رشيد خشـــانة – يرتدي الاجتماع المرتقب لمجلس الأمن أهمية خاصة، إذ سيكون على مستوى الوزراء، وسترأسُه فرنسا، الضالعة في دعم قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر.

استبقت موسكو جلسة من المقرر أن يعقدها مجلس الأمن الدولي الخميس المقبل، لترفع صوتها مُطالبة، هي الأخرى، بإخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا «بشكل متزامن». ولو كان هذا الموقف، الذي أعلنه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين، صادقا لكانت موسكو من المبادرين إلى سحب مقاتلي شركة «فاغنر» الأمنية، بشكل متزامن مع المرتزقة الآخرين.
مع ذلك كشف فيرشينين أن روسيا قدمت إلى وزير الخارجية السابق مايك بومبيو، في نهاية 2019 مشروعا لإحداث آلية مشاورات شاملة تتعلق بالتسوية السلمية للصراع في ليبيا. وأكد فيرشينين أن موسكو لم تتلق ردا من واشنطن على مقترحها إلى اليوم.
والأرجح أن إمساك واشنطن عن الرد حتى الآن، مردُه إلى كونها لم تر جدية في تعاطي الروس مع ملف مرتزقة «فاغنر» الذين لا تعتبرهم موسكو تابعين للدولة الروسية. وكان إخراج القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا محورا رئيسا في مشاورات مؤتمر برلين الثاني، في 23 حزيران/يونيو الماضي، والذي خلص إلى بيان ختامي من 56 بندا، بينها إخراج المرتزقة من البلد. وتقدر الأمم المتحدة عددهم بنحو 20 ألفا، وهم يحملون الجنسيات الروسية والسورية والسودانية والتشادية وغيرها.
ويرتدي الاجتماع المرتقب لمجلس الأمن أهمية خاصة، إذ سيكون على مستوى الوزراء، وسترأسُه فرنسا، الضالعة في دعم قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر. وبحسب المبعوث الأممي إلى ليبيا يان كوبيش، سيتطرق الاجتماع إلى ملف الانتخابات المقررة لآخر العام الجاري. كما يُتوقع أن يتناول بالبحث ما سُجل من خروق لوقف إطلاق النار، وإن لم يكشف كوبيش طبيعة هذا البحث. والظاهر أن المبعوث الأممي يسعى لعقد اجتماع لملتقى الحوار، مدفوعا بهاجس تنشيط المسارات المعطلة، بعد إخفاق الاجتماع الأخير في جنيف، نتيجة أجواء العراك والعنف التي طغت على أعماله.
غير أن كوبيش نفى أن يكون الاجتماع أخفق، وأكد أنه ناقش الأفكار والمقترحات التي ينبغي أن تسير بالبلد نحو الاستحقاق الانتخابي.
وتأكيدا لذلك أفاد كوبيش أن على اللجنة التي تشكلت في جنيف للتقريب بين المواقف المتباعدة، أن تجمع المقترحات وتُوحد الأفكار في شأن كيفية إجراء الانتخابات على قاعدة دستورية.
بيد أنه أنحى باللائمة، بشكل غير مباشر، على مجلس النواب (شرق) والمجلس الأعلى للدولة (غرب) مُعتبرا أنهما يتحملان مسؤولية «إعداد التشريعات اللازمة والعمل على إقرار القاعدة الدستورية لإجراء الانتخابات».
ولاحظ مراقبون أن كوبيش يسعى إلى لي ذراع الأطراف المُعطلة لتنفيذ خارطة برلين، من أجل إنهاء التجاذبات التي عصفت بالاجتماع الأخير في جنيف وأدت إلى تعطيل المسار. وأفاد مصدر مقرب من المبعوث الأممي أنه مُصمم، إذا ما استمر مجلس النواب في رفض مناقشة الموازنة، على عرضها على ملتقى الحوار.

