رشيد خشــانة طغى على الحوارات الجدل على المحاصصات في هيئات السلطة المقبلة. ولا يبدو أن المشاركين يشعرون بتطلع الرأي العام في ليبيا إلى حل سياسي سريع.

أسفر منتدى الحوار السياسي الليبي في تونس، بعد أسبوع من المفاوضات، عن اتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، في ذكرى الاستقلال يوم 24 كانون الأول/ديسمبر من السنة المقبلة. وأتى القرار في ضوء عرض كان قدمه رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السائح، للمتحاورين، في اليوم الأول، مؤكدا أن المفوضية يمكن أن تكون جاهزة للاشراف على انتخابات عامة، في غضون تسعين يوما، إذا ما تم تأمين الامكانات المادية اللازمة للقيام بهذه المهمة. وبتعبير آخر فإن حوارات تونس وضعت البلد، من جديد، على طريق مرحلة انتقالية إضافية، قد تطول أكثر من الشهور الأحد عشرة المحدَدة لها.

مخاوف من استمرار تدفق الأسلحة

وبذلك طغى على الحوارات الجدل على المحاصصات في هيئات السلطة المقبلة. ولا يبدو أن المشاركين يشعرون بتطلع الرأي العام في ليبيا إلى حل سياسي سريع، يمكن النازحين من العودة إلى بيوتهم، ويقضي نهائيا على مخاوف أهالي المدن والأحياء السكنية، من عودة القصف بالصواريخ والمدافع الثقيلة والطائرات المسيرة. وبينما كانت تدور الحوارات في ضاحية قمرت، المطلة على البحر المتوسط، شمال العاصمة تونس، كانت الأسلحة ما تزال تتدفق على قواعد الطرفين المتصارعين. وأبدى أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي لدى مناقشة صفقة بيع خمسين طائرة من طراز “أف 35″ للإمارات، مخاوفهم من تحويل السلاح إلى الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، مُستدلين برحلات سابقة لطائرات من إلامارات، الشريك المفضل لـ”البنتاغون” حسب تصنيف “واشنطن بوست” نحو المنطقة الشرقية الخاضعة لسيطرة حفتر. كما انتقد الأمريكيون استمرار روسيا بإرسال أسلحة ومحاربين إلى ليبيا، وهو ما نفته موسكو.

اغتيال حنان البرعصي

وبموازاة حوارات تونس، ظلت العصابات المسلحة تعيث فسادا في الأرض، شرقا وغربا، مُطلقة النار على المحامية البارزة حنان البرعصي (47 عاما) في شارع رئيسي من شوارع بنغازي، بعدما اغتالت العام الماضي، زميلتها النائبة سهام سيرقيوة، إثر خطفها من بيتها. ويعكس هذا الواقع المتشح بالسواد، الفجوة القائمة بين المتحاورين وجحيم الداخل الليبي، فهناك بين هؤلاء من ذاع صيته في كبريات الصحف الغربية على أنه من أقطاب الفساد.

وتُعزى هذه الفجوة إلى طبيعة الأشخاص الذين تم انتقاؤهم للمشاركة في الحوارات، والذين يجرُ بعضهم ملفات سوء إدارة، وحتى شبهات فساد خلفهم، عندما تقلدوا مسؤوليات في الدولة بعد 2011. وليس سرا أن رئيسة البعثة الأممية بالنيابة ستيفاني وليامز لعبت الدور المحوري في انتقاء المشاركين فردا فردا، بعدما سمى كل من مجلس النواب (شرق) والمجلس الأعلى للدولة (غرب) ممثليهم الستة والعشرين في الحوارات. والواضح أن وليامز، التي كانت قائمة بالأعمال في السفارة الأمريكية لدى ليبيا، قبل تولي منصبها الحالي، والتي تعرف دقائق الملفات والأشخاص، هي من استأثر بإدارة الحوارات، حتى يصحُ فيها القول إنها حوارات ليبية- أمريكية- ليبية. ولا يمكن أن يتصور المرء أنه لا يوجد في ليبيا اليوم ثلاثة حكماء (من مناطق ليبيا الجغرافية الثلاث) لا اعتراض عليهم من أحد، قادرين على تشكيل مكتب رئاسة للحوار، يتألف من رئيس ونائبه ومقرر. ألم يكن ذلك كفيلا بإنقاذ ماء الوجه، بدلا من ترك القرار الليبي المستقل خلف بوابات قاعة الاجتماعات؟

