رشيد خشـانة – يتقدم الحل السياسي، الذي تصنعه 75 شخصية ليبية في جنيف، كمن يسير على البيض، مُحاذرا من كسره. وحولت المناورات والحيل القانونية ذلك المسار السلمي إلى ما يُشبه عملية قيصرية. لكن لا شيء يُحصن هذه العملية من الانتكاس، والأرجح أن الخاسرين سيردون الفعل، في ظل استمرار تدفق السلاح من الخارج وتواتر الانتهاكات لوقف إطلاق النار. ولعل ما يُلجم المعارضين للمسار عن وضع الحواجز في طريق الحل، إدراكهم أن الموقف الأمريكي يدعم المسار، منذ انطلاقه، وحتى قبل ذلك. فقد اعتمد مجلس النواب الأمريكي، في عهد ترامب، مشروع “قانون استقرار ليبيا” الذي يقضي بفرض عقوبات على الجهات الخارجية التي تتدخل في الشأن الليبي، لتأجيج الصراع.

توافق نادر بين الجمهوريين والديمقراطيين

بالمقابل أعطى القانون، الذي حظي بتوافق نادر بين الجمهوريين والديمقراطيين، دفعة لإجراء “انتخابات رئاسية وبرلمانية حرة ونزيهة وشاملة وذات مصداقية” في ليبيا أواخر العام الجاري. لكن ما زالت قبضة الجنرال خليفة حفتر تُطبق على الشرق الليبي، وهو الذي سمى نفسه في مارس/آذار 2015 قائدا لما يُسمى “الجيش الوطني الليبي”. ويتألف “الجيش” في غالبية عناصره، من مرتزقة تشاديين وسودانيين، بالإضافة إلى مرتزقة الشركة الأمنية الروسية “فاغنر”.

ويُنهي انتخاب سلطات تنفيذية مؤقتة في جنيف، على مدى الأيام الخمسة الأخيرة، دور حكومة فائز السراج، التي ستُكمل سنتها الخامسة في 12 آذار/مارس المقبل، تنفيذا لمخرجات اتفاق الصخيرات في 17 كانون الأول/ديسمبر 2015. وستكون المهمة الأولى للحكومة الانتقالية الجديدة مُركزة على إعداد الاستحقاق الانتخابي المقبل. ومن مهماتها الأساسية تنفيذ مخرجات اجتماعات 5+5 بين عسكريي المنطقتين الشرقية والغربية، الذين برهنوا على روحية منفتحة أتاحت الوصول إلى حلول مقبولة من الجانبين. وبالرغم من بعض العثرات في البداية، والتي تعتبر طبيعية في صراع معقد مثل الصراع الليبي، تغلب في الأخير المنطق التوافقي، ما يمهد لإرساء حالة من الاستقرار السياسي وإنهاء الاقتتال، ومن ثمة عودة النازحين والمهجرين لاحقا إلى مدنهم وبيوتهم.

المرتزقة باقون

في خط مواز طلبت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 من الأممِ المتحدة المساهمة في إخراجِ كافة المرتزِقة والمقاتِلين الأجانب من البلد. وأفيد أن الملف الرئيسي الذي بحثه أعضاء اللجنة، في اجتماع الجمعة، تعلق بالأسباب التي حالت دون إخراجِ المرتزقة الأجانب من ليبيا، بعد انقضاء 90 يوماً، وهي الفترة التي تم الاتفاق عليها في تشرين الأول/اكتوبر الماضي في جنيف لإخراج آخر مرتزق من الأراضي الليبية.

وفي هذا الإطار وجه أعضاء مجلس الأمن الدولي رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، تضمنت توجيها بنشر مراقبين لوقف إطلاق النار في ليبيا. وطلب الأعضاء في رسالتهم من غوتيريش الإسراع بتشكيل فريق متقدم من المراقبين إلى ليبيا ونشره هناك، في انتظار توصية بشأن تفويض يُعدل مهام بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بهذا الشأن.

