رشيد خشانة – رغم التقدم الذي حققته اجتماعات اللجنة العسكرية، بوصفها أحد مسارات برلين الثلاثة، فإن الأصابع لم تبتعد عن الزناد هنا وهناك.

من يعتقد أن الحرب الأهلية وضعت أوزارها في ليبيا، وأن مصراعي باب الاقتتال أغلقا بإحكام، ليتركا مكانهما لتسوية سلمية، على أساس مخرجات مؤتمر برلين وملتقى تونس، فهو واهم. السلاح ما زال يتدفق، من روسيا ومصر، بتمويل إماراتي، على القوات الموالية للجنرال المتقاعد خليفة حفتر، المتمركزة بكثافة في محور سرت-الجفرة، بينما تستمر تركيا بتسليح القوات المؤيدة لحكومة الوفاق وتدريب ضباطها.

وعلى الرغم من التقدم الذي حققته اجتماعات اللجنة العسكرية، بوصفها أحد مسارات برلين الثلاثة، فإن الأصابع لم تبتعد عن الزناد هنا وهناك. ومن الواضح أنه لولا الضغط القوي الذي مارسه الأمريكيون على المتحاورين في تونس، لتعذر تحقيق توافق على كثير من الخطوات البناءة التي قُطعت، وهو ما لم يكن مضمونا لو كانت الجهة الضاغطة هي فرنسا أو إيطاليا مثلا. وكان الضغط الأمريكي لافتا، سواء عبر رئيسة البعثة الأممية بالوكالة ستيفاني وليامز، أم عن طريق الدبلوماسيين الأمريكيين، الذين تحركوا بكثافة في كواليس ملتقى الحوار الليبي، وقد حظرت الأمم المتحدة على الإعلاميين التواصل معهم.

ولوحظ أن الموفدة الأممية أدانت بأشد الكلمات اغتيال المحامية والناشطة الحقوقية البارزة حنان البرعصي، في بنغازي، على أيدي عناصر موالية لحفتر، معتبرة أن مقتلها “يُبين بجلاء التهديدات والمخاطر الشخصية التي تواجهها المرأة الليبية بسبب المجاهرة برأيها”. وهذه الجريمة هي واحدة من سلسلة عمليات مشابهة، أشهرها اختطاف النائبة والطبيبة النفسية سهام سرقيوة من بيتها وضرب زوجها. ولم يُعرف مصيرها إلى اليوم.

في هذه الأجواء كان مفهوما أن الجملة المفتاحية في إحاطة وليامز إلى مجلس الأمن، الخميس الماضي، كانت قولها “إن الوضع ما زال هشا وليس هناك وقت للتهاون”. ولاشك بأنها من أكثر العارفين بدقة الوضع العسكري الراهن وحساسيته، بعد إطفاء البركان، الذي يكفي عود ثقاب لكي يثور مجددا.

ومع السلاسة الظاهرية لاجتماعات اللجنة العسكرية، التي توصلت إلى اتفاقات تحمل على التفاؤل، خاصة في غدامس وسرت، لم يباشر الجانبان سحب قواتهما من الجبهات. وما زالت قوات حكومة الوفاق مرابطة في أبو قرين والوشكة، فيما رصدت الأمم المتحدة رحلات شحن عسكرية في مطاري الوطية ومصراتة. وفي الطرف المقابل تابعت القوات الموالية لحفتر والميليشيات الداعمة لها إقامة تحصينات ونقاط عسكرية مزودة بأنظمة دفاع جوي بين سرت والجفرة، وكذلك إلى الشمال من قاعدة الجفرة الجوية. كما رصدت الأمم المتحدة نشاطا مكثفا لطائرات شحن بين مطار بنينة (بنغازي) والجفرة (جنوب سرت) وقاعدة القرضابية الجوية.

مركز مؤتمرات القذافي

في الوقت نفسه، سُجلت بوادر إيجابية من بينها أن اللجنة العسكرية أنشأت مقرها الدائم في مركز واغادوغو للمؤتمرات الشهير منذ أيام حكم القذافي. واتفق أعضاء اللجنة العشرة على إعادة فتح الطريق الساحلية بين مصراتة وسرت، مع نشر قوة أمنية مشتركة، فضلاً عن استئناف الرحلات الجوية بين طرابلس وبنغازي، وهو ما تم فعلا.

ويمكن القول إن هذه المؤشرات هي ما يشجع على تنفيذ أهم قرار أسفرت عنه سبعة أيام من الجلسات المكثفة في “الملتقى السياسي الليبي” في تونس، وهو إجراء انتخابات عامة يوم 24 كانون الأول/ديسمبر من العام المقبل. وباشر رئيس المفوضية العليا للانتخابات عماد السائح الإعداد الفني للانتخابات، فيما تعهد رئيس حكومة الوفاق فائز السراج بتأمين الاعتمادات اللازمة لتنظيم العملية الانتخابية، ما جعل وليامز تعتبر أن “البيئة باتت الآن أكثر ملاءمة لإجراء انتخابات شاملة وذات مصداقية.” على ما قالت في إحاطتها الأخيرة بواسطة الفيديو، أمام أعضاء مجلس الأمن.

