رشيد خشــانة – باتت ليبيا بحكومة ذات رأسين منذ العاشر من الشهر الجاري، بعد تسمية البرلمان باشاغا رئيسا للحكومة الجديدة، ورفض الدبيبة تسليم السلطة إلا بعد انتخابات وطنية.

ربما لم يكن أحد في ليبيا يتوقع أن تطفئ النيران المُشتعلة في أوكرانيا الحريق الذي كان على وشك الاندلاع في ليبيا، في أعقاب الأزمة التي انجرت عن تكليف مجلس النواب وزير الداخلية الأسبق فتحي باشاغا تشكيل حكومة جديدة.
رد رئيس الحكومة المؤقتة عبد الحميد الدبيبة بقوة على مبادرة مجلس النواب، رافضا تسليم السلطة. وبدأت تفوح رائحة العودة إلى الاقتتال الداخلي، مع اعتزام الطرفين اتخاذ خطوات تصعيدية. في هذا المناخ المشحون جاءت الأخبار من أوكرانيا، فجر الخميس، لتدفع الفرقاء الليبيين إلى التريث ومعاودة التفكير في خطواتهم التصعيدية.
بهذا المعنى بدا أن هناك ميلا للانتظار، من دون تغيير الأولويات. مع ذلك لم تُخف موسكو دعمها لباشاغا على لسان الناطقة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، التي دعت إلى احترام قرار مجلس النواب القاضي بتكليف باشاغا برئاسة حكومة جديدة، قائلة «يجب احترام اختيار البرلمانيين الليبيين، ولا ينبغي أن تؤدي التناقضات إلى صراع خطر». على أن بوادر هذا «الصراع الخطر» بادية في تشدد الطرفين ورفضهما تقديم تنازلات متبادلة، ما يُثيرا قلقا عميقا من المستقبل لدى غالبية الليبيين.
فعلى الرغم من الرايات التي ما زالت منتشرة في كل مكان والشوارع المزينة بألوان العلم الوطني، في طرابلس، احتفالا بالذكرى الحادية عشرة للانتفاضة، التي أطاحت بالزعيم السابق معمر القذافي، ما زالت تتملك الليبيين مشاعر الحيرة والقلق على مستقبل بلدهم. وهم يُتابعون بحزن تطورات الخلاف بين رئيس حكومة الوحدة الوطنية الدبيبة ورئيس الحكومة الذي كلفه مجلس النواب بتشكيل حكومة جديدة باشاغا. وما يُعمق المخاوف أن معركة لي الأذرع بين الطرفين قد تنزلق إلى مواجهات عسكرية تُعيد البلد إلى أجواء الحرب التي وضعت أوزارها مطلع عام 2020.
وسيعهد مجلس النواب إلى الحكومة الجديدة، إذا ما منحها الثقة، بإدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية حتى إجراء الانتخابات العامة. وأكد باشاغا أنه سيُقدم تشكيلته الوزارية إلى مجلس النواب في الميقات الذي حدده المجلس، أي بعد أسبوعين من التكليف. كما أكد أيضا أن المشاورات الرامية لتشكيل الحكومة تتسم بالسلاسة، وأن المعيار الوحيد لاختيار الوزراء هو الكفاءة.
وبعدما كان مقررا إجراء انتخابات رئاسية في الرابع والعشرين من كانون الأول/ديسمبر الماضي، تقرر إرجاؤها إلى تاريخ غير مُحدد، إثر ظهور تهديدات من أجل فرض مرشحين لا تتوافر فيهم الشروط القانونية، أو لحمل مرشحين آخرين على الانسحاب.
لكن يمكن قانونيا للحكومة التي تُدير حاليا المرحلة الانتقالية برئاسة الدبيبة أن تستمر في إدارة الانتقال حتى الانتخابات، لتفادي عدم الاستقرار السائد منذ 2011.
ويتمسك الدبيبة برفض تسليم الحكومة إلى أي جسم غير منتخب، واقترح في المقابل إجراء انتخابات برلمانية في حزيران/يونيو المقبل. والأرجح أن هذا الصراع الليبي الليبي هو الذي أدى إلى اضطراب في مواقف الأمم المتحدة، وهي عراب اتفاق جنيف، الذي تشكلت في إطاره حكومة الدبيبة. وتجلى الاضطراب في الموقف الأممي من خلال التردد بين الاعتراف بحكومة باشاغا أو مواصلة دعم الدبيبة.

