رشيد خشانة – عقبات عدة ستعطل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية الموعودة، بالنظر لمحاولات الإحباط التي يقوم بها المتضررون من مجيء قيادات جديدة.

على الرغم من موجة التفاؤل التي أشاعها، في ليبيا وخارجها، الاتفاق على آلية اختيار القائمين على السلطات التنفيذية، فإن الملف ما زال معقدا ودقيقا والاستقرار بعيد المنال. وما زالت أيضا الثنائيات تمزق المشهد الليبي بين شرق وغرب، وإخوان وخصوم الإخوان، وموالين لمحاور دولية وإقليمية وآخرين متحالفين مع محاور مضادة.

وبحسب ما يتم تداوله عن تلك الآليات، التي باتت محل توافق، بعد صراعات بيزنطية طويلة في الكواليس، أن الهيآت التي سيتم انتخابها ستقود مرحلة انتقالية خامسة أو سادسة تنتهي بانتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر المقبل. وكانت ليبيا عرفت تجارب انتقالية عديدة منذ 2011 قادها على التوالي كل من الراحل محمود جبريل والراحل عبد الرحيم الكيب ثم علي زيدان وأتى بعده فائز السراج، لكنها كانت غير موفقة. وفي حال تعثر إجراء الانتخابات لسبب من الأسباب، فإن السلطات التنفيذية الجديدة ستستمر إلى وقت غير معلوم.

والمؤكد أن عقبات عدة ستعطل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية الموعودة، بالنظر لمحاولات الإحباط، التي يقوم بها المتضررون من مجيء قيادات جديدة. وقد حذرت رئيسة البعثة الأممية إلى ليبيا بالوكالة ستيفاني وليامز مما أسمته “المناورات الجديدة الرامية للمحافظة على المنظومة الحالية، والتي تُحركها حسابات شخصية” على ما قالت، من دون أن ترفع الغطاء عن تلك الأطراف.

وربما يكون الموفد الأممي الجديد إلى ليبيا السلوفاكي يان كوبتش أكثر جسارة فيُميط اللثام عن وجوه المُعطلين للمسار، خاصة أنه تعاطى بهذا الأسلوب الصارم مع السياسيين اللبنانيين، لدى عمله موفدا أمميا إلى لبنان. ولعل المهمة ذات الأولوية التي كلفه بها مجلس الأمن، تتمثل في تدعيم الوقف الهش لإطلاق النار، وتثبيت انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة منها. وسيتعين على الموفد الجديد أن يواجه امبراطوريات الفساد وأمراء الحرب في ليبيا، بالخطاب الصريح والمباشر، الذي استخدمه لدى انتقاده المتكرر للقادة اللبنانيين. وطالما أن كوبتش لن يكون لين العريكة فإن المستفيدين من الوضع القائم سيستعدونه ويستهدفونه. والسلاح الوحيد الذي قد يُمكنه من المحافظة على توازنه هو الإصرار الأممي على الالتزام بموعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في كانون الأول/ديسمبر المقبل.

جهاز أمني جديد

اللافت أن الموفدة الأممية المنتهية ولايتُها وليامز كانت في صراع مع رئيس المجلس الرئاسي رئيس حكومة الوفاق فائز السراج، في الأيام الأخيرة، بعدما استبق السراج اختيار رؤوس السلطة التنفيذية الجديدة، بإنشاء جهاز أمني جديد أطلق عليه اسم “قوة الدفاع عن طرابلس” كما قام بتسمية عدة قادة ميليشيات على رأس الجهاز، وهم جميعا من أنصاره. ويُعزى اعتراض وليامز على تلك الخطوة، إلى أن السراج لم يمر من خلال “منتدى الحوار السياسي” فيما تمسكت الموفدة الأممية بأن إنشاء أجهزة تنفيذية مركزية لابد أن يمر عبر المنتدى. واتهم الموالون للسراج وليامز، التي ذكرت رئيس حكومة الوفاق بالاسم، على غير العادة، بالتدخل في الشأن الداخلي الليبي، ومحاولة التأثير في الاقتراع على المناصب التنفيذية العليا، وهو موقف لا يخلو من الطرافة والإضحاك في بلد توجد فيه عشر قواعد عسكرية أجنبية، وآلاف المرتزقة الوافدين من روسيا وسوريا والسودان وتشاد وغيرها من البلدان القريبة والبعيدة.