وزيادة على تحديد موعد الانتخابات في غضون 12 شهراً تقريباً، تحدد خريطة الطريق مواقيت نهائية واضحة تستوجب من المؤسسات ذات الصلة، القيام بالتعيينات اللازمة في المناصب السيادية، والمصادقة على رموز السلطة التنفيذية الجديدة. وفي هذا الإطار، توعدت وليامز، في صورة الإخفاق في تلك العملية، أن يعود الملتقى السياسي، مرة أخرى، إلى “اتخاذ القرارات اللازمة، تماشياً مع خلاصات برلين والقرار الأممي 2510”. وأحدثت آلية غير رسمية لمراقبة مدى تنفيذ خريطة الطريق “من أجل ضمان إجراء الانتخابات في المواعيد اللازمة” على ما ذكرت. ويرمي وضع هذه الآلية إلى الاستغناء عن فترة انتقالية جديدة مفتوحة. كما عزت هذه العملية إلى “مطلب الغالبية العظمى من الشعب الليبي، المتطلعة إلى إجراء انتخابات وطنية”.

النفط ورقة ضغط

المشهد لا يختلف أيضا على المحور الاقتصادي والمالي، فمع بداية تعافي الاقتصاد، في أعقاب معاودة تدفق النفط الخام من الحقول، نحو الموانئ النفطية على الساحل المتوسطي، فإن استعادة التوازنات المالية ستستغرق وقتا. وكان حفتر يتخذ من السيطرة العسكرية على الحقول والموانئ النفطية ورقة ضغط على الجميع، وخاصة على غريمته حكومة الوفاق، باللجوء إلى طريقة تجفيف الينابيع. في أثناء ذلك، تظل مصاعب الحياة اليومية قائمة، ومنها انقطاعات الكهرباء والماء وشح السيولة في المصارف وتراكم النفايات، ما يُضاعف من غضب المدنيين، ويجعل احتمالات اندلاع حركات اجتماعية احتجاجية واردا، على غرار المظاهرات التي اندلعت في طرابلس الصيف الماضي. ويقول الخبير الفرنسي فريدريك بوبان إن إقفال الموانئ النفطية أدى إلى نزول إنتاج البلد من المحروقات، من مليون برميل يوميا في أواخر 2019 (قبل حصار طرابلس) إلى 100 ألف برميل فقط في اليوم بعد الحصار، ما استدعى اللجوء إلى الاستيراد بأسعار باهظة، أنهكت الميزان المالي للدولة. واللافت أن ليبيا ستُبصر أول مراجعة مالية لفرعي مصرف ليبيا المركزي، منذ 2008 ومن شأن هاتين المراجعتين المتزامنتين أن ترفعا مستوى الشفافية، في إدارة الأموال العامة، بشكل كبير.

وما زال التفاوض للتوصل إلى إنشاء هيئة اقتصادية دائمة، تضمن التوزيع العادل والشفاف لعائدات النفط، يعتمد على التقدم المحرز في المسار السياسي، فبموجب ترتيبات استئناف إنتاج النفط، تتحفظ المؤسسة الوطنية للنفط (قطاع عام) على العائدات، حتى يتم التوصل إلى اتفاق في شأنها. وفيما وضع الحوار الاقتصادي الليبي- الليبي خيارات تتعلق بالسياسة العامة، لتحسين إدارة الثروات، مازال التفاوض على تكوين تلك الهيئة يشكل تحدياً، نظراً للاستقطاب بين النظامين التنفيذيين في الشرق والغرب.

عودة إلى ما قبل الحصار

وعاد إنتاج النفط الآن إلى مستويات ما قبل الحصار عند 1.2 مليون برميل في اليوم. والثابت أن إحراز تقدم في إنشاء هيئة اقتصادية دائمة وشفافة، لإدارة العائدات، من شأنه أن يساعد في دعم هذا التطور الإيجابي على الصعيد المالي، بعدما كانت السلطات في الشرق تتذرع بغياب توزيع عادل للثروة، من أجل إيقاف الإنتاج في الحقول وعسكرتها. ويمكن أن نضع في هذا السياق الاجتماع الذي عقدته رئيسة البعثة الأممية بالوكالة، يوم الاثنين الماضي في مرسى البريقة، مفتاح الهلال النفطي، مع كل من رئيس المؤسسة الوطنية للنفط وقادة حرس المنشآت النفطية في الشرق والغرب، لمناقشة توحيد قوة الحرس ومعاودة هيكلتها.

