رشيد خشـانة – عملية السلام في ليبيا ستتأثر سلبا بما يجري في تشاد، وستُؤخر استكمال إخراج القوات الأجنبية ومن بينها الميليشيات التشادية التي حاربت إلى جانب حفتر.

أكد مقتل الرئيس التشادي ادريس ديبي إتنو (68 عاما) على أيدي مسلحين أتوا من ليبيا، أن استمرار غياب الدولة من الجنوب الليبي السائب، ينطوي على مخاطر استراتيجية كبيرة على دول الجوار. ويُعتبر مصرع الماريشال ديبي ضربة قوية للنفوذ الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء، بالنظر لموقع تشاد الخاص في شبكة الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة. وتشكل تشاد الحلقة العسكرية الأقوى في «مجموعة الـ5» التي تضم كلا من تشاد والنيجر ومالي وموريتانيا وبوركينا فاسو، والتي تتولى فرنسا قيادتها عمليا. وعلى الرغم من تشكيل هذا الحلف للتصدي لحركات التمرد، تدخلت فرنسا في المنطقة بواسطة عملية «برخان» التي أطلقها وزير الخارجية الحالي جان إيف لودريان، عندما كان وزيرا للجيوش، في عهد الرئيس السابق فرنسوا أولاند. لذا توجد في قلب السياسة الفرنسية في ليبيا ومنطقة الساحل عموما، شخصية محورية هي الوزير لودريان، الذي كان مهندس التدخل العسكري في مالي سنة 2012 على عهد أولاند.
وعلى الرغم من أن خريطة الطريق التي وضعها لودريان لحماية المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الفرنسية في ليبيا، قادت إلى الطريق الخطأ، لا تُبدي الحكومة الفرنسية حماسة كبيرة لمراجعتها وإحداث توازن في علاقاتها مع الطرفين المتصارعين في ليبيا. ويعتقد الخبير الفرنسي المتخصص في العلاقات الدولية رومان غيبار أن باريس توقفت عن إرسال السلاح إلى حفتر (كانت تدفع ثمنه الإمارات) لكنها ما زالت تحافظ على علاقات متينة مع الجنرال المتقاعد حتى وإن انزعج منها شركاؤها الأوروبيون، الذين لم تعد صدورهم تتسع لمجاملة «أمير حرب» (حفتر) بحسب غيبار.
وتحافظ فرنسا أيضا على علاقات قوية مع أنظمة استبدادية في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، أسوة بحليفها ادريس ديبي، الذي سمى نفسه «ماريشال تشاد». ويرى خبراء أن بلدا غنيا بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى والامكانات الزراعية مثل تشاد، يخضع منذ ثلاثة عقود إلى حكم ديبي وأسرته، بحماية عسكرية فرنسية.
وعلى الرغم من اكتشاف ثروة نفطية في البلد منذ عشرين عاما، ما زال الفرنسيون يتكتمون على حجمها الحقيقي، فيما تستحوذ أسرة ديبي على إيراداتها لتضعها في الملاذات الضريبية، على ما يقول خبراء فرنسيون. وأسفرت هذه السياسة عن انخرام الأمن في البلد وتعميق الانقسامات العرقية والمناطقية، وضرب الحريات، فيما وضعت مؤشرات التنمية تشاد في أسفل سلم التنمية الاقتصادية والبشرية في العالم. وعندما تطالب قوى التغيير بإصلاح الأوضاع في البلد، يأتي جواب باريس وعواصم غربية أخرى بأن ديبي يشكل «سورا على الصعيد الإقليمي أمام انتشار الجماعات الإرهابية» وأن «لا أحد سواه قادر على احتواء الهجمات الجهادية واستيعاب الصراعات الحدودية» على الرغم من المجازر الكثيرة التي أمر بها، واحترافه إرسال ميليشيات مسلحة إلى بلدان الجوار.
وتحارب القوة الفرنسية المؤلفة من 5100 عسكري، مقاتلي الحركات المسلحة، الموضوعة على قائمات الإرهاب. وقد أعلن بعضها ولاءه لتنظيم «القاعدة» أو «داعش» وتتزايد المخاطر الأمنية في المنطقة، بسبب سرعة تحرك الجماعات المسلحة في مجموعات صغيرة على امتداد الحدود الليبية مع تشاد، وهي ثاني أطول حدود لها، بعد حدودها المشتركة مع مصر. لكن نادرا ما تغادر تلك القوات الفرنسية قواعدها، بالنظر لحجم الخسائر البشرية التي تتكبدها في مواجهة عناصر الجماعات المدربة، والتي تعرف التضاريس الطبيعية للمنطقة أفضل منها.
واختارت فرنسا تشاد مقرا لقوات عملية «برخان» لكونها حليفا مضمونا، فمنذ حصول هذا البلد الفقيرعلى استقلال صوري من فرنسا العام 1960 قاده رؤساء عينتهم باريس، بدءا من فرنسوا تومبولباي (1960-1975) الذي مات مقتولا، إلى غوكوني عويدي (1979-1982) إلى حسين حبري (1982-1990) الذي تم القُبض عليه، وحوكم في السنيغال، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الغنسانية، في حين استلم الرئاسة بعده ادريس ديبي، الذي تمرد عليه واستطاع أن يُطيح به، ليبقى هو في سدة الرئاسة على مدى أكثر من ثلاثين عاما.

