رشيد خشـــانة – نفى الليبيون ما تردد أخيرا من أن مئات الإرهابيين التونسيين موجودون حاليا في قاعدة الوطية الليبية، استعدادا لتنفيذ عمليات في بلدهم.
بددت الزيارة التي أداها رئيس الحكومة الليبية المؤقتة عبد الحميد الدبيبة إلى تونس الخميس الأجواء القاتمة، التي أحاطت بالعلاقات الثنائية طيلة الأسابيع الماضية. إلا أنها لم تُتوج بأية إجراءات من شأنها معاودة فتح الحدود واستئناف حركة التجارة والمسافرين بين البلدين. مع ذلك تبقى تونس، في ظل وجود أزمات تُسمم العلاقات المغاربية، وخاصة بين الجزائر والمغرب، رئة التنفس الرئيسة لليبيين اجتماعيا واقتصاديا، وهو ما يُفسر المُطالبات المُلحة بإلغاء قرار غلق الحدود.
أتى القرار في أعقاب تصريحات منسوبة للدبيبة تتهم تونس بتصدير الإرهاب، وهي تصريحات نفاها رئيس الحكومة الليبية بشدة، لا بل وأكد في جلسة لمجلس النواب الليبي بطبرق الأربعاء، أن تونس وليبيا «شعب واحد في دولتين». ويُعتبر ملف مكافحة الإرهاب حساسا، بالنظر لعدد الشبان التونسيين الذين سافروا إلى ليبيا، بعد ثورة 2011 وتلقوا تدريبات في معسكرات تابعة لميليشيات ليبية خارجة عن الدولة، قبل أن يعود بعضهم لتنفيذ عمليات إرهابية في تونس. إلا أن الليبيين نفوا ما تردد أخيرا من أن مئات الإرهابيين التونسيين موجودون حاليا في قاعدة الوطية الليبية، استعدادا لتنفيذ عمليات في بلدهم.
وبدا أن الجدل في الموضوع انتهى مع زيارة وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش أواخر الشهر الماضي إلى تونس. لكن لم تُفتح الحدود مجددا، ما أدى إلى تجميد شريان التواصل بين البلدين، فقد ظلت 450 سيارة إسعاف مُتوقفة في المعبر الحدودي راس جدير، إلى جانب 400 شاحنة تحمل صادرات تونسية متجهة إلى السوق الليبية، ما يشكل مخاطر على صحة المرضى ويُسبب خسارة فادحة لمصانع تونسية في قطاعات مختلفة. وتشير إحصاءات غرفة الصناعة والتجارة التونسية الليبية إلى أن ليبيا كانت الشريك التجاري الأول، لتونس في العالم العربي، غير أنها فقدت هذه الرتبة بسبب تكرار غلق الحدود المشتركة وتداعيات جائحة كوفيد 19.
وتتسم العلاقات التونسية الليبية بخصائص فريدة، ظهر عمقها في ظروف المحن والعسر، إذ وجد التونسيون دعما ماليا من ليبيا في الفترات الحرجة التي عاشوها في السنوات الأخيرة، من ذلك أن الحكومة الليبية وضعت في العام 2019، وديعة بـ500 مليون دولار، في المصرف المركزي التونسي، في عهد رئيس الوزراء السابق فائز السراج. وجدد الليبيون الوديعة في مطلع العام الجاري لمدة 18 شهرا إضافية. كما أسدى مصرف ليبيا المركزي توجيهات للمصارف التجارية المحلية بتيسير فتح اعتمادات وحسابات مصرفية للصادرات التونسية التي تصل برا عبر بوابة راس جدير.
ويسعى التونسيون إلى إحياء الاتفاقية الثنائية الخاصة بإنشاء منطقة للتبادل الحر في مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا، والتي تم التوقيع عليها العام 2001 في عهد الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، ودخلت مجال التنفيذ في العام التالي. وقضت الاتفاقية بإلغاء جميع الرسوم على المنتجات المُصدرة من أحد البلدين إلى البلد الثاني.
ويعتقد الخبراء أن نهاية الصراع وانطلاق مرحلة معاودة البناء سيُمكنان المقاولات التونسية من المساهمة في مشاريع إعادة الإعمار، واستعادة المكانة التي كانت تشغلها في السوق الليبية قبل انتفاضة 2011 بالرغم من المنافسة التركية والروسية وأوروبية.
