رشيد خشــانة – لم يترك الإيطاليون فرصة اجتماع وزراء خارجية الدول الصناعية السبع، في لندن، تمرُ من دون استثمارها لتحصيل دعم من الشركاء لوجهة نظر روما، بخصوص الحل السياسي في ليبيا. ويجوز القول إن رئيس الدبلوماسية الإيطالية لويجي دي مايو نجح في وضع الملف الليبي على مائدة الحوار في لندن، منطلقا من أن «ملف الأمن في ليبيا مهم لأمن أوروبا». أكثر من ذلك دعا دي مايو الشركاء الستة إلى إيجاد فرص جديدة للاستثمار الاقتصادي في ليبيا، بما يُسهم في تعزيز استقرار البلد.

إيطاليا والآخرون

وإيطاليا سبقت الأوروبيين الآخرين إلى الفوز بصفقات كبرى في ليبيا ليس أقلها تجديد مطار بنينة في بنغازي، وإعادة بناء مطار طرابلس الدولي، الذي دمرته عناصر ميليشيات الزنتان قبل إخراجها منه قسرا، على أيدي ميليشيات منافسة في العام 2014 وشق الطريق الساحلي، الذي سيربط بين الحدود مع تونس غربا ومع مصر شرقا، وهو الذي يُعتبر حلقة مهمة في الطريق المغاربية التي تعثر تنفيذها منذ أكثر من ربع قرن.
وكان لافتا أيضا أن حكومة الوحدة الوطنية تُخطط لبناء مصفاة جديدة في الجنوب، الذي تعرض لمصاعب كبيرة في التزوُد بالوقود وغاز الطهي طيلة الفترة الماضية. وفي هذا الإطار بحث وزير النفط والغاز في حكومة الوحدة الوطنية محمد إمحمد عون، مع أعضاء المجلس الأعلى للدولة، مشروع إنشاء المصفاة لحل المشاكل الحياتية لأهالي الجنوب. وتستطيع الحكومة الحالية إطلاق الدراسات الخاصة بإقامة المصفاة لأن العملية تتطلب وقتا طويلا.

تحذير للمُعطلين

وجد هذا الموقف الإيطالي المُعلن في قمة السبع أصداء مؤيدة، ومن تلك الأصداء الوازنة الموقف الأمريكي الداعي إلى «معاودة فتح الطريق الساحلي على الفور» مع التذكير بأن أمريكا تدعم بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا وأعمال اللجنة العسكرية المشتركة 5+5. لكن ليس من عادتها التطرق في بياناتها إلى مثل هذه القضايا التي تبدو فرعية. على أن اللجنة العسكرية استقوت على ما يبدو بهذا الموقف الدولي، إذ لوحت بكشف النقاب عن معرقلي فتح الطريق الساحلي، مؤكدة أنه «إذا لم يفتح قريبا سنُسمي المعرقلين والأسباب المؤدية إلى ذلك، من أجل اتخاذ الإجراءات اللازمة» على ما قالت اللجنة في بيانها، بعد اجتماعات استمرت خمسة أيام في مدينة سرت.

مواقف متباعدة

إلا أن المسألة الأكثر حساسية في أجواء الكلام المستعاد عن فتح الطريق الساحلي، تتمثل بمصير الاتفاقات السابقة مع تركيا، التي أبدى حيالها أعضاء حكومة الوحدة الوطنية مواقف متباعدة، إن لم نقل متضاربة. ويمكن القول إن الدبيبة حسم هذا الجدل، الذي كانت أثارته تصريحات سابقة لوزيرة الخارجية نجلاء المنقوش، بتأكيده الواضح في مقابلة تلفزيونية أن حكومته تتمسك بالاتفاقية البحرية الموقعة مع تركيا، وأنها «لن تفرط فيها». كما أكد أن الاتفاقية تمنح ليبيا «مساحات اقتصادية واسعة في البحر المتوسط يمكن استثمارها مستقبلا». وكانت الوزيرة المنقوش طلبت، خلال زيارة لروما، من الدول التي لديها قوات في ليبيا، بما فيها تركيا، سحب قواتها طبقا لجداول زمنية. وجددت الطلب خلال اجتماعها الأربعاء مع المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة رئيس بعثتها للدعم في ليبيا، يان كوبيش، مشددة على ضرورة «سحب القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا في إطار واضح وجداول زمنية محددة» وفق بيان صادر عن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا.

