رشيد خشـانة – مع أن رئيس الحكومة الجديد عبد الحميد دبيبة تعهد، بإجراء الانتخابات العامة في ميقاتها، ووعد بدعم المفوضية الوطنية العليا للانتخابات ماديا ومعنويا فالأمر ليس محسوما.

يتقدم مسار الحل السلمي في ليبيا بخطى وئيدة وسط إحباطات وعراقيل متعددة. ويتأكد يوما بعد آخر أن هذا المسار يحظى بدعم قوي من اللاعبين الكبار، وخاصة أمريكا وألمانيا بصفة الأخيرة قائدة للموقف الأوروبي، منذ أن وضع مؤتمر برلين، في مطلع العام الماضي، خريطة الحل السياسي في ليبيا.
في هذا الإطار أكد السفير الألماني لدى ليبيا أوليفر أوفتشا، لرئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، دعم بلاده المجلس الرئاسي الجديد، من أجل استكمال مراحل الحل السياسي، وفي مقدمها الانتخابات العامة المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل. وعبرت أمريكا عن الموقف نفسه على لسان سفيرها لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، بعد اللبس الذي طغى على الموقف الأمريكي في ظل إدارة الرئيس دونالد ترامب.
وفي السياق سارع المنفي إلى إعطاء تطمينات للدول الكبرى في شأن تنظيم الانتخابات، قبل أن يتسلم مهامه الجديدة، بينما يحتاج الأمر إلى شيء من التريث، لأن إجراء الانتخابات العامة في الميقات المحدد لها، ليس مضمونا في الأوضاع الراهنة. ومع أن رئيس الحكومة الجديد عبد الحميد دبيبة تعهد، في جانبه، بإجراء الانتخابات العامة في ميقاتها، ووعد بدعم المفوضية الوطنية العليا للانتخابات «ماديا ومعنويا» فالأمر ليس محسوما. والأرجح أن المفوضية العليا الليبية ستلجأ إلى المنظمات الدولية، ومنها الأمم المتحدة، للحصول على دعم لوجيستي لإجراء الاقتراع، وإشراكها أيضا في مراقبة سير العملية العملية وضمان سلامة النتائج.
لكن استمرار وجود قوات أجنبية وجماعات مسلحة يشكل عقبة بارزة أمام تحريك المسار السياسي، ولذلك أطلق مجلس الأمن الدولي مبادرة لإرسال مراقبين لوقف إطلاق النار في ليبيا. ولم يلبث أن أرسل الطلائع الأولى من هؤلاء المراقبين. وأتى قرار الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش في هذا الشأن، تجاوبا مع رسالة وجهها إليه مجلس الأمن، أي الكبار، تضمنت توجيها بهذا المعنى. وربما يتم إدخال تعديل على تفويض الأمم المتحدة في الفترة المقبلة، لكي يستوعب هذا البعد الجديد.
من هنا فإن الأولوية ستكون في المستقبل لتثبيت هذه المقاربة التوافقية، التي جسدتها خريطة برلين، بعد مرحلة دامية من الاقتتال وغياب الأمن والاستقرار. ومن ضمن تلك المعالجة التوافقية، سيتعين على حكومة دبيبة ترتيب عودة المُهجرين والنازحين إلى مدنهم ومناطقهم الأصلية، وهي عملية معقدة وطويلة من الصعب استكمالها قبل حلول ميقات الانتخابات. وتتمثل المهمة الصعبة الأخرى بتوحيد المؤسسات الموزعة بين المنطقتين الشرقية والغربية، وفي مقدمها توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، التي يعتبر الجنرال خليفة حفتر العقبة الأكبر في طريق اجتراحها.

