رشيد خشانة – حدثان غيرا مجرى الصراع في ليبيا هما زيارة الجنرال خليفة حفتر إلى موسكو في 2018 لأخذ الموافقة على إرسال عناصر الشركة الأمنية الروسية “فاغنر” لدعم قواته في شرق ليبيا. والثاني هو التوقيع على الاتفاقية البحرية بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني، في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 بالإضافة إلى اتفاق للتعاون العسكري. وأثمر دخول تركيا إلى مسرح الحرب، تغيير موازين الصراع، واستطرادا إحباط هجوم عسكري على طرابلس شنته قوات شرق ليبيا، المدعومة من روسيا ومصر والإمارات، في حزيران/يونيو الماضي، ما اضطرها إلى انسحاب فوري وغير منظم حتى مدينة سرت.

أخطاء الوسطاء السابقين

استثمر الألمان، بعد أيام من تسلمهم رئاسة الاتحاد الأوروبي، الوضع الجديد في ليبيا لمحاولة إنجاز ما عجز عن تحقيقه وسطاء سابقون، فأطلقت المستشارة إنغيلا ميركل في مطلع العام، مبادرة لجمع القوى الإقليمية والدولية المُتداخلة في الصراع الليبي، من أجل تسوية سلمية للنزاع. واستفاد الألمان من أخطاء الوسطاء السابقين، وخاصة فرنسا وإيطاليا، فقاموا بتجزئة الحوار إلى ثلاثة مسارات: سياسي وعسكري واقتصادي مالي. وتوصل وفدان من المجلس الأعلى للدولة (مقره في العاصمة) ومجلس النواب (مقره في طبرق- شرق) في أعقاب اجتماعات في مدينة بوزنيقة المغربية، إلى اتفاق مبدئي على توزيع المناصب السيادية في الدولة. وشجع ذلك التقدم على تسريع مسارات التشاور الليبية الأخرى، سواء في ألمانيا أو مالطا أو مصر أو سويسرا أو تونس.

ويمكن القول إن تضافر ثلاثة عناصر مستجدة، ساهم في تحريك الوضع الليبي، والدفع نحو إنهاء القتال، وتوجيه البوصلة تجاه الحلول السلمية، وهذه العناصر هي تولي ألمانيا رئاسة الاتحاد الأوروبي، مع عضويتها في مجلس الأمن، وسعيها لتحقيق نجاح دولي خلال هاتين الفترتين المتوازيتين. ومن شأن هذا النجاح أن يكرس الزعامة الألمانية للاتحاد، لكون معظم الدول الأوروبية تشكو من استمرار نزاع مسلح في الضفة الجنوبية للمتوسط، وتعتبره خطرا على مصالحها الاستراتيجية وتهديدا لأمنها، بسبب تدفق موجات الهجرة غير النظامية على السواحل الأوروبية.

دعمٌ للزعامة الألمانية

أما عنصر النجاح الثاني فهو الغطاء الأممي الذي تحظى به المبادرة الألمانية، إذ كان الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش يجلس على يمين المستشارة في مؤتمر برلين1 وإلى جواره رئيس بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة (قبل استقالته من منصبه لاحقا). ويتمثل عنصر النجاح الثالث في الدعم الذي تلقاه الرئاسة الألمانية من أمريكا و15 دولة أخرى. وتجلى الاهتمام الأمريكي الكبير بهذا الملف من خلال الزيارات المكثفة لكبار المسؤولين العسكريين الأمريكيين إلى المنطقة، في الفترة الأخيرة.

من الأكيد أن تسارع وتيرة اللقاءات، التي ترمي لإيجاد تسوية سلمية في ليبيا، ترمي في بُعد مهم من أبعادها، إلى تهميش روسيا، والحد من نفوذها في الساحل الجنوبي للمتوسط، بعدما وضعت قدما ثابتة في سوريا. وكان وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر واضحا في هذه النقطة، خلال اللقاءات التي عقدها في الجزائر والرباط وتونس أثناء جولته المغاربية الأخيرة. لكن لا يمكن اختزال الصراع الأهلي في ليبيا في السباق الأمريكي الروسي على النفوذ، في بلد يضم أكبر مخزون من النفط في أفريقيا.

