رشيد خشــــانة – باتت الأزمة الليبية محورا لتراشق علني بالتهم بين وزيري الخارجية الأمريكي بومبيو والروسي لافروف، إذ اتهم الأخير واشنطن بممارسة الألاعيب السياسية في المنطقة المتوسطية.
ورد نظيره الأمريكي بتحميل موسكو مسؤولية تهديد الاستقرار في منطقة البحر المتوسط، “باستخدام أساليب مختلفة لنشر معلومات مُضللة وتقويض السيادة الوطنية وإحداث الخراب والصراعات والانقسام في بلدان المنطقة، ومن بينها ليبيا” على ما قال بومبيو. وما لبث لافروف أن رد بقوة على نظيره بقوله “إن الأمريكيين والدول الغربية الأخرى الحليفة للولايات المتحدة، لديهم أسلوب متماثل، وهو الاتهام علنًا من دون تقديم حقائق”، مشددا على أنه “لا توجد حقائق على ذلك”.
وأكد رئيس الدبلوماسية الروسية في رده أن الجميع “يعلم أن الأمريكيين كانوا يقاومون طيلة عام كامل، تحرك الأمين العام للأمم المتحدة لتعيين أول مبعوث جزائري لهذا المنصب، (رمطان العمامرة) ولاحقا طلب الاتحاد الأفريقي تعيين دبلوماسية من غانا عرقلها الأمريكيون أيضا” مشيرا إلى أن “هذه الحقائق معروفة في العالم” بحسب تعبيره.
وعاد لافروف ليرد على اتهام بومبيو لموسكو وعدد من الدول الأخرى بانتهاك الحظر المفروض على إمدادات الأسلحة إلى ليبيا، بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي، موضحا أنه “يجري الحديث عن هذا الموضوع بشكل متكرر ولم يقدم أحدٌ برهانا عليه”.

تركيا باقية وتتمدد

وفي خط مواز تسعى تركيا لتعزيز مواقعها في ليبيا، إذ ناقش البرلمان التركي الجمعة مقترحا تقدم به الرئيس اردوغان لتمديد مهام القوات العسكرية التركية في ليبيا 18 شهرا. ويقول الأتراك إن تلك القوات ترمي لدعم حكومة الوفاق ولا تقوم بمهام قتالية. وسبق أن وافق البرلمان التركي، في كانون الثاني/يناير الماضي على مذكرة لاردوغان أجازت إرسال قوات عسكرية تركية إلى ليبيا. وحقق السلاح الجوي التركي آنذاك، وبخاصة الطائرات المسيرة، من طرازي “بيرقتار” و”أنكا” تفوقا ساحقا على القوات التابعة للجنرال خليفة حفتر، المحاصرة للعاصمة طرابلس، ما أجبرها على انسحاب سريع نحو مدينة سرت.
ومع تعثر الحوارات الليبية الليبية، يُخشى من عودة الاشتباكات، خاصة بعدما توقف المتحاورون عند تفاصيل تقنية تخص تسمية المسؤولين التنفيذيين في الدولة. وفي السياق استحثت رئيسة البعثة الأممية ستيفاني وليامز الفرقاء الليبيين للوصول إلى توافق في الأيام العشرة الباقية من عمر مهمتها المديدة، قبل تسليم الملف إلى الموفد الأممي الجديد، البلغاري نيكولاي ميلادينوف. وفي بيان منشور على صفحة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، أكدت وليامز أنه “لا مجال لإضاعة الوقت وتمييع الاستحقاقات التي تم التوافق عليها في خريطة الطريق” وهي تقصد على الأرجح الانتخابات العامة المقررة للعام المقبل.
ويتطابق موقف وليامز هذا مع الزيارات الميدانية التي يقوم بها هذه الأيام السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند، وكانت آخرها إلى مدينة مصراتة، ذات الوزن الاقتصادي والسياسي والعسكري الكبير، حيث عرض مع نائب رئيس المجلس الرئاسي أحمد معيتيق المرحلة التي بلغتها الحوارات، والقضايا التي تعيق التوافق على تنفيذ خريطة الطريق، مجددا دعم أمريكا للحل السياسي ولحزمة الإصلاحات الاقتصادية. ولوحظ أن نورلاند تقصَد الإشارة إلى ضرورة توحيد المصرف المركزي وتوحيد سعر الصرف اعتبارا من الثالث من الشهر المقبل. ولقي هذا القرار الذي اتخذه مجلس إدارة المركزي بالاجماع، تجاوبا واسعا لدى الأوساط الليبية، لانعكاساته المتوقعة في التخفيف من المعاناة اليومية للمدنيين. إلى ذلك اعتُبر القرار خطوة نحو توحيد فرعي المصرف المركزي، في طرابلس (مقره الرسمي) وبنغازي، باعتباره إحدى المؤسسات السيادية للدولة. ومن الدلالات الإيجابية البارزة لهذه الخطوة أن اجتماع مجلس الإدارة، الذي اتُخذ فيه القرار، هو الأول للمجلس في السنة الجارية.