خمس دول

تعزز هذا الموقف الأممي الداعم بإعلان خمس دول كبرى هي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، الخميس الماضي، رفضها إجراء أي تغييرات من شأنها تعطيل الانتخابات الليبية المقررة في 24 كانون الأول/ديسمبر، مشددة على ضرورة التزام السلطات الليبية بتسهيل إجراء الاستحقاق الديمقراطي في موعده. وهذا يعني أن الانتخابات ستُجرى، إذا ما أجريت، في ظل بقاء قوات أجنبية خارج أية اتفاقات مع السلطات الشرعية الليبية.
لكن الأتراك ينظرون إلى العلاقات مع ليبيا برؤية شاملة تربط بين التفتيش عن مصادر الطاقة في شرق المتوسط وتأمين التكنولوجيا العسكرية لحلفائها في ليبيا وتحصيل صفقات إعادة إعمار من الحكومة المؤقتة الحالية.

تعزيز المواقع على طرفي الجبهة

وفي إطار هذه الرؤية تستمر تركيا في إرسال القوات والعتاد إلى خط الفصل بين قوات الحكومة وقوات حفتر في محيط مدينة سرت، تماما مثلما تفعل روسيا، لتعزيز مواقعهما على طرفي الجبهة. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة لا تقلُ أعداد المرتزقة الموجودين على الأرض عن 20 ألف مقاتل، ما يجعل الحديث عن إجلاء المرتزقة الأجانب، مثلما هو مذكور في خارطة الطريق، التي تلتزم بها حكومة الدبيبة، مجرد لغو.
والأرجح في ضوء شعور الحكومة بالضعف أنها ستكتفي بتصريف الأعمال، وفي أفضل الحالات ستتخذ قرارات ذات طابع فني وإجرائي لا أكثر، إذ أن مرتزقة «فاغنر» الروس لم يسمحوا لرئيسها ووزرائه بالنزول بطائرتهم الخاصة في مدينة سرت (وسط) ولا سمح لهم الجنرال حفتر بزيارة بنغازي، عاصمة الشرق الليبي، لعقد اجتماع لمجلس الوزراء هناك. وبالرغم من حركة استعراض القوة التي قام بها حفتر، ما زال رئيس الحكومة المؤقتة يلجأ إلى توسيط الأطراف الدولية من أجل الضغط على الروس وعلى حفتر للسماح للحكومة بالتنقل داخل البلد، علما أن الجنوب خارج تماما عن السيطرة، وهو خاضع لمراقبة فرنسا عبر الميليشيات الموالية لها. وكان من الواضح في كل خروج إعلامي لدبيبة أنه حريص على تفادي الاحتكاك بحفتر وكذلك بداعميه الروس، على الرغم من إقراره بأن عناصر مجموعة «فاغنر» تدين بالولاء لروسيا، وأنها هي التي منعت طائرته من النزول في سرت.

ورقة مهمة

مع ذلك يمسك دبيبة بورقة مهمة وهي المتمثلة بالدعم الآتي لحكومته من واشنطن وبرلين، إذ أكد السفير الأمريكي لدى ليبيا، ريتشارد نورلاند تأييده الكامل لدعوة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش «الواضحة» في شأن إخراج القوات الأجنبية من البلد «من أجل الحفاظ على سيادة ليبيا». كما أبلغت المستشارة الألمانية إنغيلا ميركل، الرئيس التركي اردوغان، أن انسحاب القوات الأجنبية من ليبيا سيكون «إشارة مهمة» وفق ما نقلته وكالات الأنباء عن ناطق باسم الحكومة الألمانية. ويُعتبر تحصيل هذا الموقف المشترك الألماني التركي الداعم للحكومة الحالية حافزا قويا لمُضيها في الاعداد للمصالحة.
وكانت ميركل اتفقت مع الرئيس التركي، في اجتماع عبر الفيديو، على دعم حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة «في جهودها لتوفير الإمدادات للسكان والإعداد للانتخابات بحلول نهاية العام».

