عن مدى هشاشة حكومة الوفاق الوطني.

والإسم الآخر المتداول لخلافة السراج هو رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، وهو من قيادة الصف الأول في “حزب العدالة والبناء” الفرع الليبي لتنظيم “الإخوان المسلمين” ويحتفظ بعلاقة متينة مع الرئيس التركي اردوغان.

ويقول موقع “ألمونيتور” إنه ربط علاقات مع كل من إيطاليا والمغرب وروسيا، وأبدى استعداده للقاء حفتر في حضور مسؤولين مغاربة. ويُرجح أنه سيحاول استخدام عملية جنيف ليصبح رئيسًا للوزراء، ويُنسب له التطلع إلى دور نشط في محادثات جنيف المرتقبة، في محاولة لاستعادة نفوذ “الإخوان المسلمين” في حكومة الوفاق الوطني.

وحسب محللين، إذا تولى معيتيق أو المشري رئاسة الوزراء، فسيدل ذلك على زيادة النفوذ الروسي في محادثات جنيف، واحتمال اعتراف حكومة الوفاق الوطني بعقيلة صالح، بوصفه شخصية سياسية، لا سيما بعد رفع اسمه من لائحة العقوبات. وفي المحصلة، ستكون استقالة السراج مثارا لسباق محموم على خلافته، ما قد يؤثر سلبا في المسارات السلمية الرامية لإيجاد مخرج سياسي من الأزمة الليبية. ومن المحتمل أن يواجه مثل هذا السيناريو معارضة من أنصار الغريمين السراج وباشاغا، والقبائل الموالية لحفتر في الشرق، وقد يؤدي ذلك إلى حلقة جديدة من صراع الإخوة الأعداء.

وفيما يتصارع الزعماء الليبيون على السلطة، يستسلم الشباب للإحباط ويُخطط لمغادرة البلد، إذ أظهر استطلاع حديث أن ليبيا تتصدر قائمة الشباب العرب الراغبين بالهجرة، بعد لبنان. وتوقع 86 في المئة من الليبيين المستجوبين اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة خلال العام المقبل، وانتقد 63 في المئة من أولئك الشباب تفشي الفساد الحكومي، بشكل واسع في بلدهم، فمن من الزعماء قادرٌ غدا على التواصل مع هؤلاء الشباب واحتواء غضبهم؟

تعليقات