المؤسسة المصرفية مشلولة

غير أن شخصيات أخرى انتقدت بشدة هذا الإجراء، مُعتبرة إياه مواصلة لسيطرة البيروقراطية واحتكارها للاقتصاد الليبي. وهاجم الخبير محمد بويصير، الذي يحمل الجنسية الأمريكية، قرار تعديل سعر الصرف، واصفاً إياه بكونه “محاولة فاشلة جديدة من البيروقراطية التي تحتكر الاقتصاد الليبي”. وأكد أن “المؤسسة المصرفية المشلولة” في إشارة إلى المصرف المركزي، لا تُؤمن حتى 50 في المئة من حاجات السوق من الدولار، بالنظر إلى أن السوق الموازية “تُؤمن أكثر من نصف الحاجات من العملات الأجنبية” على ما قال.
أكثر من ذلك أظهرت ردود فعل مواطنية نقلتها كل من “قناة 24” وبوابة “الوسط” الليبيتين، أن مواطنين اعتبروا أن “تعديلا بهذا الشكل يُعد تغطية على المليارات التي سرقها المسؤولون من أموال الشعب” فيما حذر آخرون من أن سعر الصرف الجديد ستترتب عليه زيادة في أسعار المحروقات، وغيرها من المواد الاستهلاكية المدعمة والخدمات. وفي السياق رأى عضو مجلس النواب علي السعيدي أن المسار الاقتصادي كان أفضل مسار، وأغلب الأعضاء كان قلبهم على الوطن، لكن البعثة (الأممية) “تجاهلت هذا المسار، وذهبت إلى توحيد سعر الصرف، الذي يذهب بالبلاد إلى المجهول، من دون النظر في الترفيع من مرتبات المواطنين، إذ صار دخل الشخص المتقاعد مائة دولار فقط شهريًا”.