ميتران وريغان وديبي

وأتاح الموقع الاستراتيجي لتشاد، الواقعة إلى الجنوب من ليبيا، الفرصة لرؤسائها للظهور أمام الغرب، بمظهر الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه في مواجهة مغامرات الزعيم الليبي معمر القذافي، وخاصة بعد غزو القوات الليبية لشمال تشاد في العام 1983. وانطلاقا من هذا الدور دعمت كل من فرنسا ميتران وأمريكا ريغان، حبري بكميات مهمة من المساعدات العسكرية. ثم أرسلت فرنسا 3000 مظليا لحماية نظام حبري من السقوط، فيما قدمت إدارة ريغان اثنتين من طائرات «أواكس» للمراقبة الإلكترونية وتأمين غطاء جوي، ما حمل القوات الليبية الغازية على الانسحاب، بحلول عام 1987. وساعدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، التي كانت في حرب مع القذافي، في إنقاذ حبري. أكثر من ذلك، استخدمت قاعدة سرية في تشاد لتدريب الجنود الليبيين الذين أُسروا في المعارك، كي ينضموا إلى قوات معارضة للقذافي بقيادة ضابط أسير يدعى خليفة حفتر، والذي كان قائدا للقوات الليبية في تشاد.

تداعيات على ليبيا
من هنا فإن تداعيات اضطراب حبل الأمن في تشاد، معطوفا على مقتل الرئيس ديبي، ستكون لهما تأثيرات كبيرة في الوضع الليبي، فإذا ما ثبت أن الجماعات التي قتلت ديبي آتية من الشمال، أي من ليبيا، وهذا مؤكد، فهو يعني مرة أخرى أن الجنوب الليبي ما زال خارجا عن السيطرة، وأنه بات مفرخة ومحضنة للمتطرفين المسلحين، ومسرحا لجميع أصناف التهريب، بما فيه تهريب السلاح. كما يدل أيضا على أن معاودة السلطات المركزية إحكام قبضتها على الجنوب عملية معقدة وصعبة المنال، في ظل التقدم الوئيد للعمليتين السياسية والعسكرية.
وتبدو السلطات الليبية مرتبكة في تعاطيها مع المستجدات الخطرة في تشاد، بالرغم من أن وزارة الخارجية أنشأت غرفة طوارئ لمتابعة الوضع هناك، كما تخاطب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي هاتفيا مع الرئيسين السوداني والنيجري، لكن الجماعات التشادية المعارضة ما زالت تتمتع داخل ليبيا بحماية الجنرال حفتر. وإذا ما بقي الوضع محتقنا في تشاد، فإن ذلك لا يساعد على التقدم في المسارين الليبيين وهما الاستفتاء على الدستور وإجراء الانتخابات في الميقات المحدد لها.

انقلاب قصر؟

وهناك من يعتقد أن الضبابية التي أحاطت بالعملية العسكرية التي قضى فيها ديبي نحبه، عززت الآراء القائلة بأن ما حدث هو انقلاب قصر، للتخلص من ديبي المتشبث بالحكم، بعد العقود الثلاثة التي أمضاها في سدة الرئاسة، وإقدامه على تنظيم انتخابات صورية للتجديد له للولاية السادسة على التوالي. وقد يكون البعض داخل الفئة الحاكمة يعتقد أن ديبي بات عبئا على حليفتيه الغربيتين فرنسا وأمريكا، ومُعطلا للتفاهم مع المعارضة المسلحة التشادية، بما لا يُسهل إعادة الاستقرار إلى البلد، وبما يحد أيضا من التداعيات السلبية للصراع في تشاد على المسار السياسي الليبي.
وكيفما كان المآل في تشاد، فإن عملية السلام في ليبيا ستتأثر سلبا بما يجري على أراضي الجار الجنوبي، لأن الحرب التي ما زالت دائرة مع المتمردين، ستُؤخر استكمال إخراج القوات الأجنبية من ليبيا، ومن بينها الميليشيات التشادية التي حاربت إلى جانب الجنرال حفتر.