بانتظار تسمية وزير للدفاع
وتحدث كوبيش في لقاءات خاصة عن المشاريع والخطط المعطلة جراء تلكؤ مجلس النواب في إجازة الموازنة التي قدمتها له حكومة الدبيبة منذ فترة.
في المقابل، يشترط المعارضون لتداول المجلس في موضوع الموازنة، تسمية وزير للدفاع أولا قبل النظر في المشروع المعروض عليهم. وأكد رئيس لجنة الدفاع والأمن القومي بمجلس النواب، طلال الميهوب، في هذا الصدد، أنه لا يمكن اعتماد ميزانية الدولة وإقرارها من دون معرفة قدرة الحكومة على آلية صرفها وتنفيذها، ومشترطا في الآن نفسه تعيين وزير على رأس حقيبة الدفاع التي يتولاها حاليا رئيس الحكومة الدبيبة.
وفي السياق ظهرت قراءات واجتهادات مختلفة، من أنصار عرض الموازنة على مجلس النواب، تُبرر ضرورة استعجال الأمر. لا بل إن عضو مجلس النواب وعضو ملتقى الحوار السياسي، زياد دغيم استند على مادة في الاتفاق السياسي تسمح للحكومة بتقديم الموازنة إلى المجلس الرئاسي ومجلس إدارة مصرف ليبيا المركزي لاعتمادها، ولا تنتظر إقرارًا من البرلمان، في ظل تهرُبه من النظر في الموازنة التي أحيلت إليه. ووجه المتحمسون لعرض الموازنة على البرلمان اتهامات إلى رئيسه عقيلة صالح بالوقوف وراء التعطيل، مع تذكيرهم بأنه (أي صالح) لا يستطيع ترؤس الجلسات بسبب القاعدة المألوفة حول تضارب المصالح، بعدما أخفقت لائحته في الاقتراع الذي جرى في جنيف في فبراير الماضي، إثر منافسة بين لائحته ولائحة محمد المنفي وعبد الحميد الدبيبة.

خطوات نحو الشفافية
إلى جانب هذا الجدل القانوني يمكن القول إن مكافحة الفساد تحسنت في أعقاب إمساكها بملفات ظلت مسكوتا عنها طيلة سنوات، فقد تسلم رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة أخيرا تقرير المراجعة المالية الدولية، عن عمل المصرف المركزي بقطبيه في طرابلس (غرب) والبيضاء (شرق) بمشاركة مؤسسات ومنظمات دولية. وهي إحدى الخطوات الأولى من نوعها لاعتماد الشفافية في المؤسسات المركزية الليبية. ولئن اعتُبر هذا التدبير استنقاصا من السيادة الليبية، فإن مُجريات الصراع الليبي /الليبي في السنوات الأخيرة، جعلت من مثل هذه المراجعة مظهرا آخر من مظاهر تدويل الأزمة.
وكانت حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج هي من طلب قبل ثلاث سنوات المراجعة الدولية، من مجلس الأمن، مثلما ذكر بذلك المبعوث الأممي السابق إلى ليبيا غسان سلامة. ويمكن القول إن ما دفع السراج إلى ذلك هو حرصه على تبرئة ساحة الحكومة من أي شبهات تلاعب بالمال العام، عن طريق مصرف ليبيا المركزي.
وأتاح حفل التسليم الرسمي للتقرير الأسبوع الماضي، جمع حاكم مصرف ليبيا الصديق الكبير مع نائبه علي الحبري، الذي يُدير الفرع الرئيسي في مدينة البيضاء، منذ سبع سنوات، في إطار منافسة بينهما على خلفية الانقسام السياسي في البلد. وانسحب الخلاف بين رأسي المصرف المركزي على مجلس الادارة، الذي انشطر وتعثرت أعماله، على مدى السنوات السبع الأخيرة.

إخراج ليبيا من القائمة الرمادية
مع وجود هذه الصعوبات حقق المصرف مكاسب مهمة ابرزها إخراج ليبيا من القائمة الرمادية، الخاصة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بعد الاستجابة لشروط مجموعة العمل المالي، بالتعاون مع وزارة الخزانة الأمريكية. من هنا تبدو عملية تسليم التقرير الدولي بداية لإعادة توحيد المصرف المركزي، الذي سيكون وقود تنفيذ أهداف موازنة 2021، التي مازال مجلس النواب يتلكأ في التصديق عليها، بالرغم من أن نصف السنة انقضى.
ومع أهمية هذا المحور في تنفيذ بنود خارطة برلين، إلا أن الخلافات السياسية داخل ملتقى الحوار هي الأكثر تأثيرا، إن سلبا أم إيجابا، في مصير خارطة الطريق.
في السياق نفسه، وجهت أخيرا مُقررة لجنة متابعة الأجهزة الرقابية ابتسام الرباعي، كتابا إلى رئيس هيأة الرقابة الادارية سليمان الشطي لإشعاره بتوقيفه عن العمل وإحالته إلى التحقيق. إلا أن الشطي رفض القرار واعتبر أن الرباعي غير مخولة اتخاذ تلك القرارات، التي تعود إلى رئيس مجلس النواب بمقتضى النظام الداخلي للمجلس.
بعيدا عن المناكفات الجارية في العاصمة، تتفاقم هامشية الجنوب الليبي (إقليم فزان) الذي ما زال معبرا لتجارة الأسلحة من جميع الأحجام والأنواع، فضلا عن شبكات التهريب وتجارة البشر، ما يضعه خارج المسار الذي انطلق من برلين العام الماضي. والجنوب، الذي يُعتبر الخاصرة الرخوة لليبيا، لم يستقبل واحدا من مسؤولي الصف الأول منذ أكثر من عشر سنوات. وعاد إليه التوتر أخيرا مع إرسال الجنرال حفتر قوة من المرتزقة إلى المنطقة غير بعيد عن الحدود المشتركة مع الجزائر، ما حمل الحكومة الجزائرية على غلق الحدود مع ليبيا.