ويتوقف ذلك على مدى تنفيذ خريطة الطريق المُنبثقة من مؤتمر برلين (2020) التي تقضي بإجراء انتخابات مزدوجة في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر المقبل، تستند على مرجعية دستورية وقانون انتخابي. لكن حدث نوع من التسابق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة في إعداد قانون الانتخابات، ففيما أعلن رئيس مجلس الدولة خالد المشري من روما أن المجلس على وشك إعداد قانون للانتخابات، ناقش أعضاء مجلس النواب على مدى عدة جلسات مشروع قانون انتخابي، يشمل خاصة انتخاب رئيس الدولة وتحديد اختصاصاته، وكذلك الشروط الواجب توافُّرها في المرشح للمنصب، والتي منها أن يكون ليبيًا مسلمًا، لا يحمل جنسية أخرى، وأن يتمتع بحقوقه المدنية ولم تصدر ضده أي أحكام مخلة بالشرف.
كما حدَّد القانون، الصادر عن مجلس النواب تحت الرقم 1 للعام 2021 صلاحيات الرئيس، ومنها تمثيل الدولة في علاقاتها الخارجية، واختيار رئيس الوزراء، وتكليفه بتشكيل الحكومة وإقالته. كما يختار نائبًا لرئيس الدولة على أن يكون النائب ورئيس الوزراء من غير الإقليم الذي ينتمي إليه الرئيس، وعلى أن يكون كل منهما من كل إقليم من الأقاليم الأخرى. وتشمل سلطات الرئيس القيام بمهام القائد الأعلى للجيش، وتعيين رئيس جهاز المخابرات العامة، بعد موافقة مجلس النواب، وإقالته، وكذلك تعيين السفراء وممثلي ليبيا لدى المنظمات الدولية، بناء على اقتراح من وزير الخارجية وعرض مجلس الوزراء.
نظام رئاسي خالص
بهذه الملامح والصلاحيات يمكن القول إن ليبيا تتجه إلى نظام رئاسي بحت، إذ أن الرئيس هو الذي يُسمي رئيس الحكومة ويعزله، وبالتالي لن تكون الحكومة منبثقة من البرلمان، ولن تكون مسؤولة أمامه، كما أنه هو من يُعين نائب رئيس الجمهورية، ولن يكون نائبا منتخبا، مثلما هو الشأن في قوانين انتخابية مماثلة. وجرت مناقشات دقيقة في مجلس النواب بخصوص هذا القانون، بما فيه الشروط الخاصة بالترشح، إذ اقترح بعض الأعضاء إلغاء بند التزكية، وهو رأي قوبل بالرفض من الأعضاء الآخرين، الذين حضوا على زيادة عدد الناخبين المطلوبين لأجل التزكية، فيما اقترح نواب آخرون إجراء الانتخابات الرئاسية بناء على نظام القائمة، أي أن يُنتخب رئيس الدولة ونائبه ورئيس الوزراء معًا في قائمة واحدة.
ودعا بعض النواب إلى إجراء الانتخابات الرئاسية على أساس الدوائر الانتخابية الثلاث، في الغرب (طرابلس) والشرق (برقة) والجنوب (فزان)، فيما شدد نواب آخرون على ضرورة استكمال توحيد المؤسسة العسكرية باعتباره شرطا أساسيا لإنجاح الانتخابات.
تحذير من الحكم الفردي
أما المسألة التي أثارت نقاشا ساخنا في البرلمان، فهي الصلاحيات التي ستُمنح لرئيس الدولة، فقد اقترح بعض النواب منحه صلاحيات واسعة من بينها حل البرلمان والحكومة، فيما حذر آخرون من مخاطر التوسع في الصلاحيات، لأنه قد يؤدي إلى العودة إلى الحكم الفردي.
وفي أعقاب ذلك الجدل تم اعتماد النسخة النهائية، ولم يُعرف محتواها الكامل، إلا أن المستشار الإعلامي لرئاسة مجلس النواب فتحي المريمي، صرَّح بأن المجلس أرسل القانون رقم 1 للعام 2021 الخاص بانتخاب رئيس الدولة وتحديد صلاحياته إلى المفوضية العليا للانتخابات وبعثة الأمم المتحدة للدعم لدى ليبيا وكل جهات الاختصاص الليبية.
