رشيد خشانة –

أتى مقتل الورفلي، الذي بات عبئا على معسكره، بعد يوم واحد من تسليم الحكومة الموازية في شرق ليبيا سلطاتها لحكومة دبيبة.

لم يأت وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وإيطاليا إلى طرابلس، من أجل دعم العملية السياسية، بقدر ما جاؤوا للاستحواذ على أكثر ما يمكن من عقود إعادة الاعمار من حصتي الغريمتين تركيا وروسيا. وبعد سنوات من الصراع الأوروبي-الأوروبي، وتحديدا الفرنسي-الايطالي، الذي زاد المشهد الليبي تعقيدا ودرامية، يتجه الثلاثة إلى العمل سوية في الملف الليبي. غير أن ذلك التقارب لا يعني أن الخلافات والمنافسات انتهت، والدليل على ذلك مُسارعة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى دعوة كل من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبه موسى الكوني إلى قصر الإيليزي، في خطوة ترمي للتغطية على الأخطاء الجسيمة التي ارتكبتها فرنسا في السنوات الأخيرة من جهة، وبناء علاقات جديدة مع السلطات التنفيذية الليبية من جهة ثانية. أما وزير الخارجية الايطالي لويجي دي مايو فزار طرابلس مرتين في أقل من أسبوع.
وحدد بيان صادر عن الحكومة الألمانية الخطوات الثلاث التي يتحتم إنجازها بعد تثبيت وقف إطلاق النار، وهي أولا إسعاف الليبيين في جميع المناطق بالطبابة والتلاقيح من وباء كوفيد-19 وثانيا الإعداد للانتخابات العامة في كانون الأول/ديسمبر المقبل، أما الخطوة الثالثة فهي الانسحاب الكامل للقوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا. لكن المتمعن في تصريحات وزير الخارجية الألماني هيغو ماس في طرابلس، يدرك أن برلين، التي استقبلت ورعت مؤتمرا دوليا حول ليبيا مطلع 2020 تعتبر إخراج الميليشيات «شرطا أساسا» لإجراء الانتخابات في الخريف. وتلعب ألمانيا دورا محوريا في الجهود الرامية لإحلال السلام والاستقرار في ليبيا، فخلافا للرئيس الفرنسي ماكرون الذي أخفق مرتين في رعاية مصالحة بين الغريمين السابقين فائز السراج وخليفة حفتر، استطاعت المستشارة الألمانية ميركل جمع الفرقاء الدوليين والاقليميين المعنيين بالحرب في ليبيا، وجعلتهم يوافقون على خارطة طريق، كان من آخر مخرجاتها منح البرلمان الليبي الثقة لحكومة عبد الحميد دبيبة وتسلم الأخيرة السلطات من الحكومة السابقة.

دعم المصالحة

ولم يتوان الألمان عن تذكير جميع الدول التي تمارس نفوذًا في ليبيا بأن وفودها التزمت في برلين لأول مرة بدعم المصالحة الليبية واحترام حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة، بوصفهما ركيزتين مهمتين لجهود السلام، واستطرادا لاستعادة الاستقرار وتثبيت السيادة الليبية.
مع ذلك ليست ألمانيا الرابح الأكبر من الانتقال إلى السلام في ليبيا، إذ يمكن القول إن تركيا هي المستفيد الأول من العملية السلمية، بعد الدور الحاسم الذي لعبته في إيقاف تقدم قوات «فاغنر» الروسية نحو أسوار طرابلس. وحصد الأتراك حتى الآن اتفاقيتين جوهريتين مع السلطات الليبية (بغض الطرف عن تبدل الأشخاص) وهما اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وضعت في كف تركيا ورقة مهمة في الصراع على مصادر الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، والثانية تتعلق باستثمارات أنقرة في قطاع إعادة الإعمار، إلى جانب تكثيف المبادلات التجارية مع تركيا، التي تقدمت إلى المراتب الأولى بين شركاء ليبيا التجاريين. وكانت وزيرة التجارة التركية أعلنت خلال زيارة لليبيا مطلع العام الجاري، أن بلادها تعتزم استعادة مركزها المتقدم بين شركاء ليبيا التجاريين، مثلما كان قبل 2011.