مجموعة “فاغنر”

وأفادت مصادر مطلعة أن قائد القوات الأمريكية في أفريقيا “أفريكوم” الجنرال ستيفن تاونسند أفهم الجزائريين، خلال زيارته التي سبقت زيارة الوزير إسبر، أن في مقدم الأولويات الأمريكية في ليبيا إنهاء وجود المجموعة الأمنية الروسية الخاصة “فاغنر” التي تدعم الجنرال خليفة حفتر. كما أكد تاونسند أن الأمريكيين سيكونون بالمرصاد لإقامة قاعدة عسكرية في الشرق الليبي.

وكانت وزارة الدفاع الأمريكية بثت في تموز/يوليو الماضي صورا أظهرت سربا من طائرات النقل العسكرية الروسية من طراز “إيليوشين 76 أس” رابضة في قاعدة “الجفرة” في الشرق الليبي، الواقع تحت سيطرة الجنرال حفتر. كما اتهم الأمريكيون عناصر “فاغنر” بوضع ألغام في محيط مدينة طرابلس، عندما كانوا يُطوقونها، في تجاوز لقرارات الأمم المتحدة، القاضية بحظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا، فضلا عن الخسائر البشرية التي سببها وما زال يُسببُها انفجار تلك الألغام. وفي السياق أصدر الاتحاد الأوروبي وبريطانيا عقوبات ضد رئيس مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، الصديق الشخصي للرئيس بوتين وصاحب سلسلة مطاعم فخمة في أوروبا.

وشرح مصدر ليبي مطلع لـ”القدس العربي” أن الجنرال حفتر هو صاحب فكرة الاستنجاد بعناصر “فاغنر” بعدما لاحظ فعاليتها في سوريا، ودورها الحاسم في استعادة مدينتي حلب وتدمر من الجماعات المسلحة. وزار حفتر موسكو في 2018 والتقى هناك وزير الدفاع الروسي سيرغاي شويغو، وأكد له أن عناصر “فاغنر” ستساعده على اقتحام طرابلس وأخذها بالقوة، عارضا على الروس صفقات نفط ومشاريع بنية أساسية وإعادة إعمار، لقاء الدعم العسكري.

الطائرات المُسيرة حسمت المعركة

وأوضح المصدر أن 300 مرتزق وصلوا إلى المنطقة الشرقية من ليبيا، عشية انطلاق الزحف العسكري على طرابلس في الرابع من نيسان/أبريل 2019 وقد جاءت بهم “فاغنر” من سوريا ومن إقليم دونباس شرق أوكرانيا، الذي كان في حرب مع كييف. وبعدما ساندوا قوات حفتر الزاحفة على طرابلس، مستخدمين أسلحة متطورة جدا، وجدوا أنفسهم على قاب قوسين من أخذها، غير أن الطائرات المسيرة التي حصلت عليها “حكومة الوفاق الوطني” من تركيا أحكمت السيطرة على الجو، وقصفت قوات حفتر، مُلحقة خسائر فادحة بعناصر “فاغنر”. وقدر موقع روسي مسجل في ليتوانيا عدد المرتزقة الذين قضوا في ذلك القصف بما لا يقل عن 35 بينهم قائد الكتيبة الهجومية الأولى ألكسندر كوزنتسوف، الذي اشتهر باسم “راتيبور”. وكان الأخير سُجن في قضايا إجرامية، لكنه ظهر في 2016 في صورة رسمية مع الرئيس بوتين. ونُقل “راتيبور” بعد تعرضه لإصابات بالغة في طرابلس، على جناح السرعة، إلى مستشفى في سان بيترسبورغ، مع منحه وشاح الشجاعة… للمرة الرابعة.

وبعدما لازمت موسكو الصمت على إثر تلك الهزيمة، اضطرت الناطقة باسم الخارجية ماريا زخاروفا، للتصريح بأنه لا يوجد قانون يُجيز للدولة الروسية منع مواطنيها من العمل حراسا شخصيين في الخارج. كما زعم مسؤولون روس أن ظهور حفتر في شريط فيديو، إلى جانب رئيس مجموعة “فاغنر” ووزير الدفاع شويغو، كان لأخذ صور تذكارية مع رئيس الطباخين في الكرملين بريغوجين.

استراتيجيا توسعية

وعلى العكس من ذلك، يؤكد خبراء في الشؤون الروسية أن مجموعة “فاغنر” باتت الوسيلة التي يراهن عليها الكرملين لاستعادة النفوذ، الذي كان يحظى به الاتحاد السوفييتي السابق، ويستدلون على ذلك بوجود عناصرها في 13 بلدا أفريقيا، حيث يتولون مهمات أمنية دقيقة، وخاصة الحماية الشخصية للرؤساء والزعماء. ويندرج هذا الانتشار في إطار الاستراتيجيا الروسية لتوسعة الحضور المدني والعسكري في القارة، مثلما تجلت في القمة التي دعا لها بوتين قرابة أربعين رئيسا أفريقيا في سوشي، يومي 23 و24 تشرين الأول/أكتوبر 2019.

