رشيد خشــانة – إذا كانت الطريق الرابطة بين شرق ليبيا وغربها قد فُتحت، فإن طريق الانتخابات ما زالت غير سالكة. وأول العوائق يتمثل في صعوبة إخراج المرتزقة والعسكريين الأجانب من البلد.

طلبت اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 التي تضم ضباطا سامين من الفريقين المتصارعين، إيجاد مراقبين محليين في هذه المرحلة. كما طلبت اللجنة من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، التعجيل باتخاذ الإجراءات الكفيلة باللجوء إلى مراقبين دوليين على الأرض، للمساهمة في دعم آلية المراقبة الليبية. وعليه تُصرُ اللجنة العسكرية على البدء في تنفيذ مخرجات مؤتمري برلين1 وبرلين2 الخاصة بسحب المرتزقة.
غير أن شرطا أساسيا لم يتحقق حتى الآن، وهو عودة الأمن إلى المدن الليبية، فتجدُد الاغتيالات في الشرق، كما في الغرب، يُلقي بظلال كثيفة على مسار معاودة بناء مؤسسات الدولة. ففي المنطقة الشرقية تم اغتيال محمد الكاني، أحد عُتاة المجرمين، الذي كان يتولى قيادة اللواء التاسع مشاة التابع لمدينة ترهونة، والمسؤول عن ارتكاب مجازر عدة. وكان واضحا أن تصفيته ترمي إلى محو آثار المقابر الجماعية، وإسكاته كي لا يكشف أسماء كثير من شركائه المسؤولين عن تلك المجازر.
وهذا ما رجحته «رابطة ضحايا ترهونة» التي عزت إعدامه خارج نطاق القانون، إلى كونه «يحمل معلومات وأسرارًا عن المقابر الجماعية ومرتكبيها وعديد الجرائم الجنائية» مثلما قالت الرابطة في بيان لها نشرته «بوابة الوسط» الليبية. كما طلبت الرابطة بناء على ذلك فتح تحقيق عاجل في مقتل محمد الكاني، المطلوب من النائب العام بتهمة ارتكاب جرائم قتل.
وأتى اغتيال الكاني بعد عمليات مماثلة في بنغازي، طاولت ضباطا من الجيش الليبي وشخصيات عامة آخرها خطف النائبة سهام سيرقيوة، والأرجح أنها قُتلت. وفي المنطقة الغربية أيضا، ما زال الأمن غير مضمون وإن بدرجة أقل، وخاصة في بعض أحيائها وضواحيها. وتجلى ذلك في خطف مدير مكتب النائب الأول لرئيس حكومة الوحدة الوطنية، رضا فرج الفريطيس، في منطقة الظهرة بطرابلس، على يد مجهولين. وهذا مظهر من مظاهر تصفية الحسابات خارج الدولة. وسيكون من الصعب في ظروف مثل هذه استتباب الأمن، الذي هو الشرط الأساسي لإجراء انتخابات عامة.

