رشيد خشــانة – الخطر الذي يتهدد حكومة الدبيبة لا يأتي من مجلس النواب فحسب، وإنما من المحور الذي تشكل بين وزير الداخلية السابق المرشح الرئاسي باشاغا والقائد العسكري للمنطقة الشرقية والمرشح الرئاسي حفتر.

ينتهي السقف الزمني، المُحدد في خريطة الطريق لأواخر حزيران/يونيو المقبل، مع نهاية مهمة حكومة عبد الحميد الدبيبة، وهي نهاية تُهدد بدخول البلد في مرحلة فراغ سياسي، يسعى كل من مجلس النواب والبعثة الأممية لتفاديه بإجراء الانتخابات العامة مع حلول حزيران/يونيو. واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن هناك «عناصر إيجابية تتحقق لأول مرة منذ عدة سنوات في ليبيا» مشيرا إلى أن أعضاء مجلس النواب، 127 عضوا، وهم يمثلون كافة أنحاء ليبيا تقريبا، اجتمعوا وأسسوا لجنة لوضع خريطة طريق.
ومن المقرر أن تعقد اللجنة جلسة في طبرق (شرق) يومي 24 و25 كانون الثاني/يناير الجاري، بغية تحديد طريقة المضي قدمًا في ملف الانتخابات، مع العلم أن خريطة الطريق، المعتمدة من مجلس الأمن الدولي، ما زالت سارية حتى حزيران/يونيو المقبل، لذا يُعلن الجميع تقريبا أن الانتخابات يجب أن تجري بحلول هذا التاريخ، تفاديا للفراغ.
ويأتي هذا المسار قبل أيام من اجتماعات سيعقدها مجلس الأمن للبحث مجددا في الملف الليبي، وستجري خلالها مناقشة تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، والنظر في تعيين ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس للبعثة، التي اعتمد مجلس الأمن هيكلتها الجديدة منذ أيلول/سبتمبر الماضي. ومن المقرر أن تقدم المستشارة ستيفاني وليامز، إحاطة إلى مجلس الأمن، حول تطورات الأوضاع في ليبيا، يوم 24 كانون الثاني/يناير المقبل. ومن المتوقع أن تعلن خلال الجلسة عن خطة عملها بشأن الوساطة بين الأطراف الليبية، ومحاولة التقريب بين وجهات نظرها حول سُبُل الخروج من الأزمة.
وطالب 44 ناشطًا ومرشحًا للاقتراع البرلماني المفوضية العليا للانتخابات بتحديد موعد نهائي للانتخابات الرئاسية ليقره مجلس النواب في جلسة الأسبوع المقبل. واقترحوا العاشر من الشهر المقبل، موعدًا للجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، والثالث من نيسان/أبريل موعدًا للتصويت المتزامن للجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. لكن هذا السيناريو غير واقعي.
لا بل إن الأمور تسير نحو الأسوأ على ما يبدو، بين مجلس النواب ورئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة، فقد دعا رئيس المجلس عقيلة صالح النواب إلى جلسة رسمية غدا الإثنين في طبرق، بعدما عاد من إجازة استمرت حوالي ثلاثة أشهر، للتفرغ للانتخابات. والأرجح أن المجلس سيناقش موضوع سحب الثقة من الحكومة في ضوء بيان أصدره 15 عضوا من مجلس النواب، وطلبوا فيه من رئاسة المجلس تضمين جدول أعمال الجلسات المقبلة بندا يخص اختيار رئيس حكومة جديد. وأوضحوا أنهم يُفضلون حكومة تكنوقراط مصغرة ذات مهام محددة، «لتحل محل حكومة الفساد برئاسة عبد الحميد الدبيبة» على ما جاء في البيان الذي نشره مجلس النواب على موقعه.
إلا أن الأمم المتحدة لا تؤيد هذا الحل، وتؤكد أن المؤسسات الوطنية الليبية تُواجه أزمة في شرعيتها، «لا يمكن حلها إلا من خلال انتخابات تُفضي لانتخاب رئيس وحكومة بشكل ديمقراطي».
على أن الخطر الذي يتهدد حكومة الدبيبة لا يأتي من مجلس النواب فحسب، وإنما أيضا من المحور الجديد، الذي تشكل بين وزير الداخلية السابق المرشح الرئاسي فتحي باشاغا والقائد العسكري للمنطقة الشرقية والمرشح الرئاسي أيضا خليفة حفتر. ويتفق الحليفان على ضرورة إبعاد سيف الاسلام القذافي من السباق الرئاسي، عندما يحين وقته، انطلاقا من قناعتهما بأن الشعور العام بالإحباط، الناتج عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية، في السنوات الأخيرة، جعل السواد الأعظم من الليبيين أميل للعودة إلى المنظومة القديمة. ولعل هذا ما أقنع اللواء المتقاعد حفتر بخوض غمار المعركة الانتخابية، بعدما فشل في تحقيق هدفه بالوسائل العسكرية.
من هنا انبنى التحالف بين رجل مصراتة القوي باشاغا ورجل الشرق القوي حفتر على مواجهة خصم مشترك في الانتخابات هو الدبيبة. وهذا ما يُفسر إقدام 89 نائبا من أصل 113 عضوا في مجلس النواب، على سحب الثقة من حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة في جلسة 21 ايلول/سبتمبر الماضي، مع استمرارها في تصريف الأعمال. وكان الجدل الواسع الذي أثارته بين مؤيدين ورافضين، أمرا متوقعا ردا على تلك الخطوة التصعيدية. وأسفرت الجلسة عن تشكيل لجنة للتحقيق في الاتفاقات والتكليفات والقرارات التي اتخذتها الحكومة في عدد من الملفات. إلا أن نتائج التحقيق لم تعلن حتى الآن، بالرغم من أن اللجنة أعطيت مهلة أسبوعين لإعداد تقريرها. وفي أثناء ذلك اتهم نوابٌ رئيس المجلس عقيلة صالح بالتزوير في احتساب عدد أصوات النواب الموافقين على سحب الثقة من الحكومة، والذي لم يتجاوز 73 نائبا بحسب قولهم.
واللافت أن موضوع سحب الثقة من الحكومة اتخذ أبعادا جديدة مع توصُل الغريمين اللدودين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى اتفاق على تغيير الحكومة. ونقلت صحيفة «الساعة 24» الثلاثاء الماضي عن مصدر بمكتب رئاسة النواب، أن اتفاقاً جرى التوصل إليه بين المجلسين على تغيير الحكومة والمناصب السيادية. وبدا السفير الأمريكي ريتشارد نورلاند غير مكترث للتداعيات المترتبة على تلك الخطوة إذا ما صحت، إذ عبر عن دعم بلاده لأية عملية من شأنها أن تمنح الليبيين «الحكومة القوية والموحدة وذات السيادة والمنتخبة» التي يستحقونها.

