رشيد خشـــانة – ما لم يُصبح الوضع الأمني تحت السيطرة، فإن محاولات تحقيق تقدم في جميع المجالات الأخرى ستبقى معطلة ومحفوفة بالمخاطر.

مع أن مجلس الدولة الليبي اتفق على القواعد العامة لمُقترح قانون الانتخابات وتوزيع الدوائر والمقاعد النيابية، وهي خطوة مهمة إلى الأمام، فإن العقبة الكبرى أمام انتخابات الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، ما زالت قائمة. ويمكن القول إن الجماعات المسلحة، المنتشرة في كافة أرجاء البلد، تشكل أكبر خطر على أي حل سياسي، لأنها متفوقة على الدولة وعصية على الاخضاع.
ومن المؤشرات الدالة على سطوتها اختطاف مدير مكتب النائب الأول لرئيس الوزراء في حكومة الوحدة الوطنية، رضا فرج الفريطيس، في قلب العاصمة طرابلس، وعجز الأجهزة الأمنية التابعة لحكومة الوحدة الوطنية عن معرفة مكانه، فضلا عن القدرة على تحريره من خاطفيه ومعاقبتهم.
ولا يمكن إحصاء الميليشيات، التي تضاعف عددها، مع الهجوم الذي نفذته قوات الجنرال المتقاعد خليفة حفتر على العاصمة طرابلس يوم الرابع من نيسان/ابريل 2019. وهذا ما أكده أخيرا الموفد السابق للأمم المتحدة إلى ليبيا غسان سلامة، الذي عزا في تصريحاته الأخيرة، زيادة أعداد المقاتلين الأجانب والمرتزقة في ليبيا، إلى ذلك الهجوم العسكري، الذي كشف النقاب عن إرسال مرتزقة شركة «فاغنر» الأمنية الروسية، المُرتبطة بالكرملين، إلى ليبيا لدعم قوات حفتر.
من هنا تبدو خطورة المعضلة الأمنية المعقدة، التي لن يكون هناك سلام في المستقبل من دون إيجاد حلول لها. وما يزيد الأمر صعوبة أن أجهزة الدولة الليبية الأمنية والعسكرية، انهارت في أعقاب انتفاضة 17 شباط/فبراير 2011 ما يستدعي اليوم بناء مؤسسات جمهورية حديثة. كما أن التدفق الكبير للسلاح من الخارج وانتشار عصابات التهريب والجريمة المنظمة عبر الحدود غير المحروسة، جعل هذه الأخيرة خارج السيطرة في كثير من مناطق ليبيا.
وسارع أمراء الحرب إلى ملء الفراغ الذي أعقب انهيار النظام في 2011 بينما عجزت السلطات الجديدة، نظرا لضعفها وقلة خبرتها، عن إصلاح أسلاك الأمن والجيش والقضاء والمخابرات والادارة.

تداعيات أمنية على الإقليم

أكثر من ذلك، يشكل عدم الاستقرار في ليبيا، وخاصة في الجنوب، مصدر تهديد لدول الجوار، ومن بينها الجزائر، التي تعرضت لعملية إرهابية واسعة في مطلع العام 2013 استهدفت المهندسين والعمال في أكبر مجمع لإنتاج الغاز المُسال بتيغنتورين أو عين أميناس (أم الناس) ما أدى إلى مقتل 23 رهينة و32 مسلحا. وأتى المهاجمون، الذين ينتمون إلى مجموعة تتبع تنظيم «القاعدة» من إقليم فزان المُتاخم للحدود مع الجزائر.
هذا الوضع الأمني الخارج عن السيطرة، يجعل أي اتفاق عسكري أو أمني توقع عليه السلطات الليبية، لمجابهة تهديدات إقليمية أو حتى داخلية، غير مضمون التنفيذ. ولذلك استمرأت الجماعات المسلحة تحدي ما بقي من رموز النظام، وتصرفت بوصفها أقوى من مؤسسات الدولة.
في هذا المناخ صارت ليبيا موئلا لحركات التمرد بدءا من تنظيم الدولة و»القاعدة في بلاد الغرب الإسلامي» والحركة الوطنية لتحرير أزواد وحركة العدالة والمساواة وانتهاء بجماعة بوكو حرام. وساعد تدفق المهاجرين على ليبيا من بلدان الساحل والصحراء في زيادة أعداد المنتسبين إلى تلك الجماعات، التي تصرف رواتب شهرية للمنضمين إلى صفوفها.
ويتفق المحللون على أن اضطراب الأمن في ليبيا وشلل مؤسسات الدولة، شكلا مصدرين كبيرين لعدم الاستقرار في منطقة الساحل والصحراء، ولانتشار العصابات المسلحة وتُجار البشر وشبكات المخدرات ومهربي السلاح في الإقليم بأسره. وهذا ما أكده اغتيال الرئيس التشادي الراحل ادريس ديبي، في شمال البلد، غير بعيد عن الحدود المشتركة مع ليبيا، على يد إحدى حركات التمرد المسلحة.
ونتيجة لقلة انضباط أعضاء الميليشيات وعدم خضوعهم لسلطات الدولة، أو ما تبقى منها، كان من الصعب مراقبة حركة السلاح المتدفق على الأجسام شبه العسكرية المختلفة، بما في ذلك السلاح الثقيل. لهذه الاعتبارات اتخذت التحديات الأمنية في ليبيا بعدا إقليميا، وبات من غير الممكن معالجة تلك التحديات الداخلية بمعزل عن التحديات والمخاطر الإقليمية، وهو ما يُفسر وجود دول الجوار، وبخاصة مصر والجزائر في مؤتمري برلين 1 وبرلين2.