أجسام عسكرية مُتحكمة

وأثار خطف مدير مكتب النائب الأول لرئيس الحكومة، مخاوف عميقة لدى الرأي العام، إذ أظهرت تلك العملية وعمليات مشابهة سابقة، أن الأجسام العسكرية هي المُتحكمة على الأرض، لا بل إن الحكومة نفسها تعتمد عليها لضمان أمن أعضائها.
لذا ينبغي أخذ قرار رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة بدمج الميليشيات في مؤسسات الدولة، بكثير من الحذر والشك. وكان الدبيبة وجه تعليماته إلى خمس وزارات بـ»استيعاب القوات المساندة (الميليشيات) في مؤسسات الدولة وفقا لرغباتهم». والوزارات المعنية هي الداخلية والاقتصاد والتجارة والعمل والتأهيل والتعليم العالي والشباب.
وتنفيذا لتلك القرارات ستباشر الدوائر المعنية اجتماعات مع «لجنة تنظيم واستيعاب ودمج القوة المساندة» للبناء على مخرجات عملها واستيعاب الفئات المستهدفة في مؤسسات الدولة، «بما يتوافق مع قدراتها ورغباتها».
لكن هذا الدمج محفوف بالمخاطر، إذ أن الميليشيات باتت كيانات ذات تراتبية داخلية، وهي تملك شبكة علاقات في الداخل والخارج، جعلت منها دويلات مسلحة داخل الدولة. ويشير مراقبون إلى أن بعض الميليشيات يملك أسلحة أكثر تطورا من أسلحة الدولة، وهي لا تستطيع التفكير إلا بذهنية اختراق أجهزة الدولة، بما فيها الأجهزة الأمنية (وزارة الداخلية). في المقابل يمكن القول إن أعلى وسيلة للضغط على أمراء تلك الميليشيات هي فرض عقوبات دولية على المتمردين منهم. غير أنهم صاروا يُحسنون التكيف مع تلك الأوضاع. لا بل الأرجح أنهم لن يتخلوا عن أعمال الخطف والبلطجة والتهريب وتجارة السلاح، حتى بعد دمجهم في هياكل الدولة.
أما القوات الأجنبية، وفي مقدمها عناصر مجموعة «فاغنر» الأمنية الروسية الخاصة، فيُرجح الباحث في «المجلس الأطلسي» في نيويورك مارك كاتز، ألا تسحبها موسكو بالرغم من إعلانها أنها تدعم الخطوات التي تقوم بها «جميع الأطراف» لتفكيك الجماعات المسلحة. والآرجح أن الروس سيتحججون بأن تركيا تملك قوات على الأرض في ليبيا ولم يُطلب منها سحبها. وإذا قيل لهم إن القوات التركية موجودة بمقتضى اتفاق رسمي مع حكومة معترف بها من الأمم المتحدة (حكومة السراج) يُرجح الباحث كاتز أن يرد الروس بما يُفيد استعدادهم لإبرام معاهدة مماثلة مع الحكومة الحالية برئاسة الدبيبة. ويُشير كاتز إلى أن روسيا تتخذ مواقف مزدوجة تدعم الفريقين المتصارعين في عدة نزاعات أخرى، ومنها سوريا واليمن وأفغانستان.
هكذا ينظر الروس إلى الصراع في ليبيا برؤية مختلفة عن الغربيين. وتطرق أخيرا تقرير بثه موقع «مودرن ديبلوماسي» الإخباري القريب من موسكو، إلى الأزمة الليبية، مُعترفا بأن روسيا قللت من اهتمامها بالملف الليبي في السنوات الماضية. وعزا التقرير ذلك إلى أسباب عملية، أولها أنها (ليبيا) تمثل إخفاقًا غربيًا، ما يعني أن الغرب هو المعني بمعالجة إخفاقاته والتعامل معها. مع ذلك يؤكد التقرير أن هذه النظرة من الممكن أن تتغير بعدما حققت موسكو بعض النجاحات في الملف السوري، ما قد يحفزها على التدخل في ليبيا.
من هنا يتقاطع فحوى تقرير «مودرن ديبلوماسي» مع تصريحات رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي، خالد المشري الذي أكد أن أعداد مرتزقة شركة «فاغنر» في ليبيا تضاعفت منذ بدء تنفيذ خارطة الطريق الحالية، على عكس ما تنص عليه الخارطة من إخراج للمرتزقة والقوات الأجنبية.
وكشف المشري في مؤتمر صحافي عقده في أعقاب فوزه بولاية رابعة على رأس المجلس الأعلى للدولة، تستمر سنة واحدة، أن ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف تعرض لضغوط دولية من عواصم لم يُسمها، وأخرى من البعثة الأممية للقبول بقاعدة دستورية تسمح بترشيح العسكريين للانتخابات. ومن المؤكد أن الغاية من تلك الضغوط هي إفساح الطريق أمام الجنرال خليفة حفتر لترشيح نفسه للرئاسة. واتهم المشري بعض الأطراف الليبية في اجتماعات جنيف، بأنها حاولت «تفصيل قاعدة انتخابية على مقاس اللواء المتقاعد خليفة حفتر وسيف الإسلام القذافي».

