رشيد خشــانة  –  مع مجيء الرئيس المنتخب جو بايدن إلى البيت الأبيض، في العشرين من الشهر المقبل، سيجد على مكتبه، بين ملفات أخرى، ملف العلاقات مع بلدان شمال أفريقيا، التي تتبوأ فيها الأزمة الليبية موقعا متقدما، بالنظر لما تعتبره واشنطن تهديدا لمصالحها الاستراتيجية، في ظل استمرار الحرب وعدم الاستقرار. وأبصرت السياسة الأمريكية على عهد الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب، تخبطات وإخفاقات، ستعمل الإدارة المقبلة على معالجتها وتصحيحها.

وإجمالا لم تحظ المنطقة المغاربية بمكانة متقدمة في سلم أولويات إدارة ترامب، خلافا لإدارة أوباما، التي اقتربت كثيرا من شمال أفريقيا، وأوفدت وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون مرتين إلى المنطقة، وخاصة إلى تونس والمغرب، في سياق تفاعلها مع ما عُرف بثورات الربيع العربي.

غير أن اغتيال السفير الأمريكي لدى ليبيا كريس ستيفنس، وثلاثة من الدبلوماسيين الأمريكيين في مقر قنصلية بلدهم في بنغازي، في 11 أيلول/سبتمبر 2012 سدد ضربة قوية لمحاولات الاقتراب من المنطقة، وانتهى بدفع الوزيرة نفسها إلى الاستقالة في نهاية المطاف. والأكيد أن تلك الأجواء المُلبدة بالسحب، جعلت الإدارة اللاحقة، بزعامة ترامب، تتوخى الحذر في تعاطيها مع المنطقة، التي تراجع مكانها في سلم الأولويات الأمريكية. وليس أدل على ذلك من أن أقدام الرئيس ترامب لم تطأ المنطقة المغاربية طيلة ولايته الرئاسية، ولا خاطب هاتفيا أيا من زعمائها، من أجل البحث في حال العلاقات الثنائية وكيفية تطويرها.

أبرز مسؤول

من هنا طغت الهواجس الأمنية على تعاطي إدارة ترامب مع قيادات المنطقة، وليس صدفة أن آخر أبرز مسؤول أمريكي من الإدارة الحالية، زار المنطقة هو وزير الدفاع مارك إسبر، الذي جال على كل من تونس والجزائر والمغرب، في أيلول/سبتمبر الماضي، وكانت الأزمة الليبية النقطة الأولى في محادثاته مع قادة الدول الثلاث. ويُعتبر إسبر أول رئيس للبنتاغون يزور الجزائر منذ 15 عاما، ما يدل على عودة الاهتمام الأمريكي بالمنطقة. وكشف إسبر في تصريحاته أنه أتى في إطار خطة لمواجهة التوغلين الروسي والصيني في المنطقة، مع التركيز على الروس في الدرجة الأولى.

والثابت أن دخول مقاتلين من الشركة الأمنية الروسية الخاصة “فاغنر” المعروفة بقربها من الكرملين، حلبة الصراع في ليبيا، شكل انعطافا في مسار الحرب الأهلية الليبية، إذ استُقبل بامتعاض وقلق شديدين في واشنطن. وساهم انخراط هؤلاء المقاتلين، المتمرسين على الحرب، في تغيير موازين المعركة بين قوات الجنرال خليفة حفتر وقوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا. وفي هذا السياق انتقد مسؤولون أمريكيون، على هامش جولة إسبر، ما سمَوها “الأنشطة الخبيثة للصين وروسيا في القارة الأفريقية”. كما ناقش إسبر مع زعماء البلدان الثلاثة التهديدات الأمنية التي تشكلها التنظيمات المسلحة على استقرار المنطقة، وفي مقدمتها تنظيما “داعش” و”القاعدة”.