تركيا وفرنسا
ورجح محللون آخرون أن تركيا الداعمة للمعارضة التشادية، وفرنسا حليفة ديبي، هما اللتان تقفان خلف الصراع الدائر حاليا في ليبيا. وتعليقا على الأحداث الأخيرة، قال عضو مجلس النواب الليبي سعيد امغيب إنه كان يستبعد تخلي باريس عن حليف استراتيجي قوي، مثل إدريس ديبي، ومحاولة إزاحته عن الحكم بالقوة. وتابع أمغيب قائلا «بطل العجب عندما تبين لي أن الفرنسيين كانوا على علم بما سيحدث في تشاد، التي حكمها ديبي لأكثر من ثلاثين سنة، فأصبحت هشة مثل كل الأنظمة التي تصل إلى مثل هذه الفترة، علاوة على ان ديبي كان مريضا بالسرطان، كما أشارت إلى ذلك بعض التقارير، وبالتالي فالفرنسيون بحاجة إلى بديل قوي يحل محله». ولم يستبعد أمغيب أنهم اشترطوا توريث الحكم إلى نجله محمد (37 عاما) قائد الحرس الرئاسي «الذي توافق عليه جنرالات الجيش في وقت قياسي يثير الاستغراب في بلد مثل تشاد» على ما قال امغيب.

أمريكا غائبة حاضرة

في المقابل، بقيت أمريكا خارج هذا المشهد، فهي مكتفية، في ظل الإدارة الجديدة، بدعم الموقف الفرنسي، بناء على أن هذه المنطقة لم تعد ضمن أولوياتها، مع العلم أنها تتابع ما يجري في ليبيا بالاعتماد على وسائل المراقبة المتطورة، التي تمتلكها القيادة الأمريكية لأفريقيا المعروفة بـ»أفريكوم».
أما باريس فبعدما احترقت أوراقها مع احتراق ورقة حفتر، الذي راهن عليه قصر الإيليزيه إلى اللحظة الأخيرة، أتى انقلاب العسكر في مالي، يوم 18 آب/أغسطس الماضي، والذي أطاح بصديقها الرئيس ابراهيم أبو بكر كايتا (75 عاما) ليُزعزع الأوضاع الأمنية الهشة في منطقة الساحل والصحراء، ويُظهر عجز قوات «عملية برخان» على ضبط الأمور، وهي التي تنتشر في منطقة تزيد مساحتها على ضعف مساحة فرنسا، ما جعلها في مواجهة دائمة مع الجماعات الإرهابية، التي تتحصن في الفضاء الصحراوي الشاسع. وكانت مالي عرفت انقلابا عسكريا مماثلا لتشاد في آذار/مارس 2012 قاده ضباط ضد نظام اعتبروه عاجزا عن احتواء انتفاضات عرقية هنا وهناك، وفاشلا في وقف الصدامات مع جماعات مسلحة سيطرت على شمال البلد.
ومع أن ماكرون تعهد في 2018 بالقضاء النهائي على الجماعات المسلحة وشبكات التهريب، إلا أن الحرب في كل من مالي وتشاد صارت أطول من حرب التحرير الجزائرية (1954-1962).
ويقول الخبير الفرنسي نيكولا باروت إن باريس تتابع الأوضاع في مالي بقلق شديد باعتباره إخفاقا استراتيجيا. وأقرَ باروت بوجود خلاف داخل القيادة الفرنسية، بين من يدعون إلى الاتعاظ من الإخفاقات السابقة وفتح قنوات الحوار مع العناصر المعتدلة في حركات التمرد، من جهة، والداعين إلى التمادي في اللجوء للغة السلاح من جهة ثانية. واعتبر أن الخلاف يعكس مقدار التردد والشك المُحيطين بمركز القرار الفرنسي، سواء في الإيليزيه أو في «المديرية العامة للاستخبارات الخارجية».
في الخلاصة ما زالت الأوضاع غير المستقرة في تشاد تلقي بظلال كثيفة على المسارات الليبية، لارتباطها بملفات شائكة، ليس أقلها صعوبة إخراج الميليشيات من الجنوب في الوقت الراهن، ما يستدعي تضافر الجهود المحلية والدولية، لإزالة الحواجز من طريق التسوية السلمية للصراع الليبي الليبي.

تعليقات