فرص ضئيلة

لكن فرص النجاح المتاحة للتقدم نحو إجراء الانتخابات المقررة للرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، تبدو ضئيلة في ظل استمرار وجود قواعد أجنبية يُقدر عددها بما لا يقل عن عشر قواعد، بحسب الرئيسة السابقة للبعثة الأممية ستيفاني وليامز. والظاهر أن الدبيبة يُركزعلى التحضير لإجراء الانتخابات، كي تتولى الحكومة المنتخبة معالجة معضلة إجلاء القوات والميليشيات الأجنبية.
وفي سياق ترتيب الأولويات هذا، يسعى الدبيبة إلى مد المفوضية العليا للانتخابات بالاعتمادات المالية اللازمة لتنظيم الاقتراع. وكان دبيبة زار مقر المفوضية واستمع إلى طلبات رئيسها، وهو ينتظر التصديق على الموازنة الجديدة لكي يفي بوعده للمفوضية، مع أمله بأن يزيد إنتاج البلد من النفط من 1.3 مليون برميل في اليوم حاليا إلى 1.5 مليون قبل نهاية العام، كي تتمكن الحكومة من الاستجابة لجميع الاستحقاقات المالية.
غير أن العراقيل ليست ذات طبيعة مالية فحسب، وإنما هناك شروط سياسية ودستورية لابد من تأمينها لإنجاح السير نحو الانتخابات، ومن بينها إنشاء مفوضية عليا للمصالحة الوطنية. ويحظى هذا المسار بدعم كبير من الأمم المتحدة، لكن سيتعين على الليبيين دراسة التجارب السابقة في العدالة الانتقالية، وخاصة التجربة التونسية، لتفادي الوقوع في أخطاء ومطبات قد تُحولها إلى «عدالة انتقامية» أو «انتقائية». والأرجح أن متابعة المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيش لهذا المسار سيحد من الزيغ به عن طريقه الصحيح، مثلما حدث في تونس.

صيغة نهائية؟

مع ذلك يبقى هناك شرط مهم للإعداد للانتخابات إعدادا جيدا، وهو الاتفاق على القاعدة الدستورية للانتخابات. والجديد في هذا المضمار أن اللجنة القانونية بـ»ملتقى الحوار السياسي الليبي» استكملت الأسبوع الماضي، وضع الصيغة النهائية للقاعدة الدستورية اللازمة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وبحسب عضو اللجنة الزهراء لونغي حصل التوافق بين أعضاء اللجنة على مقترح تعديل الإعلان الدستوري، الذي وضعه المجلس الوطني الانتقالي في 2011 مع تأجيل الاستفتاء على مشروع الدستور، إلى حين انتخاب السلطة التشريعية المقبلة، والاعتماد على قاعدة دستورية تنظم العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (الرئيس ورئيس الوزراء). وتضمن مقترح اللجوء إلى قاعدة دستورية انتقالية تصورين واحد يعتمد الانتخاب المباشر للرئيس، والثاني يعتمد الانتخاب غير المباشر، أي أن الرئيس يُنتخب من أعضاء البرلمان، من دون إعطاء تفاصيل أخرى عن المشروع. وسيعرض كوبيش المقترحين على ملتقى الحوار الوطني في جلسة مقبلة لاعتمادهما أو رفضهما أو تعديلهما، لكن لا يُعرف بأية آلية أو أي نصاب سيتم الاقتراع عليهما.
قُصارى القول إن وجود القوات الأجنبية في ليبيا يبقى شوكة في ساق حكومة الوحدة الوطنية، وهو مصدر توتُرات وصراعات بين الفرقاء، قد تُرجئ الانتخابات أو تجعلها تجري في مناخ مُحتقن. كما أن الأزمتين الصحية والاقتصادية تجعلان تقدم الحكومة في الإعداد لها مُحاطا بكثير من المحاذير والمطبات.

تعليقات