على أن الاستراتيجيا الروسية في ليبيا تقوم على الامساك بورقتين في آن معا، واحدة لليوم والثانية للغد. الأولى هي ورقة حفتر، التي عبدت الطريق للتوغل الروسي في شرق ليبيا، أما الثانية فهي ورقة سيف الإسلام القذافي، صاحب “مؤسسة الغد” قبل الثورة، الذي يسعى رجالُ الأمس، المستفيدون من النظام السابق، لترشيحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، بغية العودة بالبلد إلى المربع الأول.

الحسم في مسألة الدستور؟

والطريق إلى الانتخابات يتوقف على الحسم في مسألة الدستور، التي ظلت عالقة منذ أنهت “لجنة الستين” أعمالها بوضع مسودة لدستور جديد. وضمَت اللجنة مندوبين من المناطق الثلاث (الغرب/طرابلس والشرق/بنغازي وفزان/سبها). وفي مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، مهّدت “مشاورات” بين الليبيين في مونترو بسويسرا الطريق أمام تسجيل تقدّم جديد، من خلال التوصّل إلى اتفاق بشأن تنظيم انتخابات في غضون 18 شهراً، وهي الخطة التي يبدو أن اجتماعات تونس في الشهر المقبل ستنكب على وضع روزنامتها التفصيلية.

ومع اقتراب الموعد الذي حدده رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج، لتسليم مهامه لسلطة تنفيذية جديدة، أواخر الشهر الجاري، يشتد الضغط على المتحاورين، من أجل إنهاء المشاورات والخروج بحلول عملية، وهو ما شدد عليه المشاركون في مؤتمر برلين 2. هذا المؤتمر أطلق يوم 5 من الشهر الجاري، دعوة دولية لتسوية تنتهي بانتخابات. وشاركت في حوار برلين2 الذي عُقد عبر دائرة تلفزيونية مغلقة، على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، ممثلون عن 16 دولة ومنظمة دولية، يبدو أنهم تعهدوا بالمساهمة في دفع مسار المصالحة قُدُما.

جدل الدساتير

وتتبوأ مسألة سن دستور جديد لليبيا، موقعا مركزيا قبل إطلاق المسار الانتخابي، سواء تعلق الأمر بانتخابات رئاسية أم برلمانية. فقد كانت المسألة الدستورية، وما زالت، من المسائل التي تثير الجدل وتفجر صراعات عديدة سواء بين النخب الليبية، أو بينها وبين القوى الأجنبية طيلة الفترة الاستعمارية (1911-1952). فأثناء الاحتلال الإيطالي (1911-1943) كان مطلب الدستور من مطالب النضال الوطني. وكان ظهور دستور الجمهورية الطرابلسية سنة 1920 والقانون الأساسي ببرقة في نفس الفترة تقريبا، تجسيدا لهذا النضال واستكمالا له.

واتسمت فترة الاستعمار الانكليزي ببرقة وطرابلس (1943-1952) مقارنة بفترة الاستعمار الإيطالي، وكذلك الاستعمار الفرنسي بإقليم فزان (1943-1952) اتسمت بتعدد الأحزاب والجمعيات ببرقة وخاصة بطرابلس، وكذلك بظهور وثيقتين دستوريتين: دستور برقة سنة 1949 ودستور ليبيا الموحدة سنة 1951 الذي تم انجازه من قبل جمعية وطنية، وبتوافق بين مختلف مكونات المجتمع الليبي.

وتنبغي الاشارة هنا أيضا إلى أن من خصوصيات التطور الدستوري بليبيا، الدور المهم للقوى الدولية، إذ تم إنجاز دستور 1951 تطبيقا للقرار الصادر عن الأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 1949. وخلال فترة الاستقلال في ظل حكم محمد إدريس السنوسي (1951-1969) تم إدخال تعديلات على دستور 1951 في نيسان/أبريل 1963 ألغي بمقتضاها النظام الاتحادي. أما في فترة حكم معمر القذافي (1969-2011) فتم إلغاء الدستور، وإصدار إعلان دستوري في كانون الأول/ديسمبر 1969 تم إلغاؤه لاحقا، إذ أرسى القذافي حكما فرديا، استمر إلى 2011.