استئثار أمريكي

الجميع يعلم أن أمريكا عادت بقوة إلى الملعب الليبي، بعد انسحاب غير طويل، لما لاحظت أن موسكو أدخلت أصابعها إلى الكيس، تحت مُسمَى “فاغنر” وأن الوساطات الفرنسية والإيطالية والعربية فشلت في المصالحة بين الإخوة الأعداء، فأخذ الأمريكيون الأمور بأيديهم، سواء من خلال حراكهم الدبلوماسي المباشر أم من خلال البعثة الأممية، خاصة بعد استقالة رئيسها السابق الدكتور غسان سلامة. لكن لا شيء من ذلك يُمكن أن يُبرر الاستئثار الأمريكي بالكبيرة والصغيرة في الحوارات، علما أن مهام ويليامز في بعثة الأمم المتحدة انتهت منذ أواخر الشهر الماضي، ولم يُعلن عن أي تجديد لها.

وتمحورت القضايا الخلافية في حوارات منتدى تونس على آلية تجديد الهيئات السياسية، وخاصة المجلس الرئاسي، فهناك من اقترح انتخاب رئيس جديد للمجلس الرئاسي ورئيس للحكومة من بين الحضور، وهو ما أغضب أنصار رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، الذي كان يأمل بترؤس المجلس الرئاسي، إلى حد التهديد بمغادرة المنتدى، كونهم لا يتمتعون بالغالبية. وأتى الاقتراح الثاني بأن يعرض كل مرشح لائحة متكاملة بثلاثة أعضاء (رئيس وعضوان) لكن المعترضين نبهوا إلى صعوبة الحسم، إذا ما تم التوافق على الرئيس ورفضُ العضوين أو أحدهما. ومن أقوى المرشحين لرئاسة الحكومة المقبلة فتحي باشاغا وزير الداخلية المكلف في حكومة السراج، وهما من مدينة مصراتة (وسط). ويُعتبر أحمد معيتيق (من مصراتة) نائب رئيس المجلس الرئاسي حاليا، أقل حظوظا، بالنظر للعلاقات الواسعة التي ربطها منافسُه باشاغا مع العواصم المؤثرة في الملف الليبي.

عودة السراج

ولم يستبعد أحد المشاركين التجديد للسراج، مؤكدا أن اسمه مطروح على مائدة الحوار، فيما ذهب آخرون إلى القول إن ويليامز تستعد لإعلان تشكيلتها، في ختام المنتدى غدا الاثنين، في حال لم يتوصل المتحاورون إلى اختيار المسؤولين عن المؤسسات التنفيذية. وتم تأجيل الاختتام مرتين، بسبب عمق الخلافات بين المتحاورين حول هذه المسائل، على أن يختتم أعماله مبدئيا غدا.

والجدير بالإشارة أن الأمم المتحدة منعت المشاركين من تولي أي منصب في السلطة التنفيذية المقبلة، ووجهت لهم تعهدا كتابيا بعدم الترشح أو قبول أي منصب في الحكومة أو المجلس الرئاسي، خلال الفترة التمهيدية التي تسبق الانتخابات “لضمان عدم تضارب المصالح وترسيخا لمبدأ التداول السلمي على السلطة” على ما ورد في نص التعهد.

جدل حول مكانة المرأة

وشكل موقع المرأة الليبية في الهيئات السيادية مثارا لخلاف من نوع آخر، إذ تقدمت إحدى المشاركات باقتراح لتولي سيدة وجوبا منصب نائب رئيس المجلس الرئاسي، الذي سيتألف من ثلاثة أعضاء، بدل تسعة حاليا. وتحمس أحد المشاركين متسائلا “لم لا تترأس سيدة ليبية المجلس الرئاسي؟” فيما رأى آخر أن على كل مُرشح لرئاسة المجلس أن يختار نائبيه بشرط أن تكون إحداهما سيدة. لكن أجواء المنتدى اتسمت بالمحافظة، ولم تكن مواتية لهذه الخيارات. وربما تغير الوضع في الانتخابات المقررة للعام المقبل، خاصة أن كثيرا من النساء الليبيات قدمن حياتهن ثمنا لسيادة القانون واحترام الحريات، أسوة بالمحاميات حنان البرعصي وسهام سرغيوة وسلوى بوقعيقيس وانتصار الحصائري.