أسبقية التعديل الدستوري

غير أن مجلسي النواب والدولة غيرا المسار نحو إقرار أسبقية التعديل الدستوري على إجراء الانتخابات. وأدى ذلك إلى معاودة طرح موضوع المناصب السيادية، بعدما جرى الإعلان عن تشكيل ست لجان، هدفها متابعة مدى إمكان التكليف في المناصب السيادية. وهي خطوة اعتُبرت إحياء للخلافات القديمة في شأن تقاسم السلطة، بدلًا من توحيد المؤسسات الحكومية. ويتعلق الأمر بمناصب المفوضية العليا للانتخابات والمصرف المركزي وديوان المحاسبة وهيئة الرقابة الإدارية والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. ويعتبر ملف المناصب هذا أبرز تحدٍ في طريق التسوية الشاملة في ليبيا، إذ سيحاول مجلس النواب تضمينها في إطار محاور خريطة الطريق الجديدة.
ومن شأن هذا التوجُه أن يُعسر مهمة وليامز، التي تسعى لتأطير خطة جديدة للحل السياسي في ليبيا، تضع الانتخابات على رأس الأولويات. كما أن عودة صالح إلى ترؤس مجلس النواب، بعد انتهاء «إجازته» الانتخابية، تشكل أمارة على وجود خطة لترحيل الانتخابات إلى فترة أبعد من حزيران/يونيو المقبل. وبالمقابل يُرجح متخصصون في الشأن الليبي، ومن بينهم المحلل الايطالي دانييلي روفينيتي، أن يصوت مجلس النواب الليبي على تشكيل حكومة جديدة، يمكن أن تولد في نهاية يناير الجاري، أو بداية فبراير المقبل، «بالاتفاق بين الشرق وجزء من الغرب». وأتى هذا التطور في أعقاب اللقاء الذي جمع في كانون الأول/ديسمبر الماضي، عددا من المرشحين البارزين للرئاسة، في بنغازي، من بينهم اللواء خليفة حفتر وفتحي باشاغا ومحمد المنتصر وأحمد معيتيق وعارف النايض والشريف الوافي وعبد المجيد سيف النصر.
ويمكن القول إن الخصمين المشتركين لهؤلاء هما سيف القذافي وعبد الحميد الدبيبة. وهناك مشكلة قانونية وأخلاقية هنا تتعلق بترشح رئيس الحكومة الدبيبة الأخير للانتخابات الرئاسية، الذي تعهد للأمم المتحدة بعدم الترشح للانتخابات. كما يوجد مانع قانوني يحول دون ترشُح سيف الإسلام القذافي، بسبب وجود مذكرة توقيف دولية بحقه، صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية. لكن تأكد وجود فريق يضم مستشارين وخبراء قانونيين ورجال أعمال في خارج ليبيا، مهمته التعاطي مع المانع القانوني المتعلق بالملاحقات الدولية لسيف القذافي، ومن ثم وضع رؤية له تخص إخراج ليبيا من وضعها الراهن. والظاهر أن ترشُح سيف الاسلام ليس قرارا فرديا ولا هو مُعبر عن شريحة من المجتمع الليبي وحسب، وإنما يحظى بدعم روسي غير خفي. وأفادت مصادر مطلعة أن الأمريكيين استاءوا من تولي قوات «فاغنر الروسية تأمين انتقال موكب سيف الاسلام من الزنتان (شمال غرب)، حيث كان مُحتجزا منذ 2011، إلى سبها (جنوب) حيث قدم ترشُحه إلى مفوضية الانتخابات وغادر سريعا.
ولعل هذا الدعم الروسي الواضح كان محور اللقاء، الذي جمع للمرة الأولى السفير الأمريكي نورلاند بالقائم بالأعمال الروسي الجديد جمشيد بولتايف، وقد تكون ستيفاني وليامز أثارته أيضا مع بولتايف لدى اجتماعها به بشكل منفصل. وأتى اللقاءان قبل أيام من اجتماعات مجلس الأمن المرتقبة حول ليبيا، التي ستجري خلالها مناقشة تمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم، والنظر في تعيين ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة ورئيس للبعثة، التي اعتمد مجلس الأمن هيكلتها الجديدة في ايلول/سبتمبر الماضي.