قلق لدى الشيوخ

ويمكن القول إن الكلام الذي وجهه الوزير إسبر إلى زعماء البلدان الثلاثة التي زارها، كانت صدى لشعور القلق الذي عبر عنه أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي، بعدما سُجل من خروق لحظر إرسال الأسلحة إلى المتحاربين في ليبيا. وقال أعضاء من المجلس، في نقد غير مباشر لسياسة الإدارة في الملف الليبي، إنهم قلقون، بشكل خاص، بشأن دعم الإمارات للجنرال خليفة حفتر. واستدلوا بصور لرحلات طيران إماراتية نحو مناطق خاضعة لسيطرة الجنرال المتقاعد. واتهمت الولايات المتحدة روسيا أيضا بتزويد قوات القيادة العامة (حفتر) بأسلحة ومقاتلين، وهو ما نفاه “الكرملين”. لكن واشنطن ما زالت تغض الطرف على بواخر الأسلحة التي ترسلها تركيا، حليفتها في “حلف شمال الأطلسي” إلى كل من طرابلس ومصراتة.

وتتجلى هذه الازدواجية في حرص أمريكا على العلاقة مع حكومة الوفاق ومجلسها الرئاسي، بوصفهما إحدى مخرجات اتفاق الصخيرات، في مقابل برود علاقاتها في المنطقة الشرقية مع حفتر، منذ هزيمة قواته وانسحابها من المنطقة الغربية. وبالعودة إلى موقف الرئيس المنتهية ولايته ترامب، الذي كان من المؤيدين لحفتر، لدى إطلاق هجومه على طرابلس في 4 نيسان/أبريل 2019 يتجلى التباعد الصامت الذي كان قائما بين خط وزارتي الخارجية والدفاع من جهة وخط الرئاسة من جهة ثانية. ولم يتوان ترامب عن مهاتفة حفتر، بعد أيام من انطلاق الهجوم على العاصمة طرابلس، ما اعتُبر تأييدا رسميا للعملية.

ضغوط من الكونغرس

غير أن الخارجية كانت قد انتهجت طريقا آخر بسبب خشيتها من تداعيات تحالف حفتر مع موسكو، وفتح الطريق أمام توغل عناصر شركة “فاغنر” في بلد يُسيطر على ألفي كيلومتر من سواحل البحر المتوسط. وأتى هذا التعديل ثمرة لضغوط مارستها مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي (الكونغرس) على الوزارة، من أجل اتخاذ تدابير تحدُ من تدفق السلاح وتعاقب المخالفين لقرارات الحظر الأممية. وشدد الأعضاء على ضرورة التثبُت مما إذا كانت هناك أسلحة ومعدات أمريكية الصنع تستخدم في القتال بين الليبيين. ويرمي التركيز على هذه المسألة إلى كون الأمريكيين يستعدون لبيع خمسين طائرة عسكرية متطورة من طراز “أف 35” للامارات “الشريك المفضل للبنتاغون” على ما تقول صحيفة “واشنطن بوست” ما يعني أنها قد تستخدم في ليبيا.

أكثر من ذلك، انتقد ثلاثة أعضاء بارزون في الكونغرس، وهم بيرني ساندرز وكوري بوكر وجين شاهين، في رسالة إلى وزير الخارجية بومبيو، الشهر الماضي، تراخي الإدارة الحالية في مجال مراقبة تدفق السلاح إلى ليبيا، مُعتبرين أن الخطوات العملية التي اتخذتها في هذا المضمار قليلة، ومُطالبة بفرض عقوبات صارمة على منتهكي الحظر. وأشار الأعضاء الثلاثة في رسالتهم، التي نشرتها صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن تعهدات الدول التي التزمت بتنفيذ الحظر لم يعقبها تنفيذ، وذكرت بالاسم تركيا وروسيا والامارات.

وتبلورت السياسة الأمريكية إزاء منطقة شمال أفريقيا، وبالأخص اتجاه الملف الليبي، من خلال الوثيقة الإطارية التي أطلق عليها عنوان “القانون الأمريكي لتحقيق الاستقرار في ليبيا” الذي صدق عليه الكونغرس. وتؤكد الوثيقة على أنه لا حل عسكريا للصراع في ليبيا، وأن التقسيم أرضية خصبة لانتشار الإرهاب. واعتبر مشروع القانون أن خدمة المصالح الأمريكية تتحقق عبر الحوار والوسائل الدبلوماسية. ومن هذا المنطلق يشجع الأمريكيون دول الجوار على لعب دور أكبر في تجسير الفجوة بين الليبيين، والعمل على إنهاء الحرب، والاتجاه نحو انتخابات عامة، طبقا لمخرجات “الملتقى السياسي الليبي” في تونس الشهر الماضي.