غياب دول الجوار
في هذا المشهد المتشابك، تبدو دول الجوار غائبة أو مُغيبة، بالرغم من محاولات الاتحاد الأفريقي المشاركة في المساعي الرامية لإعادة الاستقرار إلى ليبيا. ومن الواضح أن استبعاد هذه الدول من مؤتمري برلين الأول والثاني، عدا الجزائر، دليلٌ على الاستهانة بتلك الدول، ونفي لأي دور يمكن أن تساهم به في حل الأزمة، على الرغم من أنها أول المتضررين من استمرار الصراع في ليبيا، وأول المستفيدين من عودة الاستقرار والأمن إليها.
والظاهر أن انكفاء أهم جيران ليبيا من دول عربية على أوضاعها الداخلية، جعلها مُهمشة في الحركة الديبلوماسية التي تمهد لترتيب الانتخابات.
وزاد من تعفين الأوضاع مقتل الرئيس التشادي على أيدي ميليشيات خارج الدولة، تملك أسلحة أكثر تطورا مما تملك جيوش بلدان الساحل والصحراء. ولا يستبعد محللون أن تلك الجماعات المسلحة تُستخدم من قبل دول كبرى أو قوى اقليمية لإرباك الوضع في ليبيا.
ويُستدل على صعوبة الأوضاع هناك وحجم المخاطر الأمنية الكبيرة بقرار فرنسا سحب قواتها من مالي والنيجر وتشاد على دفعات، ووضع حد لعملية «برخان» التي تجند في إطارها أكثر من 5000 جندي فرنسي، قُتل بعضهم في معارك مع الجماعات المسلحة.
ويعتقد الأمريكيون أن استمرار الحرب الأهلية في ليبيا أوجد مناخا مناسبا للجماعات المسلحة المنسحبة من العراق وسوريا، للجوء إلى الجنوب الليبي، والتوسع جنوبا نحو منطقة الساحل والصحراء. وسيكون من الصعب ملاحقة تلك الجماعات في فضاء شاسع تعادل مساحته سبعة ملايين كلم مربع، ويفوق عدد سكانه 140 مليون نسمة، يتحدرون من أعراق ومكونات قومية واثنية مختلفة.
وتشكل بلدان الساحل العشرة حاضنة مثالية للحركات المصنفة إرهابية، ولشبكات التهريب وتجارة السلاح، وهي من أفقر البلدان في العالم واقتصاداتها الرعوية من أشد الاقتصادات تقليدية.
من هذه الزاوية يعتبر الألمان، وهم أصحاب مبادرة برلين، أن إعادة الاستقرار إلى ليبيا هو مفتاح السيطرة على الوضع في منطقة الساحل، واستطرادا الحل الأنجع لإجلاء عناصر الجماعات المسلحة منها، كي لا تظل تقتنص الفرصة المناسبة للزحف شمالا، نحو السواحل الجنوبية لأوروبا، وتهديد الاستقرار في دول مثل ألمانيا وإيطاليا وفرنسا. هكذا يصبح الحل السياسي في ليبيا ضرورة اقليمية، لا بل دولية، وهو ما عبرت عنه المستشارة ميركل حين حذرت من أن إطالة الأزمة في ليبيا ستجعل شظاياها تنتقل إلى بلدان أفريقية أخرى.

تعليقات