حكومة جديدة؟

من المهم في هذا الصدد متابعة نتائج اللقاءات السرية التي جرت في المغرب، في اليوم الثاني من الشهر الجاري، بين كل من بلقاسم نجل خليفة حفتر وعقيلة صالح وخالد المشري، بالاضافة إلى أمير كتيبة «النواصي» في طرابلس مصطفى قدور. وكان محور اللقاء تشكيل حكومة جديدة، تحل محل حكومة الدبيبة، الذي يعتبره المجتمعون خصمهم الأول. لكن لم يرشح شيء عن مضمون الاجتماع ولا عن الخيارات التي نوقشت في إطاره. وحذر مطلعون على الملف الليبي، أسوة بوزير الداخلية الايطالي السابق ماركو مينيتي، من أن تلك التكتلات، معطوفة على تأجيل الانتخابات، ستؤدي إلى تقسيم البلد. وتوقع مينيتي في مقال نشره في صحيفة «لا ريبوبليكا» الايطالية، حصول تصدعات جديدة، مشيرا إلى أن عبد الحميد الدبيبة لا ينوي مغادرة رئاسة الحكومة، فيما يعتقد منافسوه السياسيون أن التفويض الممنوح لحكومته انتهى.
ونبه مينيتي إلى أن أية حكومة جديدة لا تحظى بتفويض شعبي «ستكون ضعيفة وعرضة للتأثيرات الداخلية والخارجية». وأبدى شكه بـ«الاستقرار القسري المضمون من الخارج» مُعتبرا أن شبح التقسيم يخيم على الأوضاع في ليبيا، لكن «لم تجر الإشارة إليه صراحة، ولم يجرِ استبعاده أبدا». ومن الواضح أن الوزير الايطالي السابق يتحدث هنا من موقع الهوس الأوروبي بموضوع الهجرة غير النظامية، فهو يرى في فشل المبادرات السلمية في ليبيا «تغييرا مهما في ميزان القوى في منطقة وسط المتوسط، الحاسمة لإدارة تدفقات الهجرة وإمدادات الطاقة ومكافحة الإرهاب».
وفي السياق كشفت إحصاءات جديدة أعدتها المنظمة الدولية للهجرة عن زيادة كبيرة في عمليات اعتراض المهاجرين وسط البحر المتوسط، إذ تم اعتراض أكثر من 32 ألف مهاجر وإعادتهم إلى ليبيا خلال العام 2021، في مقابل 11 ألف مهاجر فقط في العام السابق. أما المهاجرون المُحتجزون في مراكز خاصة في ليبيا فوصل عددهم إلى أكثر من 10 آلاف، كما توفي منهم 655 مهاجرا، فيما ارتفع عدد المفقودين إلى 897 مفقودا. ومن هنا فإن قدرة الاتحاد الأوروبي على المساهمة في حلحلة الأزمة الليبية تظل محدودة، أولا بسبب الخلافات التي تنخره وتُعطل مبادراته، وثانيا بسبب نظرته المحدودة، التي تُركز بالأساس على تتبع مضاعفات ملف الهجرة بمختلف أصنافها.

تعليقات