تبريد الصراعات

على أن هذه الأجواء المحتقنة بين حكومة الوفاق والبعثة الأممية تأتي في فترة تتسم إقليميا بالجنوح إلى تبريد الصراع الفرنسي التركي، وفي القلب منه الملف الليبي. وتحدث محللون أخيرا عن “وقف إطلاق نار كلامي” بين باريس وأنقرة منذ الشهر الماضي، واحتمال إجراء لقاءات وتبادل زيارات بعدما أخفق أسلوب القوة الذي توخاه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في إنهاء الأزمة بين البلدين. والأكيد أنه لولا الملف الليبي لما وصل الخلاف الفرنسي التركي إلى ما وصل إليه أخيرا، من تراشق بالتهم غير مسبوق بين باريس وأنقرة.

وتتجه العلاقات نحو عودة الحوار المباشر بين العاصمتين، بعد اجتماع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، مع نظيره التركي مولود تشاوس أوغلو، في الثامن من الشهر الماضي. ومن المؤشرات على هذا التقارب تسمية الدبلوماسي التركي علي أوننار سفيرا جديدا لدى فرنسا، وهو ممن درسوا فيها وأتقنوا لغتها، إذ كان زميلا للرئيس ماكرون في المدرسة الوطنية للإدارة بباريس. غير أن استئناف الحوار لا يعني نهاية الخلافات التي تدور حول النفوذ في ليبيا وتقاسم كعكة إعادة الإعمار، عندما تضع الحرب أوزارها، وحتى قبل ذلك.

ومع إصرار الأمم المتحدة على الالتزام بموعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في كانون الأول/ديسمبر المقبل، يتعين على المبعوث الأممي الجديد تهيئة الأرضية الدستورية، التي ستجري على أساسها الانتخابات. وفي هذا الإطار تم حسم الخيارات بين إجراء استفتاء على المسودة الحالية للدستور، أو العودة إلى دستور 1951 أو اللجوء إلى خيار ثالث، وهي الخيارات التي كانت اللجنة القانونية، المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي في تونس، عرضتها ضمن توصياتها للاستناد إليها. وأتى الحسم من خلال “إعلان اللجنة الدستورية” التي اجتمعت بمدينة الغردقة المصرية، خلال الفترة من 16 إلى 19 كانون الثاني/يناير الجاري، والتي كرس اجتماعها دعم خيار الاستفتاء على مشروع الدستور، “كي يقرر الشعب ويعبر عن إرادته من خلال الاستفتاء عليه” وفق ما جاء في بيان للنائب الأول لرئيس مجلس النواب، فوزي النويري، نشرته “بوابة الوسط” الليبية.

ويستمد الاتفاق على الاستفتاء أهميته من كونه صادرا عن اللجنة الدستورية، التي تضم ممثلين من مجلس النواب (شرق) والمجلس الأعلى للدولة (غرب). وستنتقل مسؤولية قيادة العملية قريبا إلى المفوضية العليا للانتخابات.

التثبت من الترشيحات

لكن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، قالت إنها تعتزم تشكيل لجنة تضم ثلاثة من أعضاء ملتقى الحوار السياسي، من أجل التحقق من أن الترشيحات للسلطة التنفيذية الجديدة مقدّمة وفقاً للشروط ذات الصلة. ونوهت إلى أن عملية التصويت لاختيار السلطة الجديدة ستجري خلال اجتماع ملتقى الحوار السياسي في سويسرا مطلع الشهر المقبل. ويأتي ذلك، بحسب بيان بثته البعثة عبر موقعها على الإنترنت، في أعقاب قرار ملتقى الحوار السياسي، باعتماد آلية اختيار السلطة التنفيذية المؤقتة، عبر تصويت أجري في 19 الجاري.

