رشيد خشـانة – يتفق غالبية المراقبين على إن لدى فرنسا أجندا خفية في ليبيا ومنطقة الساحل، هدفها وضع اليد على ثروات المنطقة الغنية باليورانيوم والمانغنيز ومعادن ثمينة أخرى.

تُعتبر منطقة الساحل والصحراء، التي تكثر فيها الجماعات المسلحة، الخاصرة الرخوة للجنوب الليبي، في ظل انهيار مؤسسات الدولة هناك، منذ عقد من الزمن. ومع إخفاق القوات الفرنسية في احتواء الخطر الإرهابي في بلدان الساحل، وتزايد قتلاها وجرحاها في الآونة الأخيرة، تتعالى الأصوات في باريس للمطالبة بعودة القوات إلى فرنسا.

ويقول خبراء فرنسيون إن المعادلة الصعبة هي كيف يمكن ملاحقة الجماعات المسلحة، من دون الحلول محل الجيوش المحلية الفاسدة؟ وهذه نظرة ما فتئ الفرنسيون يبررون بواسطتها تدخلهم العسكري في بلدان “مجموعة الخمسة” وهي النيجر ومالي وموريتانيا وتشاد وبوركينا فاسو.

ويعتبر مارك أنطوان دي مونكلو، مدير الأبحاث في “معهد البحوث من أجل التنمية” بباريس، أن الوقت حان للانسحاب من منطقة الساحل والصحراء مادام الأمن مازال منعدما والسكان المحليون مناهضين لبقاء قوات أجنبية على أراضيهم.

بدأت المغامرة العسكرية الفرنسية في مثل هذا الشهر من سنة 2013 وسرعان ما غاصت في رمال الصحراء، على غرار ورطة القوات الروسية ثم الأمريكية في أفغانستان، مطلع القرن الحالي. ولا يوجد أفق يُظهر إلى أين هي متجهة في المستقبل، وسط رفض متزايد من المواطنين الفرنسيين لإرسال أبنائهم إلى الموت. وتُحاذر السلطات الفرنسية من الاقرار بأن هدفها هو إعادة الأمن إلى المنطقة، لأن ذلك الاقرار يترتب عليه حلول الفرنسيين محل القوات النظامية المحلية، التي ينخرها الفساد، والعاجزة عن حماية السكان المدنيين، لا بل حتى عن حماية نفسها من الهجمات الإرهابية.

ويخشى الفرنسيون أيضا من اضطرارهم للعودة إلى إدارة مستعمراتهم السابقة، بما في ذلك الاضطلاع بمهمات الشرطة والزراعة والتعليم، على ما يقول دي مونكلو. بالمقابل دأب الرؤساء المتعاقبون على قصر الإيليزيه على التذكير بأن الهدف من تمركز قواتهم في المنطقة هو حصريا ملاحقة الجماعات المسلحة. وعلى الرغم من أن حركة تلك الجماعات تقتصر حتى الآن على البلدان الساحلية، تخشى باريس من احتمال إقدام تلك الجماعات على تنفيذ اعتداءات إرهابية على الأراضي الفرنسية.

من الدفاع إلى الخارجية

بهذه الخلفية تعاطى وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريون، لما كان وزيرا للدفاع، في عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند، مع ملف التحديات الأمنية في الساحل والصحراء. وكان لودريان المستلم للملف الليبي أيضا، مهندس التدخل الفرنسي في منطقة الساحل، تحت يافطة “برخان” بقوات يزيد عددها عن 5000 جندي.

واستطرادا، تحاول القوات الفرنسية منذ 2013 القضاء على الإرهابيين وتدمير قوتهم العسكرية الضاربة، والحد من شعبيتهم لدى السكان المحليين، ومن ثم إيجاد بدائل سياسية واقتصادية تعزز التنمية، وتحد من الهجرة إلى الخارج عبر ليبيا. لكن يبدو أن السلطات في البلدان الخمسة غير قادرة على تسلم إدارة الشأنين السياسي والاقتصادي في المناطق التي يسيطر عليها عناصر الجماعات المسلحة.

الأدهى من ذلك أن تلك الجماعات منقسمة على بعضها البعض، خاصة بعدما انضم إليها ضالعون في تجارة السلاح والمخدرات، ما جعلها تتحول إلى مافيات. كما أن حلفاء باريس أنفسهم ارتكبوا وما زالوا جرائم حرب وانتهكوا حقوق الإنسان مرارا وتكرارا، مثلما تُبين ذلك تقارير دولية تحظى بالصدقية.