مُخرجات اجتماع الجزائر
إلى هذه الجهود الرامية للاستعداد سياسيا وقانونيا للانتخابات، تستمر المحاولات الرامية لإقناع الدول التي لديها مرتزقة أو عسكريون نظاميون في الأراضي الليبية، بضرورة سحبها، وإن تدريجيا، قبل إجراء الانتخابات. وفي هذا الإطار برزت الدبلوماسية الجزائرية بمساعيها للتعريف بمخرجات اجتماع دول الجوار الليبي الأخير في العاصمة الجزائرية.
وطار وزير الخارجية رمطان العمامرة إلى كل من موريتانيا والنيجر ومصر، حيث دعا في اجتماعات مجلس الجامعة العربية إلى اعتماد «منهج عمل عربي مشترك، يعتمد على أسس مستحدثة» في حل الأزمة الليبية. وتابع العمامرة جولته الأفريقية المخصصة للملف الليبي، بزيارة الكونغو الديمقراطية، من أجل اللقاء مع الرئيس الحالي للاتحاد الأفريقي. ويختتم جولته في الكونغو برازافيل، التي تترأس اللجنة رفيعة المستوى حول ليبيا، بُغية مناقشة مخرجات اجتماع الجزائر وسبل تنفيذها.
وتتقاطع الجهود الجزائرية مع المساعي التي يبذلها الاتحاد الأوروبي للمساعدة في تحقيق الحل السياسي في ليبيا، وهي الرسالة التي حملها وزير خارجية الاتحاد جوزيب بوريل، خلال زيارته ليبيا الأربعاء. وأبدى بورال تأييد الدول الأوروبية لـ»مشروع المصالحة الوطنية الشاملة» الذي تقدم به رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في أعقاب الإفراج عن الساعدي القذّافي نجل معمر القذافي ومسؤولين آخرين من رموز النظام السابق.
وأكد المنفي أن المصالحة يجب أن تكون مسارا «يحدّده ويقوده الليبيون» لكنه شدد في الوقت نفسه على ضرورة المحاسبة عن انتهاكات القانون الدولي والاعتداءات على حقوق الإنسان، التي تبقى أولوية سياسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي، على ما قال.
وتطرق بوريل في محادثاته مع الليبيين إلى مسألتين تستأثران باهتمام خاص لدى الأوروبيين، الأولى هي سحب جميع القوات الأجنبية المنتشرة في ليبيا، وأفاد أن الاتحاد الأوروبي يقوم باتصالات مع الدول المنخرطة عسكريا في الداخل الليبي. أما المسألة الثانية التي أكد عليها الممثل الأعلى للأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فهي طلب المساعدة في احتواء الهجرة غير النظامية. ويمكن القول إنه لم يحصل في هذا المضمار على تعهدات جديدة من البلدان المعنية التي ترفض أن تكون حارسة للسواحل الجنوبية لأوروبا.
هذا الموقف الأوروبي من المصالحة والمحاسبة، ليس بعيدا عن الموقف الأمريكي، إذ قال ممثل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في ليبيا جون بينيل، إنه لا يرى سببا تقنيا لعدم إجراء الانتخابات الليبية في موعدها، مؤكدا أن «المفوضية الوطنية العليا للانتخابات جاهزة، والشعب الليبي جاهز، والمجتمع الدولي جاهز».
في هذه الأجواء التفاؤلية أسقط في أيدي كثير من الليبيين والتونسيين بعد صدور بيان إعلامي في ختام لقاء الرئيس سعيد ورئيس الحكومة الليبية المؤقتة الدبيبة، أظهر أن اللقاء لم يُسفر عن إجراءات عملية لمعاودة فتح الحدود، وتسوية كافة القضايا العالقة لتيسير تدفق الأشخاص والسلع عبر الحدود في الاتجاهين. واكتفى بيان نُشر على صفحة الرئاسة التونسية بالقول إن الجانبين اتفقا على إعداد بروتوكول موحد لعودة الحركة عبر الحدود البرية واستئناف الرحلات الجوية بين البلدين في أقرب وقت، من دون تحديد سقف زمني لاستئناف الحركة عبر البوابتين.
ولم يتطرق الوفد الزائر، على ما يبدو من التصريحات الشحيحة، إلى الملفات التي تُسمم العلاقات الثنائية بين الفينة والأخرى، فأهدر الجانبان فرصة أخرى لطي صفحة الخلافات وبناء شراكة طويلة المدى تكون مفيدة للطرفين.