صلاحيات جديدة

في السياق كانت إحدى القضايا التي أثارت جدلا في جلسات الحوار، مذكرة صلاحيات المجلس الرئاسي الجديد، التي تم عرضها على المتحاورين، والتي تضمنت بندا يرمي لتحصين اتفاقات اردوغان مع السراج خلال المرحلة الانتقالية، بما يستثني الوجود العسكري التركي في ليبيا من الاتفاقات العسكرية المطلوب تجميدها أو إلغاؤها. واستند المدافعون عن الاستثناء على أن تلك الاتفاقات تمت “بين حكومتين شرعيتين” على رأيهم. ونصت الفقرة العاشرة من المادة السادسة في مذكرة صلاحيات المجلس الرئاسي، على “ألا تنظر السلطة التنفيذية الجديدة خلال المرحلة التمهيدية في اتفاقات أو قرارات جديدة أو سابقة، بما يضر باستقرار العلاقات الخارجية لدولة ليبيا، أو يلقي عليها التزامات طويلة الأمد”.

ويتناقض فحوى هذه الفقرة مع مخرجات اجتماعات اللجنة العسكرية الليبية المشتركة 5+5 التي اتفق أعضاؤها يوم 23 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، على إخراج القوات الأجنبية من ليبيا وسحب المرتزقة ووقف الاتفاقات المبرمة بين الحكومتين الليبية والتركية، في المجالات العسكرية والأمنية والبحرية، وحظر المجموعات والكيانات المسلحة “بجميع مسمياتها” على كامل التراب الليبي وتفكيكها، وفقا لمخرجات مؤتمر برلين، وقرار مجلس الأمن رقم 2510. وكانت تلك الخطوة محل ترحيب من أعضاء مجلس الأمن، الذين أوصوا في 26 من الشهر الماضي بالالتزام بالاتفاق لحل الأزمة في ليبيا.

وجيش ليبي جديد؟

بموازاة حوارات المنتدى السياسي الليبي في تونس، كثف وزير الدفاع المكلف في حكومة الوفاق صلاح الدين النمروش من زياراته الخارجية، في إطار معاودة بناء الجيش الليبي، متجاهلا ما يدور من جدل فوق ربوة قمرت، على مقربة من العاصمة التونسية. وبعدما زار النمروش القاعدة التي تتدرب فيها قوات الطلائع الليبية في تركيا، اجتمع مع نظيره الإيطالي للبحث في دعم القوات البحرية الليبية. كما زار الدوحة حيث وقع مع نظيره القطري خالد العطية، على بروتوكول للتعاون في مجال التدريب وبناء القدرات، والذي يُؤمل الليبيون أن “يساهم في دعم بناء القدرات والاستفادة من الخبرات القطرية” بحسب حكومة الوفاق المعترف بها دوليا.

نجاحٌ على المسار الاقتصادي

مع الأجواء الملفوفة بالغموض، في “المنتدى السياسي الليبي” الذي لم يُسمح للإعلاميين باجتياز عتباته الُمُعتمة، تلوح بعض بوارق الأمل، التي منها المخرجات التي توصل إليها المشاركون في المسار الاقتصادي والمالي، المنبثق من مؤتمر برلين، والذي لا يتحدث عنه الإعلام كثيرا، على خلاف المسارين السياسي والعسكري، إذ قطع المشاركون في هذا المسار خطوات مهمة لإخراج المسلحين من الحقول والموانئ النفطية، وتأمين استمرار تدفق النفط والغاز، شريان الحياة للدولة الليبية، خاصة بعدما عاد الانتاج إلى مستواه الطبيعي متجاوزا 1 مليون برميل في اليوم. والليبيون موعودون باجتماع مصيري يوم 26 من الشهر الجاري، في ميناء البريقة النفطي (شرق) لحسم بعض الأمور الدقيقة، ومنها توزيع إيرادات النفط بين مختلف مناطق ليبيا، والمعايير التي ستُعتمد لذلك التوزيع، وتسمية كبار المسؤولين في هذا القطاع، ومن بينهم حاكم مصرف ليبيا المركزي ورئيس المؤسسة الوطنية للنفط..

تعليقات