ويشير بعض المحللين في هذا الإطار إلى الدور السلبي الذي لعبته القوات الفرنسية في حرب رواندا، عندما كانت تغض الطرف عن جرائم حرب تُنفذ غير بعيد عن تمركزاتها.

وبات واضحا بعد الوقوع في هذه الورطة على مدى ثمانية أعوام، أنه كلما غاصت القوات الفرنسية في أوحال الصحراء، زاد التدخل العسكري تعقيدا، وصار الفكاك منه عسيرا ومكلفا سياسيا وعسكريا. وهذا ما يفسر، ربما، إحجام باريس عن تحديد تاريخ للانسحاب، خشية أن تبدو تلك الخطوة كما لو أنها نصرٌ عسكري حاسم للجماعات المسلحة. ويميل الخبير الفرنسي جان بيار مولني إلى تفضيل المخرج الأممي بديلا من الحرب التي تخوضها القوات الفرنسية منذ سنوات بلا فوائد، إذ ينصح بالاستعاضة عن القوات الفرنسية بالقبعات الزرق، بوصفه المخرج الوحيد المتاح لباريس، حفظا لماء الوجه ووقفا لنزيف القتلى بين العسكريين الفرنسيين، لاسيما بعدما وصل العدد إلى ما يقارب الخمسين قتيلا. وفي السياق يقترح بعض الخبراء الفرنسيين الاقتداء بما فعله الرئيس الأمريكي أوباما في أفغانستان، حيث أرسل 30000 جندي ليعلن بعد ذلك عن انسحاب كلي من البلد.

انفصاليون وتكفيريون

الأخطر من ذلك أن مشهد الجماعات المقاتلة في منطقة الساحل مُتغير دوما ومنقسم على نفسه، إذ توجد عناصر مسلحة تدافع عن الأقليات العرقية، وخاصة الطوارق، وقوات قبلية وانفصاليون، زيادة على التكفيريين المرتبطين بـ”القاعدة” و”تنظيم الدولة”. ويحدث أن ينتقل المرتزقة من جماعة إرهابية إلى أخرى، ومن تلك الميليشيات جماعة المداخلة، الموالية للداعية السعودي ربيع المدخلي، والتي تشكل العامود الفقري لقوات الجنرال خليفة حفتر. ولا يستثني الخبير دي مونكلو القوات النظامية في البلدان الساحلية المقربة من فرنسا من ارتكاب جرائم ضد الانسانية.

ويعتقد بعض الفرنسيين أن المساعدة الغذائية التي تقدمها باريس لبوركينا فاسو، على سبيل المثال، والمقدرة بعشرة ملايين يورو في السنة، كافية لممارسة الوصاية على حكومتها، بالرغم من أن الحاجات الإنسانية للبلد أكبر من ذلك بكثير. وتُعتبر بوركينا فاسو، إلى جانب مالي والنيجر، أكثر البلدان عرضة في أفريقيا إلى اعتداءات الجماعات الإرهابية.

إخفاق “مجموعة الخمسة”

ودعت فرنسا “شركاءها” الصحراويين إلى قمة في العاصمة التشادية نجامينا، الشهر المقبل، وهي قمة سنوية دورية، للنظر في أسباب إخفاق “مجموعة الخمسة” في القضاء على الجماعات المسلحة في المنطقة. وكانت فرنسا والبلدان المعنية شكلت قبل ثلاث سنوات، قوة عسكرية موحدة، مستعدة لتحرك متزامن لمحاصرة الجماعات، وقسمت المنطقة إلى سبع ممرات عرض الواحد منها مئتي كيلومتر، من أجل ضرب طوق حول تلك الجماعات.

تتساءل فرنسا اليوم: ماذا علينا أن نفعل لكي ننسحب في صمت من هذه الحرب؟ وفي الوقت نفسه ترتفع المطالبات بإجراء حوار حول هذا الموضوع في البرلمان، بعد تهرُب طويل من النقاش، بُغية وضع خطة واضحة لمستقبل الوجود الفرنسي في الساحل والصحراء، تشمل ليبيا. وينطلق كثيرون من أن 5000 جندي يستحيل عليهم تغطية منطقة بهذه المساحة الشاسعة، وأن الحل لا يمكن أن يكون عسكريا فقط، وإنما يحتاج إلى معالجة سياسية. كما ينطلق هؤلاء من أن تحسين الوضع الأمني ممكنٌ في الميدان، لكن من غير الممكن إعطاء ضمان بتوفير أمن مطلق في المنطقة، لأن الامكانات البشرية لا تسمح بمراقبتها مراقبة كاملة.