مبعوث جديد

ولهذا السبب وضع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا ورئيس بعثة الأمم المتحدة للدعم، يان كوبيش، على رأس أولوياته الاجتماع مع العسكريين في الجانبين، وقد التقى وزير الدفاع في حكومة الوفاق صلاح الدين النمروش، وكبار المسؤولين في وزارة الدفاع في طرابلس، للبحث عن سبل تسريع تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، ودعم جهود اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) التي حققت نجاحا لم يكن متوقعا بالنظر لحساسية الموضوع. وأفيد أن الاجتماع تطرق إلى دعم الأمم المتحدة للجهود المبذولة منذ مؤتمر برلين لتوحيد المؤسستين العسكرية والأمنية وإصلاح قطاع الأمن ونزع سلاح الأجسام المسلحة، وتسريح عناصرها أو إدماجها في المؤسستين الأمنية والعسكرية.

مصير الاتفاقات السابقة

على هذه الخلفية يتساءل مراقبون أيضا عن مصير الاتفاقات التي توصلت إليها حكومة الوفاق المنتهية ولايتها، مع عدة دول من بينها الاتفاقات العسكرية والاقتصادية مع تركيا، التي أثارت في حينه اعتراضات من أطراف ليبية طالبت بالتخلي عنها، وإن كان هذا الطلب غير واقعي.
ويشكل تهميش الجنوب وتغييب الدولة منه، وهو الذي يمثل ثلث البلاد، وقسما كبيرا من ثرواتها، تحديا كبيرا لحكومة دبيبة، بسبب خروجه عن سيطرة الدولة وحرية التحرك التي تتمتع بها الجماعات المسلحة وعصابات التهريب، فضلا عن المرتزقة الآتين من تشاد والسودان وغيرهما.
ولا تقل الملفات الاقتصادية أهمية ودقة عن الملفين السياسي والعسكري، إذ أن الانقطاعات المديدة لتصدير النفط في العام الماضي، والفوضى السائدة في الحياة اليومية، جراء شح السيولة في المصارف، زادت من قسوة العيش على المواطنين المعوزين.
وعزا محافظ المصرف المركزي الليبي الصديق الكبير، في حوار نشرته صحيفة «إنديبندنت» البريطانية أخيرا، تدهور الأوضاع المعيشية إلى تراجع احتياطات ليبيا من العملات الأجنبية وتداعيات الصراع الأهلي. وبحسب الكبير فإن خريطة الطريق الرامية لانعاش المصرف المركزي، ترمي في الدرجة الأولى إلى «إنشاء أساس اقتصادي متين للحكومة الموحدة، حتى تتحسن حياة الليبيين العاديين، وتكون البلاد في موقع قوي لإجراء الانتخابات» فضلا عن مقتضيات مكافحة جائحة «كوفيد 19» وتداعياتها الصحية والاقتصادية. ويؤكد الكبير أن خريطة الطريق لانعاش المصرف المركزي، ترمي إلى إنشاء «أساس اقتصادي متين للحكومة، حتى تتحسن حياة الليبيين العاديين، وتكون البلاد في موقع قوي قدر الإمكان لإجراء انتخابات كبرى».

التوزيع العادل للثروة

أما كيفية إيجاد الأساس الاقتصادي المتين فيراها الكبير من خلال ثلاث خطوات ضرورية، أولاها حل القضية السياسية لما يسمى بـ»التوزيع العادل للثروة» بين الشرق والغرب والجنوب، وهي قضية يمكن حلها عبر الإدارة السليمة للموارد، والوصول إلى مستويات أعلى من الشفافية والحوكمة.
وتتمثل الخطوة الثانية في التوحيد الكامل والنهائي للمصرف المركزي، المقسم حاليا بين مقر مركزي في طرابلس، وآخر فرعي في مدينة البيضاء (شرق). أما الخطوة الثالثة، بحسب الكبير، فهي البدء بإجراء إصلاح اقتصادي واسع من أجل تحسين مالية الدولة. وهنا يشدد الكبير، ومعه كثير من الخبراء الليبيين، على ضرورة خفض الدعم الحكومي، وزيادة حصة القطاع الخاص كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، وتنويع مصادر الإيرادات الحكومية، بدل الاعتماد شبه الكامل على إيرادات النفط والغاز.