لا وجود لقائمة مثالية

ويمكن القول إن المشاركين في اجتماعات جنيف غير راضين على مخرجات الانتخابات، التي تمت بإشراف مباشر من الأمم المتحدة. ومن هؤلاء عضو ملتقى الحوار السياسي منصور الحصادي، الذي اعتبر أنه من الصعب “إيجاد قائمة مثالية ترضي الجميع في هذه الظروف” داعيا إلى القبول بمخرجات حوار جنيف ودعمها، خاصة مع بروز بعض الشخصيات التوافقية أسوة بالشريف الوافي في المنطقة الشرقية، التي يهيمن عليها أنصار حفتر وعقيلة صالح.

في الجانب الآخر لا شيء يؤكد أن السراج ألقى المنديل، وأنه لن يكون أحد المرشحين البارزين في الانتخابات المقبلة، بل هو على العكس من ذلك، حريص على البقاء في قاعة الانتظار، استعدادا للدخول إلى حلبة الانتخابات الرئاسية. ومعلوم أن من يتولى مسؤوليات تنفيذية أو تشريعية في الفترة الانتقالية، لا يحق له الترشيح للانتخابات المقبلة.

لكن تقديرات رئيسة البعثة الأممية إلى ليبيا بالوكالة ستيفاني وليامز للخطوة التي تم إنجازها من مراحل الحل السياسي، يشوبها كثير من التفاؤل والعاطفية، فهي تؤكد أن ما تحقق يشكل “فرصة حقيقية لاختيار سلطة تنفيذية موحدة” نافية بشدة أن تكون هذه السلطة ترمي لتقاسم الكعكة.

أربع قوائم متنافسة

وكان لافتا إخفاق كل المرشحين للسلطة التنفيذية الانتقالية في ليبيا في الحصول على 70 في المئة من الأصوات المطلوبة خلال المرحلة الأولى، فانتقل الاقتراع يوم الجمعة، إلى المرحلة الثانية، أي اللجوء إلى نظام القائمات. وطبقا لهذه الآلية، التي اعتمدها ملتقى الحوار السياسي الليبي في تونس، حصلت أربع قوائم لمرشحي المجلس الرئاسي ورئاسة الحكومة، على التزكيات المطلوبة.

وتألفت القوائم من ثلاثة مرشحين لمجلس الرئاسة، وإلى جانبهم مرشح واحد لرئاسة الوزراء. وضمت القائمة الأولى حمد حسن سليمان البرغثي مرشحا لرئاسة المجلس الرئاسي، وإلى جانبه شخصيتان مرشحتان لعضوية المجلس هما علي أبو الحجب وإدريس سليمان أحمد القايد، فيما اختير في القائمة ذاتها خالد الغويل مرشحا لرئاسة الوزراء، وهو من سبق أن أعلن نفسه رئيسا لحكومة موازية لحكومة الوفاق في طرابلس. وتألفت القائمة الثانية من الشريف الوافي الذي ترشح لرئاسة المجلس الرئاسي، فيما ترشح معه لعضوية المجلس عبد الرحمن محمد أبو القاسم البلعزي وعمر مهدي أبو شريده ولرئاسة الحكومة محمد عبد اللطيف المنتصر. أما في القائمة الثالثة فترشح محمد يونس المنفي رئيسا للمجلس الرئاسي، وترشح إلى جانبه لعضوية المجلس موسى الكوني وعبد الله حسين اللافي، بينما ترشح لرئاسة الوزراء عبد الحميد محمد دبيبه وهي القائمة التي فازت في الأخير. أما القائمة الرابعة فضمت رئيس البرلمان المنحل عقيلة صالح قويدر مرشحا لرئاسة المجلس الرئاسي. وترشح لعضوية المجلس في هذه القائمة كلٌ من الجنرال أسامة جويلي القائد العسكري للمنطقة الغربية وعبد المجيد سيف النصر، ولمنصب رئيس الوزراء فتحي باشاغا وزير الداخلية المفوض حاليا. وكان إخفاق هذه القائمة مفاجأة للجميع.