انسحاب تدريجي؟

الأرجح في حال تمت جدولة انسحاب تدريجي من المنطقة، أن يحافظ الفرنسيون على قواعدهم في كل من النيجر وتشاد، والتي ظلت في أيديهم منذ منح الاستقلال للبلدين مطلع ستينات القرن الماضي. ويتفق غالبية المراقبين على القول إن لدى فرنسا أجندا خفية في ليبيا ومنطقة الساحل، هدفها وضع اليد على ثروات المنطقة الغنية باليورانيوم والمانغنيز ومعادن ثمينة أخرى. ويستندون في ذلك على تكليف الأمم المتحدة فرنسا بإدارة الجنوب الليبي بعد الحرب العالمية الثانية. غير أن الفرنسيين ينفون ذلك، ويستغربون من الكراهية التي يواجهون بها، في بعض البلدان، وبخاصة في مالي وبوركينا فاسو.

وفي السياق أظهر استطلاع للرأي أخيرا أن أربعة من كل خمسة ماليين يثقون بأن جيشهم قادر على الدفاع عن البلد، من دون الحاجة إلى تعزيزات فرنسية. وهم لا يقبلون الاستنجاد بالمستعمر السابق لضمان أمن البلد، بعد مرور نصف قرن على الاستقلال. وانكشفت في الفترة الأخيرة معلومات عن تقديم فرنسا دعما للجماعات الانفصالية “العلمانية” ومنها الطوارق، مثلما لعبت باريس دورا محوريا في إسقاط نظام العقيد معمر القذافي. وثمة تأكيدات تفيد أن قسما من الأسلحة التي أرسلتها باريس إلى ليبيا، وقعت بين أيدي عناصر “القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي” في حزيران/يونيو 2011.

قلق من التمدد الروسي

وسرعان ما استولت جبهة “الأزواد” على شمال مالي في أيار/مايو 2012 فيما استطاعت الجماعات الإرهابية السيطرة على مدينتي غاو وتومبوكتو شمال مالي، ما جعل الفرنسيين يرسلون قواتهم إلى المنطقة في كانون الثاني/يناير 2013 مثلما أسلفنا. وكانت فرنسا تصول في المنطقة بمفردها، قبل أن تستقطب الحربُ الأهلية في ليبيا قوى دولية وإقليمية جديدة ومتصارعة مع بعضها البعض، أبرزها روسيا، التي لا يُخفي الحلف الأطلسي قلقه من تمددها في ليبيا، ما يُسهل وصول أصابعها إلى الساحل والصحراء. وعبر الأمين العام للحلف يانس ستالتنبرغ، لدى استقباله الرئيس الموريتاني ولد الغزواني، الأربعاء في بروكسيل، عن “قلقه العميق جراء تصاعد الدور الروسي في مختلف مناطق العالم، خاصة في أفريقيا والشرق الأوسط، وبالأخص في ليبيا.

الأغلب على الظن أن الناتو، الذي رحب باتفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، وانطلاق منتدى الحوار السياسي، عرض على الليبيين “تقديم الدعم لهم في بناء القدرات الأمنية الليبية” على ما قال ستالتنبرغ. ومن شأن هذا التنافس الاستراتيجي أن يترك الجنوب الليبي رهينة في أيدي القوى المتنافسة، ويُعسر من تنفيذ أي اتفاق سلام تتوصل إليه الأطراف الليبية. واستطرادا إذا ما تمدد الروس من شرق ليبيا، حيث يدعمون حفتر، نحو اقليم فزان (جنوب) المطل على الساحل والصحراء، سيجدون أنفسهم في الواجهة مع فرنسا، مثلما وجدوا أنفسهم وجها لوجه مع الأتراك في غرب ليبيا ووسطها. لكن هناك فرقا بين القوة الروسية الصاعدة والقوة الفرنسية التي تخطط للانسحاب تدريجيا من المنطقة. ومن هنا فإن الجنوب الليبي والساحل ساحتان مرشحتان، على الأرجح، للعبة دولية كبيرة، قد تضيع في نهايتها مصالح ليبيا.

تعليقات