انفراج في العلاقات مع دول الجوار

يتزامن التقدم في معالجة هذه الملفات، وإن كان نسبيا، مع تحسُن في الوضع الإقليمي، بما عزز العلاقات مع دول الجوار وخاصة الجزائر ومصر. ومن المؤشرات البارزة على ذلك موافقة الحكومة الجزائرية على معاودة فتح معبر «الدبداب-غدامس» الحدودي مع ليبيا، مع السماح بعبور السلع المصدرة إلى ليبيا. وكان رئيس الحكومة الجزائرية عبد العزيز جراد وجه رسالة إلى وزير التجارة تقضي بفتح مركزين حدوديين مع كل من ليبيا وتونس. وأقفلت السلطات الجزائرية في أيار/مايو 2014 حدودها مع ليبيا، ما عرقل المبادلات التجارية بين البلدين، ودفع المصدرين إلى اللجوء لدولة ثالثة، وهي تونس، لإدخال السلع. وفي المقابل، عزا الجزائريون اتخاذ قرار غلق الحدود آنذاك إلى منع تسلل السلاح والإرهابيين إلى أراضيهم. غير أن تونس لم تستثمر التطورات الأخيرة في الملف الليبي، بالرغم من أنها الأقرب جغرافيا واجتماعيا، بسبب انغماس نخبها في حروب صغيرة.
أما على صعيد العلاقات المصرية الليبية فسُجل تحسن مماثل للجزائر، بعد القطيعة التي كانت قائمة بين القاهرة وحكومة الوفاق والمجلس الرئاسي في طرابلس. وشكل كسر الجليد بين الجارين انعطافا مهما أعطى نتائجه باستضافة مصر اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 في الغردقة، والتي أسفرت عن نتائج إيجابية، لتحصين اتفاق وقف إطلاق النار.
أتى هذا التقارب ثمرة لمسار المُلتقى السياسي الليبي في كل من تونس وجنيف، فبالرغم من دعم القاهرة لمعسكر الجنرال حفتر، أيدت نتائج الاقتراع الذي أوصل المسؤولين الجدد على رأس المؤسسات التنفيذية العليا، خاصة أنه مسار أممي انخرطت فيه جميع الأطراف الدولية والاقليمية المعنية بالملف الليبي. ولوحظ أن وزير الخارجية المصري سامح شكري اعتبر أن الوضع في ليبيا أدى إلى عبور عناصر إرهابية إلى منطقة الساحل والصحراء، ومناطق عدة أخرى من بينها ليبيا. وبحسب شكري، فإن «قدرة التنظيمات المسلحة على الحركة والتنقل وتبادل الاتصالات في ما بينها، يقتضي التنسيق الأمني وتبادل المعلومات ورفع الكفاءات والاستفادة من الخبرات المتبادلة».
ومن الامارات البارزة على مناخ التقارب الجديد بين القاهرة وطرابلس الزيارة المرتقبة لرئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى القاهرة، وهو الذي يتحدر من مدينة طبرق على الحدود الليبية مع مصر، وهي زيارة لم يكن أحد ليتخيلها على أيام رئاسة خالد المشري، الذي تُصنفه القاهرة في خانة «الإخوان المسلمين» لمجلس الدولة. واعتبرت مصادر ليبية هذه الخطوة «تأسيسا لمرحلة جديدة ستكون فيها شراكة في جميع الملفات» على ما أفادت بوابة «الوسط» الليبية.
والجدير بالإشارة أيضا أن أول زيارة رسمية أداها رئيس حكومة الوفاق عبد الحميد دبيبة كانت للقاهرة، ما يحمل دلالات كبيرة على إعادة رسم التحالفات وتغيير المواقع بين الأطراف الدولية والاقليمية المتداخلة في الملف الليبي. لكن الجميع يتحركون، أقلُهُ ظاهريا، تحت سقف الانجازات التي حققتها الأمم المتحدة في طريق اجتراح الحل السياسي للأزمة في ليبيا.

 

تعليقات