وبناء على ذلك، أعلنت البعثة الأممية بدء فترة تقديم الترشيحات لمناصب المجلس الرئاسي المؤلف من ثلاثة أعضاء ورئيس الوزراء، والتي ستستمر إلى الثامن والعشرين من الشهر الجاري. ووضعت البعثة إرشادات فنية كما أصدرت نماذج ذات صلة بتقديم الترشيحات، وفقاً لمعايير الترشح التي اعتمدها ملتقى الحوار السياسي في تونس أواسط تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.

والخطوة الأهم تمثلت في إعلان البعثة الأممية فتح باب الترشيح للسلطة التنفيذية، كما أنها تعتزم تشكيل لجنة تضم ثلاثة من أعضاء ملتقى الحوار السياسي للتحقق من أن الترشيحات مقدّمة وفقاً للشروط المطلوبة، وستتولى اللجنة تجميع القوائم النهائية للمرشحين إلى المجلس الرئاسي لكل إقليم وإلى منصب رئيس الوزراء، الذي سيختار بدوره أعضاء تشكيلته الحكومية.

اجتماع آخر في سويسرا

في السياق قررت البعثة عقد اجتماع لملتقى الحوار السياسي، بعد انقضاء فترة الترشيح، في سويسرا لإجراء عملية التصويت وذلك في الأسبوع الأول من الشهر المقبل. لكن يُخشى من أن هذه المسارات لم تعد تشد اهتمام المواطن الليبي الذي يرزح تحت عبء الصعوبات الاقتصادية والضغوط الاجتماعية والمخاوف الأمنية، ما يجعل النخب المتصارعة على الحكم مقطوعة عن الوسادة الشعبية. ومع تفاقم المشاكل المتراكمة على مدى عشر سنوات بلا أفق واضح، يُخشى من ضآلة الاقبال على الاقتراع، عندما يحين ميقات الانتخابات. ويشعر الليبيون أن هناك فئات متنفذة في الشرق والغرب، من أمراء الجماعات المسلحة وكبار البيروقراطيين ورجال أعمال فاسدين، يحتكرون إيرادات النفط، فيما تراجع إنفاق الدولة على مشاريع البنية الأساسية والتعليم والصحة، التي تدهورت بشكل غير مسبوق.

ويعاني الليبيون منذ فترة بعيدة من شح السيولة في المصارف التجارية، ما يجعلهم يقفون في طوابير بانتظار دورهم، ليحصلوا في الأخير على مبالغ زهيدة لا تعكس أرصتهم الحقيقية لدى المصارف.

مقايضة خاسرة

وأظهرت تقارير اقتصادية أن الليبيين باتوا يعتمدون على السوق الموازية للحصول على بعض الدنانير، مقابل مقايضة خاسرة بصكوكهم، بعدما اشتدت أزمة السيولة في المصارف، ما يشكل آخر الخيارات البديلة التي يلجؤون إليها، في وقت لا يقبل نحو نصف التجار في معاملاتهم مع الزبائن إلا الأموال نقدا. وأشارت التقارير إلى أن أزمة السيولة في ليبيا تشكل مصدر قلق متزايد للمواطن، إذ لا يستطيع أرباب الأسر سحب مبالغ كافية لتلبية حاجاتها، إذ أن 3.7 في المئة فقط من العملاء قادرون على شراء المواد اللازمة لتلبية احتياجاتهم الأساسية باستخدام مبالغ النقد المسحوبة من البنوك.

أما على الصعيد الأمني فما لم يتم حل الجماعات المسلحة، التي تُحكم قبضتها على الشارع، والتي تلجأ لها الحكومة نفسها لحمايتها، وما لم يتم إبعاد الأسلحة الثقيلة عن المدن والمناطق المأهولة بالسكان، فإن الوضع النفسي للمواطن لن يتحسن والاستقرار سيبقى بعيد المنال، ما يُلقي ظلالا كثيفة على استحقاقي الاستفتاء والانتخابات.

تعليقات