إذا كان فرقاء الأزمة الليبية قد تمكنوا يوم الخامس من شهر شباط/فبراير الجاري في جنيف وبإشراف من منظمة الأمم المتحدة من التوصل إلى انتخاب أعضاء سلطة تنفيذية جديدة تقود البلاد خلال مرحلة انتقالية تنتهي بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية في الرابع والعشرين من شهر كانون الأول/ديسمبر المقبل، فإن مراقبين كثيرين مهتمين بالشأن الليبي يرون تهميش فرنسا من محادثات الأمم المتحدة ومشاوراتها ومساعيها لتطويق الأزمة الليبية وذلك من قبل خصومها وحلفائها أيضا. ويقول هؤلاء المراقبون إن فرنسا تجد اليوم نفسها خارج اللعبة في ليبيا، رغم أنها تعد من بين الأطراف الأساسية التي لديها مسؤولية كبرى في الحرب التي تجري بين الفرقاء الليبيين منذ عام 2011.
وفي نهاية تموز/يوليو من عام 2017 أي بعد نحو شهرين من وصول الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون إلى مقاليد الحكم، وضع هذا الأخير الملف الليبي ضمن الملفات الرئيسية في اهتمامات الدبلوماسية الفرنسية، حيث سارع إلى جمع فائز السراج، رئيس حكومة الوفاق الوطني (مقرها طرابلس) المدعومة من الأمم المتحدة، والمشير خليفة حفتر قائد ما يعرف بــ«الجيش الوطني» الليبي في شرق البلاد، في ضاحية سان-سينكلو الباريسية. وفي نهاية أيار/مايو عام 2018 التقى ماكرون أطراف الأزمة الليبية في اجتماع موسع بقصر الإليزيه أفضى إلى توصل الفرقاء الليبيين إلى إعلان سياسي يقضي بتنظيم انتخابات تشريعية ورئاسية في العاشر من كانون الأول/ديسمبر من العام ذاته أي عام 2018. واعتبر ماكرون وقتها أن هذا الاتفاق يعدّ «خطوة رئيسية نحو المصالحة» الوطنية في ليبيا.
غير أن هذا الاتفاق ولد ميتاً، ووقع على وفاته الهجوم العسكري الذي شنته قوات المشير خليفة حفتر في الرابع من نيسان/ابريل عام 2019 ضد العاصمة طرابلس. وقد ضاعف هذا الهجوم من سهام الانتقادات الموجهة إلى باريس بسبب الدعم الفرنسي الذي كان يحظى به خليفة حفتر، منذ أن انكشف وجود عناصر من القوات الخاصة الفرنسية في ليبيا في عام 2016 تقدم الدعم اللوجيستي والاستخباراتي لحفتر. وكانت فرنسا تقف إلى جانبه لأنها كانت ترى أنه الأقوى عسكريا. كما أن موقف العداء الذي التزمه حفتر تجاه الإسلاميين جعل منه رجل باريس وأبو ظبي والقاهرة. ومع ذلك، شددت فرنسا مراراً على أنها لم تدعم هجوم حفتر على طرابلس الذي تسبب بفوضى كبيرة في البلاد.
الخلاف مع إيطاليا
موقف باريس «المزدوج» والمتمثل في مسايرة مواقف الأمم المتحدة من جهة وتقديم الدعم لحفتر من جهة أخرى، يرى مراقبون أنه قلل من مصداقيتها من حيث دعواتُها إلى وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق تفاوضي. زد على ذلك أن فرنسا وجدت نفسها في مواجهة حليف لها في الاتحاد الأوروبي، هو إيطاليا، الدولة الأوروبية التي كانت تستعمر ليبيا والتي ظلت دوما أقرب الدول الأوروبية لها عبر مختلف الفترات التي شهدتها ليبيا خلال حقبة ما بعد الاستعمار. وقد وجدت نفسها بعد سقوط نظام معمر القذافي وانهيار مؤسسات الدولة الليبية وحالة الفوضى التي دخلت فيها في السنوات العشر الأخيرة، في الخط الأول للمواجهة مع تدفق موجات المهاجرين الأفارقة وغير الأفارقة الراغبين في الوصول إلى أوروبا بشكل غير قانوني عبر البوابة الليبية.
وبالتالي، كانت مسألة إرساء الأمن ومحاربة الهجرة غير النظامية تمثل الأولوية بالنسبة إلى إيطاليا. وقد أبرمت اتفاقات مع الحكومة الليبية المعترف بها دوليا في هذا الإطار. مقابل هذه الأجندة الإيطالية، فإن هاجس فرنسا هو أمني واقتصادي في الوقت ذاته: المجموعات المتطرفة والثروات الباطنية مثل النفط واليورانيوم، علما أن أكبر مصانع مجموعة آريفا الفرنسية يوجد بدولة النيجر، كما سبق وأن أوضح الصحافي والمحلل السياسي عبد الرحمن أمبيريك لـ«القدس العربي» في مقال نشرته في وقت سابق.
وترى الباحثة الجيوسياسية سلين جريزي في رد على سؤال لـ«القدس العربي» أن فرنسا حاولت استخدام قوتها الناعمة تارة بجمع الفرقاء في باريس، وتارة أخرى برفع نبرة خطابها ضد حليفها حفتر، إلا أنها تدرك تماما أنها تجدف ضد التيار، وليست قادرة على الإمساك بكل خيوط الوضع أو على الأقل التحكم في ما تراه مربعها التاريخي مما يجعلها تدخل في مزايدات إذا لم نقل صراعات سواء مع جيرانها الأوروبيين أو مع دول أخرى، وفق جريزي.