تهميش الدور الليبي

على أن دولا أخرى تعاطت مباشرة مع التحديات الأمنية في ليبيا، من دون المرور عبر سلطات طرابلس المُعترف بها من الأمم المتحدة، على غرار أمريكا التي قصفت في مناسبتين تجمعات لعناصر تنظيمي «القاعدة» و»داعش» ومعسكرات تدريب تابعة لهما في كل من أجدابيا (شرق) في حزيران/يونيو العام 2015 وصبراتة (غرب) في شباط/فبراير العام التالي.
كما لجأت بعض القوى الدولية إلى إجراءات أحادية، متذرعة بالانفلات الأمني السائد في البلد، لعل أبرزها إقدام قوات أمريكية خاصة على القبض على عنصرين ليبيين، من المصنفين في لوائح الإرهاب، وهما أبو أنس الليبي (2013) وأحمد أبو ختالة (2014) ونقلوهما إلى أمريكا بعدما وُجهت لهما تهمة الضلوع في اغتيال السفير الأمريكي لدى ليبيا كريستوفر ستيفنس في مقر القنصلية الأمريكية في بنغازي العام 2012.

تزايد التدخلات الخارجية

كما نفذ الطيران الحربي المصري غارات على ما قيل إنه معسكرات تابعة لتنظيم «داعش» شرق مدينة درنة، في شباط/فبراير 2015 ردا على جريمة اغتيال 21 عاملا قبطيا مصريا في مدينة سرت (وسط). وكيفما كانت مبررات تلك الغارات، فإن إحدى نتائجها الواضحة تمثلت بتزايد التدخلات العسكرية الخارجية وتعاظم المخاطر الأمنية، ما وفر مناخات مُلائمة لتحركات الجماعات المسلحة، واستطرادا للصدام بين عناصرها.
وبسبب تدحرج الثقة بالمؤسسات الجديدة، التي أبصرت النور بعد إسقاط النظام السابق، لاحظ باحثون في العلوم الاجتماعية عودة المواطن الليبي إلى الاتكال على الحاضنات الأساسية، مثل الأسرة والمنطقة والقبيلة، لضمان أمنه، الذي لم تستطع الدولة ضمانه.
ومن شأن هذا السلوك أن يُؤخر الهيكلة الجديدة للمجتمع، القائمة على دور أكبر للمجتمع المدني وللعمل في إطار الأحزاب والنقابات. ويقول الباحث الليبي محمد الجارح في هذا المضمار «ما لم يُصبح الوضع الأمني تحت السيطرة، فإن محاولات تحقيق تقدم في جميع المجالات الأخرى، ستبقى معطلة ومحفوفة بالمخاطر». ويعتبر الجارح أن هناك الكثير من الثغرات والأخطاء في حوكمة الأزمة السياسية، من ذلك صرف الدولة رواتب لعناصر الجماعات المسلحة، ما نتجت عنه زيادة ضخمة في أعداد المسلحين، الذين ينسبون أنفسهم للثورة وينضمون إلى الجماعات المتشددة.