ما بعد السراج

دبلوماسيا كسبت أنقرة إذ أن ذهاب حليفها فائز السراج لم يُغير من فرصها العريضة في ليبيا، والحكام الجدد حرصوا على التواصل معها منذ البداية وسعوا إلى التوفيق بينها وبين مصر في الطرف الآخر. ولوحظ أن رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ونائبه عبد الله اللافي بدآ الأربعاء زيارة رسمية لتركيا، تلبية لدعوة من الرئيس اردوغان، بعد زيارتهما مصر حيث أجريا محادثات مع الرئيس السيسي، في شأن مستقبل العلاقات الثنائية. وأجرى المنفي محادثات مماثلة مع الرئيس التركي اردوغان في أنقرة. وهذا الجمع بين غريمين كبيرين في ليبيا يعكس قدرا من التخفيف من حدة الاستقطاب السابق بين معسكرين اقليميين يتنازعان على النفوذ في ليبيا. وفي هذا الإطار حمل المنفي في حقيبته ملف القوات التركية في ليبيا، وضرورة سحبها في وقت قريب، في إطار إنضاج ظروف إجراء الانتخابات العامة، من دون ضغوط، قد تأتي من الدول التي لديها قوات مرابطة في ليبيا.
أكثر من ذلك، أثبت رئيس الحكومة الدبيبة ورئيس المجلس الرئاسي المنفي أنهما عابران للمناطق والقبائل والمجموعات السياسية من خلال تنقلهما بين المناطق وحوارهما مع جميع الفرقاء شرقا وغربا.
لكن هناك متضررين من السلام في ليبيا، ومن بين هؤلاء حلفاء الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، الذي مُني بهزيمة عسكرية أنهت دوره السياسي والعسكري. وشكلت العناصر المتشددة التي ما زالت تعتقد أن الحل في ليبيا لا يمكن أن يكون إلا عسكريا، مصدر خطر على المسار السلمي لكونها تعمل على تقويض ما حققه «ملتقى الحوار السياسي الليبي» باعتباره غير شرعي.

نيران صديقة؟

بهذه الخلفية يمكن أن يكون اغتيال محمود الورفلي، أحد القادة البارزين لقوات الجنرال حفتر، ضربة بنيران صديقة، ممن لا يرغبون باتهامهم بعرقلة الحل السياسي. وأتى مقتل الورفلي، الذي بات عبئا على معسكره، بعد يوم واحد من تسليم الحكومة الموازية في شرق ليبيا سلطاتها لحكومة دبيبة. ولا يمكن أن يتجاسر أحد على تنفيذ مثل تلك العملية الدقيقة، في وضح النهار، وفي وسط بنغازي، سوى جهاز محترف وقريب جدا من الورفلي. وكانت السلطات في شرق ليبيا وجدت نفسها في حرج كبير بعدما بات الورفلي مطلوبا من المحكمة الجنائية الدولية على خلفية اتهامه بتنفيذ جرائم قتل خارج القانون صنفت على أنها «جرائم حرب». وحاولت ذر الرماد في العيون بالتظاهر بسجنه ومحاكمته، غير أنها سرعان ما اضطرت لإخلاء سبيله.

تأكيدات المنقوش

وفي سياق إحداث البلبلة في المنطقة الشرقية لإرباك حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة، تعرضت حنين البرعصي نجلة الناشطة المغدورة حنان البرعصي، للاختطاف بشكل عنيف في وسط بنغازي أيضا. ومن الواضح أن الرسالة التي تحملها هذه العمليات هي التأكيد أن الأمن غير مستتب وأن حكومة الدبيبة غير قادرة على ضبط الوضع الأمني، خصوصا في الشرق. لكن وزيرة الخارجية في حكومة الوحدة الوطنية الموقتة نجلاء المنقوش، أكدت في حضور وزراء خارجية كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا، في طرابلس، ضرورة خروج «كل المرتزقة» من الأراضي الليبية، و»بشكل فوري». وفي رسالة تأتي ردا على محاولات زعزعة الاستقرار وإثبات أن الأمن مستتب في العاصمة طرابلس، وافقت البلدان الأوروبية الثلاث على معاودة فتح سفاراتها ومنح التأشيرات مستقبلا «من داخل ليبيا وليس من خارجها» على ما أكدت المنقوش.
قصارى القول إن القرار الدولي الدافع باتجاه ترسيخ العملية السياسية، لإنهاء الحرب في ليبيا، يتعزز يوما بعد آخر، بشكل ملحوظ، وأن السلطات الحكومية المؤقتة جسدت وحدة البلد والشعب، بعد انقسامات دموية مريرة. إلا أن دور الحكومة في كسر الحواجز بين المناطق وإنعاش الوضع الاقتصادي والصحي المتدهورين، يتطلبان إذعان الفرقاء الدوليين لمقتضيات الانخراط في الحل السياسي، طبقا لمخرجات مؤتمر برلين، والامتناع عن اتخاذ أية إجراءات قد تسمم الوضع من جديد، وتعود به إلى مربع الاقتتال والاحتراب.

تعليقات