وفدان وخيارات عدة

واستضافت مصر في وقت سابق من هذا الشهر اجتماعا لاستكمال المسار الدستوري، شارك فيه وفد من المجلس الأعلى للدولة وآخر من مجلس النواب، إلا أن الوفد الأخير رفض مقترحات تقدم بها وفد المجلس الأعلى للدولة، تخص آليات إجراء الاستفتاء. وتضمنت ورقة مجلس الدولة عدة خيارات، بينها اعتماد مشروع الدستور الذي أعدته الهيأة التأسيسية المنتخبة، وصدقت عليه غالبية تزيد على ثلثي أعضائها، ليكون دستورا دائما للدولة الليبية، إذا ما حظي بغالبية مطلقة من أعضاء مجلسي النواب والأعلى للدولة، أي من دون اللجوء إلى إجراء استفتاء. وثاني الخيارات هو إجراء استفتاء شعبي عام على مشروع الدستور الذي حرص واضعوه على احترام المعايير الديمقراطية الدولية، وتمثل الخيار الثالث بإجراء استفتاء شعبي عام على مشروع الدستور، بقانون يصدر بالتوافق بين المجلسين، طبقا للإعلان الدستوري (2011) والاتفاق السياسي الليبي (2015) وذلك بغالبية الثلثين من أصوات المقترعين، مع اعتبار ليبيا دائرة واحدة.

والعنصر المستجد ههنا هو المناخ الذي ساد المحادثات بين الوفدين، إذ أكدا في بيان مشترك أنهما أبديا “مرونة فائقة في الحوار” على مدى ثلاثة أيام، بحسب بيان صادر بعد انتهاء الاجتماعات. كما عبرا عن رغبتهما بإجراء جولة ثانية من المناقشات حول الترتيبات الدستورية.

إنهاء المرحلة الانتقالية؟

لكن يجب التسريع بهذه الجولة الثانية حتى تُعرض ثمرة أعمالها على المؤتمر الجامع، المقرر عقده في تونس، أواخر الشهر الجاري. وحسب تصريحات أدلى بها عضو المجلس الأعلى للدولة عبدالقادر احويلي لبوابة “الوسط” الليبية، اتفق الوفدان على ضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية والبدء في ترتيبات المرحلة الدائمة، وهو رد غير مباشر على الأصوات المنادية بإقرار فترة انتقالية إضافية، قبل إجراء الانتخابات.

وعلى الرغم من مناخ الحوار السائد حاليا بين الغريمين الليبيين، تستمر الخشية من التأثيرات السلبية للقوى الإقليمية والدولية المتداخلة في الصراع الليبي الليبي، والتي يُعتقد أنها تحاول تعطيل المسار والتشويش عليه، مخافة تهميش دورها في مرحلة ما بعد الحرب. ويُعتبر الرئيس الفرنسي ماكرون من أهم المعرقلين للمسار الحالي، إذ أعلن عن قرب إطلاق مبادرة موازية لمسار برلين، وأوفد وزير خارجيته لودريان، إلى كل من الجزائر (وهي الزيارة الثالثة من نوعها) وتونس لإقناع رئيسيهما بدعم المبادرة الفرنسية، التي لم يكشف عن مضمونها.

مبادرة غامضة

غير أن السفير الفرنسي لدى مصر ستيفان روماتي، أكد في تصريحات صحافية أن باريس تُعدُ لإطلاق مبادرة جديدة لحل الأزمة الليبية “بالتنسيق مع مصر، وتضم دول الجوار والأطراف السياسية الفاعلة في الأزمة” على حد قوله. ولم يُخف الفرنسيون أنهم يعملون من أجل تنظيم اجتماع لدول الجوار الليبي “يمكن أن يُواكب العملية المسماة عملية برلين” ما يدل على أن الدبلوماسية الفرنسية لا تساهم في المطبخ المشترك، الذي تشارك فيه 16 دولة، بعنوان “مسار برلين” وإنما تطبخ بمفردها، مركزة على ضمان موقعها في اليوم التالي، بعد نهاية النزاع. والأرجح أن العمليات الموازية وتلغيم الملفات ستستمر، بل ستشتدُ مع التوافق على حلول واقعية، لكن الأمر بأيدي الليبيين، الذي باتوا قادرين اليوم، أكثر من أي وقت مضى، على تمييز الأصدقاء من الطامعين.

تعليقات