لا بل إن بعض أعضاء الكونغرس أكدوا أنه إذا ما أريد لمحادثات السلام التي تقودها الأمم المتحدة أن تنجح، فيجب تطبيق حظر السلاح. غير أن الأوساط الأمريكية العليمة لا تتوقع أن يُوقع ترامب على مشروع “قانون الاستقرار في ليبيا” قبل مغادرته البيت الأبيض، في العشرين من الشهر المقبل. وعزوا السبب إلى أن المشروع يقضي بمعاقبة منتهكي الحظر، وكل من يدعم الجماعات المرتزقة، وأن الإمارات ستكون من أول الأطراف التي ستلاحقها تلك العقوبات. واستدل الأمريكيون برصد رحلات طيران إماراتية وصلت إلى المناطق التي يسيطر عليها الجنرال حفتر، بالإضافة لوجود استعدادات لنقل أكثر من ألف مرتزق من السودان وتشاد إلى الشرق الليبي.

الذراع الأمريكية

ويمكن القول إن كلا من الخارجية والبنتاغون وضعا هذه التوجهات على سكة التنفيذ، إذ بات واضحا أن رئيسة البعثة الأممية للدعم في ليبيا بالوكالة ستيفاني وليامز هي الذراع المُنفذة لهذه السياسة المُتبلورة، مدعومة بالسفير الأمريكي لدى ليبيا نورلاند. كما بات واضحا أيضا أن واشنطن أحبطت الجهود الرامية إلى تعيين خليفة للدكتور غسان سلامة (قبل أن يتم التوافق أخيرا على مرشح بلغاري) لكي تبقى متحكمة بمسار الحوار الليبي الليبي. ويختلف هذا النهج جذريا عن السياسة التي سلكها ترامب في الفترة الأولى من ولايته الرئاسية، إذ لم يتوان عن منح وكالة لإيطاليا لتمثيل السياسة الأمريكية في ليبيا، وقال لرئيس الوزراء الايطالي السابق ماتيو رينزي، لدى استقباله في البيت الأبيض، إنه يدعم الحليف الايطالي، ما حفز الايطاليين على عقد مؤتمر في باليرمو لتسوية الأزمة في ليبيا، إلا أنه أخفق بسبب غياب حفتر.

مكافحة الجماعات الإرهابية

وعدا عن الملف الليبي ركزت إدارة ترامب في علاقاتها مع البلدان المغاربية على تطوير التعاون العسكري والتنسيق الاستخباراتي، وهو ما تجلى من خلال نوعية المسؤولين الأمريكيين الذي زاروا المنطقة في السنوات الأخيرة، وهم وزير الدفاع وقادة قوات “أفريكوم” (القيادة العسكرية لأفريقيا). ويحرص الأمريكيون على تعزيز التنسيق مع الجزائر في ملف انتشار الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل والصحراء، لسببين رئيسين أولهما أن الجزائريين يملكون أحد أقوى الجيوش في أفريقيا، وإن ظل الدستور طيلة عقود يمنع القيام بمهام عسكرية في الخارج، وثانيهما الخبرة التي اكتسبها الجزائريون في مكافحة الجماعات المسلحة، منذ تسعينات القرن الماضي.

أما مع المغرب، فاستطاع الأمريكيون في عهد ترامب أن يُطوروا العلاقات العسكرية ببيع طائرات حربية وعتاد عسكري، إلى جانب التنسيق الأمني الذي يعتبره الجانبان “نموذجيا”.

والأرجح أن علاقات واشنطن مع البلدان المغاربية ستتعزز في ظل رئاسة جو بايدن، بحكم مقتضيات الحرب المشتركة على الإرهاب، وأيضا التنسيق مع المغرب وتونس في الجهود الرامية لإنهاء الصراع في ليبيا، بالاضافة للسعي المستمر لاحتواء التمدد الاقتصادي للصين والتمدد العسكري لروسيا في شمال أفريقيا.

تعليقات