مع هذا التحسن الطفيف للأوضاع الاجتماعية والأمنية، يُصبح الحديث عن إجراء انتخابات عامة، أقل سريالية مما كان قبل ملتقى تونس، بالرغم من أن كوفيد-19 ما فتئ ينتشر في ليبيا بخطوات تبعث على القلق. وقرار إجراء الانتخابات يوم 24 كانون الأول/ديسمبر من العام المقبل، يحتاج، بالإضافة للسيطرة على الوباء، إلى الاتفاق على مرجعيتها الدستورية أولا. ولا يمكن أن يكون الإعلان الدستوري، الذي وضعه المجلس الوطني الانتقالي في 2011 والذي أجريت على أساسه انتخابات “المؤتمر الوطني العام” (2012) أساسا للانتخابات، مثلما اقترح البعض، لأنه صار لاغيا بالتقادم.

دستور صغير

واقترح البعض الآخر وضع دستور صغير أو وثيقة دستورية خاصة بالمرحلة الانتقالية، وهذا أيضا رأي غير واقعي، لأن المناقشات حول “الدستور الصغير” ستلتهم الحيز الزمني المُتبقي لإجراء الانتخابات. لكن من غير المفهوم صمت كثيرين عن مسودة الدستور، التي أعدتها لجنة منتخبة تمثل جميع أقاليم ليبيا، والتي ضمت ستين عضوا من خيرة الخبراء في القانون الدستوري والعلوم السياسية. ويتجاهل هؤلاء أن “لجنة الستين” فرغت من عملها، بعد عدة اجتماعات في عواصم مختلفة، وتوصلت إلى مسودة جاهزة للاستفتاء عليها، وقد أجيزت منذ يوم 29 تموز/يوليو 2019 بعدما نالت الغالبية، مُستأثرة بأصوات ثلثي أعضاء اللجنة. بالإضافة إلى هذه العقبة القانونية، هناك عقبات سياسية، من ضمنها تسريع المشاورات لاختيار رئيس حكومة جديد، والفصل بين الحكومة والمجلس الرئاسي، زيادة على تسمية رئيس المجلس، وهي مسألة جدلية لأن الخمسة وسبعين مشاركا في ملتقى تونس لم يتفقوا على آلية واضحة لاختياره، بين التعيين عن طريق التوافق أو انتخابه من قبل الخمسة والسبعين، وهو خيار يلقى معارضة شديدة من أنصار رئيس البرلمان منتهي الصلاحية عقيلة صالح عيسى.

حملة انتخابية؟

وتُرجح مصادر من المشاركين في ملتقى تونس أن وزير الداخلية المفوض فتحي باشاغا هو أحد المرشحين الأكثر حظا للفوز بمنصب رئيس الحكومة. ومن أجل ذلك باشر منذ فترة غير قصيرة حملة علاقات عامة، ليس فقط في اتجاه المنطقة الشرقية، من خلال زيارته لبنغازي، وإنما أيضا من خلال سفره إلى العواصم المؤثرة في الملف الليبي من القاهرة إلى باريس مرورا بروما وأنقرة والدوحة وفاليتا. وأفادت مصادر أوروبية أن باشاغا حاول إقناع الأوروبيين بأن البيئة الليبية باتت جاهزة الآن لإعلان اتفاق سياسي يجمع كل الليبيين، مؤكدا أن الجميع يتطلعون إلى قيادة سياسية واحدة “تُخرج البلد إلى بر الأمان، بعيدا عن أي (نزعات) جهوية أو مناطقية”.

بموازاة التجاذبات السياسية بين المرشحين لقيادة المجلس الرئاسي والحكومة، مع الفصل بين المؤسستين، تتفاقم الأوضاع المعيشية في مناطق ليبيا المختلفة، إذ تشير التقديرات إلى أن 1.3 مليون شخص سيحتاجون إلى مساعدة إنسانية في العام المقبل، أي بزيادة تُقدر بـ40 في المئة، قياسا على عددهم في العام الماضي. لكن هناك، بالمقابل، تطورا إيجابيا تمثل في تراجع أعداد النازحين داخل ليبيا من 426 ألف نازح إلى 392 ألفا بحسب الأمم المتحدة. ويُؤخر انعدام الخدمات الأساسية، في المناطق التي كانت مسرحا للحرب، خاصة في الضواحي الجنوبية لطرابلس، عودة النازحين إلى مناطقهم، فضلا عن مخاطر الألغام والمتفجرات التي خلفتها قوات حفتر لدى انسحابها من محيط العاصمة. لكن الألغام موجودة أيضا في مسارات برلين الثلاثة، وستوضع النخب الليبية أمام امتحان كبير لنزعها، من أجل فتح طريق آمنة للتسوية السياسية المأمولة.

تعليقات