اقتراع إلكتروني؟

وتنص الخطة التي اقترحها الدبيبة على «إجراء الاستفتاء على الدستور بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية» مشيرا إلى أنه في حال تعذر إجراء الانتخابات، نظرا لاستخدام القوة أو إقدام بعض الأطراف على تعطيلها، فإن خيار «الاقتراع الإلكتروني» سيكون «قائما». في المقابل يُفضل مجلس النواب إطالة الجدول الزمني للانتخابات إلى 14 شهرًا، وهو بذلك يُخاطر بتأجيل الاقتراعين البرلماني والرئاسي إلى أجل غير مسمى، لكي يبقى أعضاؤه في أرائكهم بلا سقف زمني. والأرجح أن السيناريو الأمثل لدى رئيس المجلس عقيلة صالح هو أن يكون باشاغا رئيسًا للوزراء بينما يبقى هو رئيسا لمجلس النواب، وهو المنصب الذي شغله لأكثر من سبع سنوات، ويبدو أنه مُصرٌ على شغله إلى أجل غير مسمى، إذا لم تُفتح أمامه الطريق المؤدية للرئاسة.
ولكي نُذكر بالسياق الذي وُلدت فيه حكومة الدبيبة، من المهم الإشارة إلى أن التوافق على تشكيلها أتى في إطار جلسات الحوار، التي انطلقت منذ بداية تشرين الثاني/نوفمبر 2020 في تونس ثم في جنيف، في إطار عملية متعددة المسارات شملت الحوار العسكري والاقتصادي، بالإضافة إلى مسار المرأة والشباب والبلديات. وتمت جلسات «ملتقى الحوار السياسي الليبي» تحت رعاية بعثة الأمم المتحدة إلى ليبيا، بهدف التوصل إلى إنهاء الأزمة وتوحيد السلطة في البلد.
غير أن الدبيبة أكد في كلمة متلفزة الإثنين الماضي أن خطته، التي أطلق عليها تسمية «إعادة الأمانة إلى أهلها» تقوم على إجراء انتخابات برلمانية قبل 24 حزيران/يونيو المقبل، أي قبل ميقات انتهاء خريطة طريق ملتقى الحوار السياسي الليبي، الذي اختار حكومة الدبيبة قبل عام في جنيف. وأجريت في إطار ذلك الملتقى انتخابات تنافست في ظلها أربع قائمات لاختيار رئيس للحكومة المؤقتة ورئيس للمجلس الرئاسي، ففازت قائمة الدبيبة/المنفي على قائمة عقيلة/ باشاغا. انطلاقا من هنا لم يرض باشاغا بالنتيجة، وتوجه إلى مجلس النواب، الذي يرأسه حليفه عقيلة صالح، من أجل الوصول إلى سدة الحكم من طريق موازية. غير أن الدبيبة تمسك بمنصبه واعتبر تكليف مجلس النواب لحكومة جديدة «مناورة فاشلة وإفسادا للمشهد». وتحدث عن تفاصيل خطة سماها عودة الأمانة للشعب، التي تضمن إجراء الانتخابات في حزيران/يونيو المقبل، بشفافية تامة وبإشراف دولي يضمن سلامة التصويت. وتشمل خطة الدبيبة إجراء استفتاء على مشروع الدستور، لكن سيتم الاقتصار على الانتخابات البرلمانية في مرحلة أولى، وترحيل الانتخابات الرئاسية، لتجري وفق دستور دائم، حسب ما قال.
ويعتبر الدبيبة أن خطته هي الحل الوحيد الذي يخرج جميع الكيانات السياسية، بما فيها حكومة الوحدة الوطنية، من المشهد الحالي. ووصف أية مبادرة لتشكيل حكومة انتقالية جديدة بـ«الخطوة الطائشة» و«المهزلة» التي قد تؤدي إلى نشوب مزيد من الاقتتال الداخلي.

مسؤولية الطبقة السياسية

اللافت أن الدبيبة حمل مسؤولية المأزق السياسي الراهن إلى «الطبقة السياسية المهيمنة» معتبراً أنها مُصرة على الهروب من الانتخابات. وتعهد بعدم التنحي من رئاسة الوزراء إلا بعد انتخابات وطنية. وليس واضحا ما يقصده بمصطلح «الطبقة السياسية» فهل يعني بها أعضاء مجلس النواب أم الأحزاب، وهي ذات تأثير هزيل في ليبيا، أم المتعاطين للشأن السياسي عموما؟ الأهم من ذلك أن ليبيا باتت بحكومة ذات رأسين منذ العاشر من الشهر الجاري، بعد تسمية البرلمان باشاغا رئيسا للحكومة الجديدة، ورفض كل واحد منهما التنازل للآخر.
والأرجح أن باشاغا الذي ما زال يُجري مشاورات، على قدم وساق، لتشكيل حكومته، سيعتمد المُحاصصة في توزيع الحقائب الوزارية والمناصب العليا، ولذا ستكون الحكومة التي سيُقدمها للبرلمان نسخة مُعدلة من الحكومات السابقة. أما الخطة التي عرضها الدبيبة في كلمة مُتلفزة، الاثنين الماضي، فيشتمل المسار الأول منها على تشكيل لجنة فنية حكومية لصياغة مشروع قانون الانتخابات، من أجل تقديمه إلى مجلس الوزراء، الذي سيحيله بدوره على مجلس النواب، للموافقة عليه خلال أسبوعين. وسيُمنح هذا المسار أربعة أسابيع بحد أقصى هو 14 آذار/مارس المقبل. وتُقرُ الخطة بالفصل بين مساري الانتخابات البرلمانية والرئاسية، لكي يتم إجراء الأخيرة وفق دستور دائم مثلما أسلفنا. وعرض الدبيبة أن يتعهد هو بالانسحاب من الانتخابات الرئاسية في مقابل البدء في الانتخابات البرلمانية، وخروج جميع الأجسام من ليبيا. ويُركز المسار الثاني على تحديث سجل الناخبين ومنح الوقت الكافي للحملات الانتخابية، وفق جدول زمني تفصيلي تضعه المفوضية العليا للانتخابات، بالتشاور مع الحكومة والمجلس الرئاسي. أما المسار الثالث فيتضمن إجراء الاستفتاء على مشروع الدستور وفق التعديل العاشر للإعلان الدستوري 2011.
ويخص المسار الرابع خيار الاستشارة الإلكترونية، الذي يبقى قائما على ما قال الدبيبة، في حال محاولة أي طرف استخدام القوة لمنع التصويت. ويكون ذلك في كنف الشفافية التامة وبإشراف دولي يضمن سلامة التصويت بحسب ما قال. وتوجه لأعضاء مجلس النواب بهذا النداء «تعالوا إلى هذا الحل، الذي يبطل القوة القاهرة» مضيفاً أن هذا الحل «سيخرجنا جميعاً من المشهد».