من يحتكر السلاح؟

من هنا تأتي أهمية توحيد المؤسسة العسكرية، التي خطف حفتر قسما منها، وضرورة استحواذها على قيادة الكيانات المسلحة، إلى جانب احتكارها السلاح، لكي تتولى فرض الأمن والاستقرار، باعتباره حجر الركن في نجاح الانتخابات.
إلى هذا الشرط الأمني، لابد من تأمين شرط سياسي/ قانوني، يتعلق بإيجاد مرجعية دستورية للانتخابات. والإصرارُ على إيجاد تلك المرجعية ليس مطلبا ليبيا فحسب، وإنما تُلح عليه الأطراف الخارجية أيضا، وربما أكثر من إلحاح الليبيين أنفسهم. وقد تجلى ذلك في محادثات السفير الألماني الجديد لدى ليبيا، ميخائيل أونماخت، مع المسؤولين الليبيين الذين زارهم، علما أن ألمانيا هي التي تولت قيادة الموقف الأوروبي، بعدما أخفق الفرنسيون والايطاليون في وضع خارطة طريق تتفق عليها القوى الدولية والفرقاء المحليون في آن معا.
ويتفق الموقف الأوروبي مع الموقف الأمريكي في هذه الرؤية، طبقا لما صرح به أخيرا السفير الأمريكي المبعوث الخاص إلى ليبيا ريتشارد نورلاند، إذ اعتبر أن ليبيا هي في الطريق نحو حل النزاع، من دون إعطاء إيضاحات لأسباب تفاؤله المُفرط.
بيد أن الخلافات بين الليبيين ما زالت قائمة في شأن مشروع قانون الانتخابات، خاصة بين أنصار النظام الرئاسي والمؤيدين للنظام البرلماني. وما زالت المناقشات متعثرة حول صلاحيات رئيس الدولة، بسبب مخاوف البعض من أن منح سلطات واسعة لرئيس الجمهورية، قد يُعيد البلد إلى الاستبداد، فتُهيمن الرئاسة الأولى على باقي السلطات، إذا لم توضع لها ضوابط وكوابح تحول دون العودة إلى الوراء.
أما أنصار النظام الرئاسي فيستدلون بالتجارب السلبية، ومنها تجربة تونس المجاورة، للتحذير من ثغرات النظام البرلماني وما يُرافقه من صراع بين السلطات الثلاث، بما يؤدي إلى عدم الاستقرار. وفي هذا الاطار يؤكدون أيضا أن ليبيا الخارجة من حرب أهلية، تحتاج إلى رجل قوي يكون قادرا على بسط سلطة الدولة، بالقانون، على الجميع.
مع ذلك، هناك دائما مُشككون في قابلية المجتمع الليبي لإرساء دولة مركزية، من ذلك أن النائب سليمان الحراري، اعتبر في حديثه خلال جلسة مجلس النواب الأسبوع الماضي، أن المنطقة الغربية لن تقبل بمرشح من الشرق والمنطقة الشرقية لن تقبل بمرشح من الغرب. وهذا تقدير فيه كثير من المبالغة، إذ أن التوصل إلى صيغة واقعية لتوزيع الثروات بين مختلف المناطق، سيكون سندا لتركيز منظومة انتخابية تستجيب لتطلعات جميع الليبيين اينما وُجدوا.

غضب بني وليد

في هذه الأجواء أتت غضبة نُخب بني وليد (شمال وسط) من محتوى مشروع القانون الانتخابي، الذي خصص للبلدية أربعة مقاعد، وهو عدد مُساو للعدد الذي خصص لها في 2006، بالرغم من ارتفاع عدد سكانها إلى أكثر من 124 ألف ساكن حاليا، بحسب عميد بلديتها يونس عزوزي. وزار وفد من المدينة رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في مكتبه، لإبلاغه برفض أهالي البلدية التوزيع المُقترح للمقاعد النيابية في المجلس التشريعي المقبل، مُطالبين بـ»توزيع عادل للمقاعد بين مختلف المدن الليبية». وأكد أعضاء الوفد أنهم تلقوا وعودا من عقيلة صالح بامتناع مجلس النواب عن اعتماد أي قانون «ينطوي على تمييز ولا يقوم على معيار موحد يسري على الجميع».
وأمام هذه التعقيدات تقررت إحالة مشروع «القاعدة الدستورية» إلى ملتقى الحوار السياسي، لكن لا شيء يضمن ألا تتواصل الخلافات نفسها هناك من دون حل.

تعليقات