التفاف على العراقيل

والظاهر أن الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة بالإنابة في ليبيا وليامز حاولت تفادي هذا العطل، بالالتفاف على المعوقات السياسية مُعلنة، الخميس الماضي، عن تشكيل اللجنة القانونية لملتقى الحوار السياسي الليبي، التي ستوكل إليها مهمة العمل على وضع الترتيبات اللازمة للانتخابات العامة، المقررة للسنة المقبلة. لكنها لم تكشف النقاب عن أسماء أعضاء اللجنة، وأرجأت ذلك إلى “الأيام المقبلة”.
ويجوز القول إن ملتقى الحوار السياسي الليبي ما زال يدور حول نفسه، إذ اقتصر اجتماعه الأخير على استعراض الحضور آراءهم ومقترحاتهم لتحديد أنسب الآليات لاختيار رؤوس السلطة التنفيذية، التي ستتولى قيادة المرحلة التمهيدية، قبل حلول ميقات الانتخابات الوطنية.
وفي خطوة موازية عقدت اللجنة الاقتصادية اجتماعات يومي الاثنين والثلاثاء الماضيين، في جنيف، بإشراف وليامز، واتفق أعضاؤها على الاجتماع بشكل دوري “لدعم الإصلاحات الكفيلة بتخفيف معاناة الشعب الليبي، بما في ذلك متابعة التقدم الذي تم إحرازه في اجتماع مجلس إدارة المصرف المركزي، في شأن توحيد سعر الصرف في البلد”.
وبموازاة تلك المراوحة على المحور الاقتصادي، ما زال الوضع مرتبكا على المحور السياسي أيضا، بسبب رغبة أكثر من نصف أعضاء البرلمان باستبعاد رئيس مجلس النواب عقيلة صالح من منصبه، وإحلال شخصية توافقية محله. وفي هذا الإطار سعى عدد مهم من المشاركين في حوارات تونس وطنجة وغدامس إلى عقد جلسة برلمانية موحدة في غدامس من أجل انتخاب رئاسة جديدة للبرلمان، تطبيقا لما جاء في محادثات طنجة. وتبلور في تلك المحادثات سعي أغلبي إلى توحيد المجلس، بعد ست سنوات من الانقسام، في ظل رئاسة صالح، الذي انحاز للجنرال حفتر. بيد أن بعض النواب طرح إشكالا قانونيا يتمثل في أن الجلسة التشاورية ستكون غير شرعية إذا ما عُقدت خارج بنغازي أو طبرق (المقر المؤقت للبرلمان) وإذا ما تمت من دون دعوة رسمية من رئيس المجلس.

التفاف على العقبات؟

اهتدى الطرف المقابل إلى مخرج قانوني يتمثل بأن تكون الجلسة الأولى مخصصة لتغيير اللائحة الداخلية، ما يمنح صلاحيات لنائب الرئيس لعقد جلسة رسمية يترأسها، وبعدها تنطلق الجلسات الأخرى، خاصة أن إحدى المواد تشير صراحة إلى عقد مثل هذه الجلسة في حالة عجز الرئاسة عن تنظيمها أو تعمد الإضرار بمصلحة البرلمان.
وفي الأخير تم الاتفاق خلال الاجتماع الأول من نوعه بين 127 نائبا على تأجيل الجلسة إلى غد أو بعد غد، حتى يتسنى لأكبر عدد من النواب الحضور. وبالإضافة إلى رئاسة المجلس، ستتم مناقشة مكتب الرئاسة والدورة الرئاسية وتعديل اللائحة الداخلية للبرلمان، وإعادة انتخاب اللجان البرلمانية والفنية. لكن ما لم تتوافر الأرضية الخصبة لتجاوز معضلة توحيد البرلمان سيكون مصير تشكيلة السلطة التنفيذية الجديدة، في حال إقرارها، معلقا لأنها بلا غطاء شرعي، بينما هي تحتاج إلى التصديق عليها من مجلس النواب.
وسط هذا المناخ المشحون، وفي ظل ضعف قبضة الدولة، عادت الصراعات والمشاحنات القبلية لتطفو على السطح، بعدما غابت أو كادت تختفي في الفترة السابقة، وخاصة في مدن الجنوب، حيث الأجهزة الأمنية للدولة مشلولة. وامتدت هذه الظاهرة إلى الشمال أيضا، إذ اندلعت الخميس الماضي، اشتباكات مسلحة بين شباب ينتمون إلى قبيلتين في مدينة طبرق (شمال شرق) أسفرت عن سقوط أربعة قتلى وعدد من الجرحى. وما سهل اللجوء إلى الأسلحة وجودها بكثافة في جميع المناطق، وبين أيدي القبائل والأجسام شبه العسكرية، التي تفرض قوانينها وقراراتها على المدنيين. ويتعين، من أجل محاصرة هذه الظاهرة، عودة مؤسسات الدولة إلى دورها، وخاصة المؤسستين الأمنية والعسكرية، وهو أمر لا يتحقق إلا بتنفيذ خريطة الطريق، المتفق عليها في برلين مطلع العام الجاري.

تعليقات