العدالة الانتقالية مؤجلة

ثمة عنصر آخر يعطل سلاسة الانتقال الديمقراطي في ليبيا، ويتمثل في تأخير المصالحة، إلى جانب التردد في إطلاق مسار العدالة الانتقالية. ويمكن القول إن الصراع بين الفرقاء الليبيين، على جميع الأصعدة وفي كل المواضيع تقريبا، شمل أيضا العدالة والمصالحة، فعطلهما. لا بل هناك من أخذوا ثأرهم بأيديهم، بعدما انضموا إلى جماعات مسلحة، بحثا عن الحماية أو بدافع الانتقام.
وهناك إجماع لدى الخبراء على أن السباق الضاري طيلة السنوات الماضية للسيطرة على قطاع النفط والغاز كان أحد أسباب خلخلة الأمن واندلاع صراعات دامية أنهكت الدولة والمجتمع في آن معا. وكان محور تلك الصراعات محاولة السيطرة على حقول النفط وموانئ التصدير وأنابيب نقل الغاز الطبيعي.
وسيطر رئيس ما يُدعى بـ»حراس المنشآت النفطية» ابراهيم الجظران، وهو من دعاة الفدرالية، على الموانئ الممتدة من السدرة إلى رأس الأنوف، فقطع شريان الحياة الذي يتغذى منه الاقتصاد الليبي، بالنظر إلى أن صادرات النفط والغاز تشكل المصدر الأكبر لإيرادات البلد.
كما نسجت بعض الجماعات الاثنية في الجنوب على المنوال نفسه، وخاصة التبو والطوارق، الذين أوقفوا تصدير النفط أيضا في فترات مختلفة، احتجاجا على ما اعتبروه تمييزا في حقهم وحق مناطقهم.
واستخدم سكان الزنتان (شمال غرب) السلاح نفسه في 2014 انتقاما من إخراج قواتهم من العاصمة طرابلس على أيدي ميليشيا غريمة تُدعى «فجر ليبيا» مركزها في مدينة مصراتة.
كما قاتلت قوات «فجر ليبيا» «حراس المنشآت النفطية» بُغية طردهم والسيطرة على الموانئ في شمال البلاد، وفي النهاية فر الجظران وفشل الهجوم، بعدما ألحق أضرارا بالغة بالبنية الأساسية التصديرية. وتعرضت الموانئ نفسها إلى هجوم على أيدي قوات مدينة سرت (شمال وسط)، في 2016 ولم يكن مصير الهجوم أفضل من مآل الهجمات السابقة.

معسكرات تدريب

إلى ذلك شكلت ليبيا مصدر أخطار أمنية على دول الجوار من خلال مراكز التدريب التي تديرها جماعات مسلحة خارجة عن القانون وعن الدولة. ومن أولئك «المتدربين» شباب من تونس ومصر والسودان وغيرها، يُرسل بعضهم إلى بلدانهم لتنفيذ عمليات إرهابية، على غرار العملية التي استهدفت مدينة بنقردان الجنوبية التونسية لإقامة إمارة فيها.
وأدت هذه الصراعات المستمرة حتى اليوم إلى تسييس جميع الملفات الاقتصادية والعسكرية والادارية، وبات التعيين في المناصب المهمة خاضعا للصفقات والمقايضات، ما أدى إلى شللها بعدما تم التخلي عن مبدأ اختيار الأجدر والأكفأ. وانتشر في ذلك المناخ الفساد والرشوة اللذين سببا خسائر كبيرة لاقتصاد هش، ما زال لم يتعاف من هزة 2011.

القبائل حارسة المنظومة؟

ولم تستطع القبائل، بما هي حارسة المنظومة الأخلاقية للمجتمع، فرملة تدحرج الدولة نحو هوة الفساد، إذ انضمت القبائل الكبرى إلى المعسكرين المتقابلين في الحرب الأهلية، المستمرة منذ 2014 وخاصة في المناطق التي تسيطر عليها تلك القبائل سواء في الشرق أم في الجنوب. ويجوز القول إن قبائل الشرق لعبت دورا محوريا في تشكيل ما دعاه الجنرال خليفة حفتر بـ»الجيش الوطني الليبي»، غير أن هذا الجيش، المُعتمد أساسا على مرتزقة شركة «فاغنر» الروسية، مُني بهزيمة ثقيلة عند أسوار العاصمة طرابلس، ما جعله يوافق على وقف إطلاق النار.
بهذا المعنى يتصدر الملف الأمني سائر الملفات الليبية المفتوحة حاليا، فهو المفتاح وهو المدخل لإيجاد مناخ مناسب لإجراء الانتخابات في ميقاتها المُتفق عليه في برلين وجنيف، أما غياب الأمن فسيُحبط مسار معاودة البناء وإقرار السلم الأهلي.

 

تعليقات