دور حفتر

ولم يتعرض الدبيبة إلى خصومه بالنقد، غير أنه اتهم القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر بـ«إذكاء الفوضى في البلد». ويُعتبر باشاغا حليفا لكل من حفتر ورئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وقد اجتمع الثلاثة يوم 28 آب/اغسطس الماضي، في القاهرة، بإشراف من ضباط مصريين، لتنسيق المواقف في شأن الانتخابات، قبل أن يتقرر إرجاؤها.
وفي النتيجة ستجد ليبيا نفسها برئيسي وزراء متنافسين في طرابلس، وبرلمانين مُتضادين، ما يثير مخاوف جدية من تجدد الصراع المسلح، الذي شل البلد في السنوات الماضية.
ويمكن أن يشكل هذا التنازع على الحكم عائقا كبيرا أمام استفادة الليبيين من الحرب المستجدة بين روسيا وأوكرانيا، إذ أن تعطُل تزويد أوروبا بالغاز الروسي، الذي يؤمن نسبة تفوق 50 في المئة من حاجاتها، يمنح ليبيا والعديد من منتجي الغاز، فرصة استثنائية لتسويق غازهم. وتُعتبر ليبيا والجزائر من البلدان الواقعة في محيط القارة الأوروبية، والقادرة على تصدير الغاز بكميات تجارية، ما يساهم في تأمين جزء من حاجات أوروبا إلى الغاز الطبيعي.
وكشفت وسائل إعلام غربية أن الحكومة الأمريكية قامت أخيرا باتصالات مع مجموعات نفطية وغازية تعمل في الجزائر، بينها «توتال» الفرنسية و«إيني» الإيطالية، لمعرفة مدى قدرتها على زيادة حجم الإنتاج من الغاز المُعد للتصدير إلى أوروبا.
ومن المستبعد ألا يتوجه الأمريكيون إلى ليبيا بالسؤال نفسه، لأن ليبيا مُصدر كبير للغاز إلى إيطاليا عبر البحر المتوسط. كما أنها باشرت أخيرا تنفيذ مشروع طاقي جديد يتمثل بتركيب منصتين بحريتين ثابتتين، مقابل مُجمع مليته (غرب). ومن المقرر أن يبدأ العمل في المشروع في الربع الأول من العام المقبل، على أن يدخل مرحلة الإنتاج في العام 2026. ويهدف المشروع إلى تحويل موارد الغاز والمكثفات للاستخدام المحلي والتصدير الإقليمي (إيطاليا) بطاقة إنتاجية مشتركة للغاز تبلغ 760 مليون قدم مكعب يوميًا عند اكتماله. ويُفيد خبراء أن المشروع يتطلب تأهيل منصة أخرى وإنشاء شبكة من خطوط الأنابيب، تحت سطح البحر، لتوصيل الغاز إلى منشأة معالجة على الساحل البحري. وبهذا الانجاز الجديد يمكن أن تزيد ليبيا من إنتاجها وتُحسن موقعها بين الدول المصدرة للغاز.
وبحسب الخبير الاقتصادي الليبي عطية الفيتوري ستستفيد ليبيا من ارتفاع أسعار النفط، لكنها ستتأثر سلبا بارتفاع أسعار بعض السلع، ولا سيما السلع الغذائية الموردة من روسيا وأوكرانيا وأوروبا بشكل عام. أما على المدى الاستراتيجي فإن انتصار روسيا في الحرب على أوكرانيا، سيشجع الروس على مزيد من التمدد في شرق ليبيا وجنوبها، عن طريق عناصر مجموعة «فاغنر» كما أن موسكو ستشجع بقوة تولي باشاغا رئاسة الحكومة المقبلة.

تعليقات