ووسط الخلاف الفرنسي-الإيطالي حول مقاربتيهما بشأن الملف الليبي؛ دخلت ألمانيا حليفتهما في الاتحاد الأوروبي على الخط وأصبحت صوت أوروبا لحل الأزمة الليبية سياسياً. ودعت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل إلى مؤتمر برلين حول ليبيا الذي عقد في 19 تشرين الثاني/نوفمبر عام 2020 -أي بعد نحو 14 شهراً من بدء حملة قوات حفتر ضد طرابلس – وجمع حكومات الجزائر والصين ومصر وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا وتركيا وجمهورية الكونغو والإمارات العربية المتحدة والمملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وممثلين عن الأمم المتحدة، بمن فيهم الأمين العام وممثله الخاص في ليبيا والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية. وقد تمثلت أهداف المؤتمر الرئيسية في التوصل إلى توافق في الآراء بين الدول الأعضاء المعنية بالأزمة الليبية وتأمين مظلة دولية لحماية الحوارات الليبية حول مستقبل البلد، وفق برلين والأمم المتحدة.
تركيا تقلب الموازين
والحقيقة أن التدخل التركي في ليبيا لدعم لقوات التابعة لحكومة طرابلس المعترف بها من الأمم المتحدة والهزيمة المدوية التي تعرضت لها قوات المشير خليفة حفتر في حزيران/يونيو الماضي، شكلا ضربة مدوية بالنسبة إلى داعمي هذا الأخير الذي وجد نفسه مضطراً إلى التهدئة والتوقيع على اتفاق لوقف النار في ظل الانتكاسة العسكرية التي تعرضت لها قواته. ومنذ ذلك الوقت فقدت فرنسا صوتها في الملف الليبي على الصعيدين العسكري والدبلوماسي، مقابل هيمنة تركيا وروسيا على غرب وشرق ليبيا على التوالي، والتي سمحت، تحت رعاية الأمم المتحدة، عبر إطلاق محادثات سلام بعد وقف إطلاق النّار الذي تم التوقيع عليه في 23 تشرين الأول/أكتوبر الماضي في جنيف برعاية الأمم المتحدة. يقضي هذا الاتفاق برحيل القوات الأجنبية والمرتزقة في غضون 90 يوما. وهي مهلة انتهت قبل أسبوعين من دون تنفيذ بنود هذا الاتفاق الذي توصلت إليه اللجنة العسكرية الليبية المشتركة المعروفة بـ5+5.
وشهدت نهاية عام 2020 وبداية 2021 جهودا مكثفة من قبل المملكة المغربية التي عادت دبلوماسيتها حيال ليبيا إلى الواجهة مجددا بعد نحو خمسة أعوام من اتفاق الصخيرات. فقد احتضت مدينة بوزنيقة بالقرب من العاصمة الرباط جولات للحوار بين ممثلين عن طرفي الأزمة الليبية (المجلس الأعلى للدولة في طرابلس وبرلمان طبرق) توسطها حوار ليبي في تونس برعاية الأمم المتحدة في شهر تشرين الثاني/نوفمبر. وتمخض عن هذه الجهود الدبلوماسية المكثفة اتفاق على توزيع المناصب السيادية بين الأقاليم الثلاثة في ليبيا وإجراء انتخابات عامة في كانون الأول/ديسمبر المقبل لتشكيل سلطة تنفيذية موحدة. وقبل ذلك اختيار حكومة مؤقتة موحدة تشرف على الفترة الانتقالية.
ويبدو أن التنافس مع تركيا والعناد على عدم إدانة تصرفات الإمارات المتحدة في الحرب الليبية، هي أمور ضغطت على فرنسا في قراراتها المتعلقة بليبيا، على عكس ألمانيا والولايات المتحدة، حيث فضلتا في الأشهر الأخيرة التوازن بين حفتر والسراج. هذا ما قالته صحيفة «لاكروا» الفرنسية في مقال نشرته يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي.
وقد يسعى الفرنسيون إلى الترويح عن أنفسهم بعد فشل مساعيهم في لعب دور مهم في الملف الليبي من خلال التعويل على خط يرون أنه سيفرض نفسه في المستقبل بعد عودة الاستقرار إلى ليبيا ويتمثل في حرص قيادات ليبيا على المديين المتوسط والبعيد على ربط علاقات متوازنة بين مختلف القوى الكبرى والمتوسطة لكسب معركة التنمية وهي الأهم بالنسبة إلى كل الدول العربية التي شهدت منذ عشر سنوات ثورات أو انتفاضات أو نزاعات. ومع ذلك فإن فرنسا تدرك في قرارة نفسها أن عليها إعادة طريقة تعاملها مع ليبيا بشكل يتجاوز بكثير حدود الهواجس الأمنية والرغبة في حصول مكان لها في السوق الليبية. ويقول كثير من المطلعين على ملف العلاقات الفرنسية الليبية منذ عهد معمر القذافي وما قبل ذلك، إن مراجعة المنهجية الفرنسية في التعامل مع ليبيا مراجعة شاملة أمر ضروري حتى تكون لفرنسا مكانة في العمل التنموي الذي سيكون أهم ورشة مطروحة على القيادات الليبية المقبلة للخروج مما يصفه البعض بــ«العشرية السوداء».