انسحاب المشري

ولابد من التوقف هنا عند انسحاب شخصية وازنة من التيار الإخواني، وهو خالد المشري رئيس المجلس الأعلى للدولة حاليا، الذي كان مرشحا لعضوية المجلس الرئاسي الجديد. والأرجح أنه استبق احتمال إخفاقه في انتخابات جنيف، أو أنه أراد المحافظة على فرصة الترشيح في انتخابات الخريف المقبل. أما السبب المعلن فهو أن الطيف الذي ينتمي إليه ممثل بما يكفي في القائمات المرشحة، ما يُغني عن بقائه في طابور الانتظار.

وأتت هذه التطورات على صعيد الحل السياسي متزامنة مع اندلاع اشتباكات في شرق البلاد وغربها، وخاصة وسط مدينة سرت، نُسب بعضها إلى الميليشيات المقربة من رئيس حكومة الوفاق السراج، والتي لا تُخفي رفضها العملية السياسية الجارية، برعاية الأمم المتحدة. وهاجمت بالتحديد وزير الداخلية في حكومة الوفاق فتحي باشاغا، الغريم المعلن للسراج.

وتجدر الملاحظة ههنا أن الأمم المتحدة أكدت أن المرشحين للمناصب السيادية وقّعوا تعهدا بالالتزام بخريطة الطريق وموعد الانتخابات ونتائج التصويت، لكن التوقيع لا يعني بالضرورة أنهم سيوفون بوعدهم، خاصة أن حكومات سابقة، من ضمنها حكومة الوفاق نفسها، تخطت السقف الزمني المُحدد لها. وإذا لم يوجد قرار دولي وإقليمي بدفع المسار الحالي نحو الغاية المرسومة له، فلن تكون هناك انتخابات رئاسية وبرلمانية أواخر كانون الأول/ديسمبر المقبل، وهو الموعد الذي ينتظره كثير من السياسيين، الذين أحجموا حاليا عن الترشح، في انتظار الفرصة التي يعتبرونها معبرهم إلى الرئاسة في الخريف المقبل.

محادثات أمريكية تركية

ويُهدد هذا الصراع بجعل اتفاقات تونس-جنيف تُواجه صعوبات ومطبات كثيرة في مرحلة التنفيذ، بسبب وجود متضررين من هذه العملية، ممن لديهم القدرة على تعطيل المسار، وربما العودة به إلى الخلف. إلا أن الإدارة الأمريكية الجديدة تبدو عازمة على لعب دور أكبر في وضع الحل السياسي على السكة، وهو ما تؤشر إليه الاجتماعات الأولى بين تركيا وإدارة الرئيس جو بايدن. وتؤكد تلك الاجتماعات بين مستشاري بايدن واردوغان حول ليبيا، أن واشنطن وأنقرة بدأتا تتجاوزان العقوبات التي فرضتها أمريكا على تركيا، زميلتها في الحلف الأطلسي، في ديسمبر الماضي، على إثر شراء الأخيرة أنظمة دفاع روسية الصنع من طراز إس-400.

وتحظى عودة الدور الأمريكي بدعم القوى الدولية والإقليمية المعنية بالشأن الليبي، فوزير الخارجية الألماني هايكو ماس، الذي سبق أن استضاف مؤتمر برلين حول ليبيا، مطلع العام الماضي، حض واشنطن علنا على إظهار مزيد من الاهتمام بتسوية الأزمة الليبية “لأن لديها الوسائل والنفوذ اللازم للقيام بدور أكبر” على ما قال ماس. لكن هناك في المقابل أطرافا دولية وإقليمية متضررة من عودة السلام إلى ليبيا، وقد تسعى إلى محاولة إضرام النار مستقبلا بالاعتماد على حلفاء محليين. على أن المناخ الإقليمي سائرٌ حاليا في اتجاه تسويات، أو في الأقل تخفيف الصراع بين تركيا من جهة والحلف المصري اليوناني من جهة ثانية، بالإضافة لتفاهم روسي-تركي في أكثر من جبهة، ما قد يوفر فرص نجاح للحل السياسي في ليبيا.

تعليقات