رشيد خشــانة – أكدت الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا مجددا أن عالمنا اليوم يعيش وسط نظام متحرك، ينتقل تدريجاً إلى هندسة غير مألوفة. هذا الانتقال يخص أولاً الدول الكبرى المتحكمة بمفاصل النظام الأساسية، بدءاً من دولة لا يشك أحد بأنها عظمى، وهي روسيا وإن هي تبدو خائفة من وصول منافسين آخرين إلى مرتبتها. ومن جهة ثانية، فقد ظلت روسيا دولة عظمى حتى انهيار جدار برلين، إذ تقلصت رقعتها الجغرافية وتراجع نفوذها، وراح من يتعامل معها في محيطها المباشر يعتبرها قوة إقليمية. غير أنها ما لبثت أن سعت مجدداً في ظل حكم بوتين، للفوز بمرتبة عالمية. ومن أوكرانيا إلى سوريا إلى ليبيا فأفريقيا، بدت كأنها تستحث الخطى لاستعادة المجد السوفياتي، وإن جزئياً.

دعما للجيش الأحمر

ومن أبرز مظاهر ذلك الانتشار الروسي المُستجد إرسال قوات إلى ليبيا تحت غطاء الشركة الأمنية الروسية «فاغنر» لمقاتلة القوات التابعة لحكومة فائز السراج السابقة، وفي إطار السعي للاستحواذ على كامل التراب الليبي. وأكدت مصادر ليبية متطابقة أن تلك القوات، المؤلفة من بضعة آلاف عنصر يتقاضون رواتب شهرية، تم إجلاؤها من مواقعها بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا، وتجميعها في إحدى القواعد شرق ليبيا، لكي تكون على أهبة الاستعداد للانتقال إلى روسيا حيث ستدعم الجيش الأحمر في الحرب. وفيما يؤكد هذا التطور أن الصراع في صدد العودة إلى جوهره، باعتباره صراعا ليبيا ليبيا، تعثرت أعمال اللجنة العسكرية المشتركة، المعروفة بـ 5+5 بعد سلسلة من الاجتماعات المكثفة داخل ليبيا وخارجها، وهي التي كان على جدول أعمالها بندٌ رئيسٌ يخص خطة إخراج المقاتلين الأجانب من ليبيا. كما تعثر أيضا المساران الآخران، السياسي والاقتصادي، اللذان أقرهما مؤتمر برلين حول ليبيا المنعقد في 19 كانون الثاني/يناير 2020 في إطار تصور يرمي للحفاظ على وقف إطلاق النار المُوقّع في جنيف في تشرين الأول/أكتوبر 2020 من أجل إنهاء الأزمة في البلد.
وعلى الرغم من إعلان أعضاء اللجنة العسكرية عن خطة، بجدول زمني محدد، لإنهاء الوجود العسكري الأجنبي، لم يتمكنوا من تحقيق ذلك الهدف، بسبب تمسك الفاعلين على الأرض بعدم خسارة تحالفاتهم الدولية، ورغبة الأطراف الدولية ذاتها في الحفاظ على توازنات عسكرية تحقق حالة من الاستقرار الهش، الذي يُوفر بدوره الحد الأدنى من حماية المصالح وتعزيز النفوذ.
ويُحيلنا تعثر تلك المسارات الثلاثة إلى محاولات اللاعبين الأساسيين في ليبيا استثمار مناخ الحرب في أوكرانيا لتعزيز وزنهم العسكري والسياسي في الداخل، وهو ما عبرت عنه عمليات إطلاق أربعة صواريخ أرض أرض (صاروخا رماية مفردة وصاروخا رماية مزدوجة) بفارق 50 دقيقة، على هدف يبعد عن منطقة الإطلاق مسافة 200 كيلو متر. وتمت العملية في حضور القائد العسكري للمنطقة الشرقية اللواء المتقاعد خليفة حفتر . وأظهرت صور بثتها الأجهزة الاعلامية التابعة لحفتر عملية إطلاق الصواريخ نحو هدف في جنوب غرب مدينة طبرق (شرق) والتي قالت إنها أصابت الهدف بدقة من دون تحديد نوعية الهدف.

رسالة الصواريخ

من الواضح أن رسالة الصواريخ وصلت إلى هدفها السياسي وهو عبد الحميد الدبيبة، الذي ما زال مُصرا على أنه يُمثل الحكومة الشرعية، والذي توعد بمعاقبة كل من يخرج عن مؤسسات الدولة. بالمقابل توجه فتحي باشاغا، في أول خطوة منذ تشكيل حكومته، بخطاب إلى رؤساء المصالح والهيئات والمؤسسات والأجهزة والشركات العامة، طلب فيه التقيُد بعدم ترتيب أي التزامات مالية أو تعاقدية على الدولة إلا بإذن مسبق من رئيس مجلس الوزراء (باشاغا). والمُلاحظ في هذا الصدد أن السفير الأمريكي لدى ليبيا ريتشارد نورلاند أكد أن حكومته تحث في اتصالاتها مع جميع الأطراف الليبية، على الهدوء ووقف التصعيد. وكان نورلاند واحدا من السفراء الأربعة عشرة الذين التقاهم الدبيبة لشرح موقفه من المأزق الراهن. وفي خط مواز أجرى مسؤولون في الخارجية الأمريكية محادثة مع فتحي باشاغا، رئيس الحكومة المكلفة من مجلس النواب، دون إعطاء تفاصيل عن الاجتماعين. ولئن لم يُفصح الأمريكيون عن موقفهم من تنازع الحكومتين على الشرعية، فإن مؤشرات عدة تدل على ميل كل من وليامز والسفير نورلاند إلى صف باشاغا، ما استدعى انتقادات لاذعة، خاصة للمستشارة الأممية. أما عن الكتائب المسلحة في طرابلس فأكد باشاغا وجود خطة لإدماجها في المؤسسات العسكرية والمدنية المختلفة وبناء مشاريع منتجة مقابل التخلي عن السلاح، مشددا على أنه لن يسمح بـ«توجيه البنادق إلى الدولة». وقد ساهمت مغامرة حفتر العسكرية، وخاصة هجومه على طرابلس في 2019 على عسكرة الصراع الليبي الليبي واتخاذه بعدا إقليميا، باعتبار أن ليبيا تقع في ملتقى الخطوط الممتدة من سوريا إلى منطقة الساحل والصحراء وصولا إلى العمق الأفريقي. وهذا هو المناخ الذي أتاح لقوات روسيا أن تضع أقدامها في ليبيا تحت غطاء شركة «فاغنر». هكذا بات الصراع الأمريكي الروسي على النفوذ يشمل ليبيا، مع استحواذ الأمريكيين على الملف الدبلوماسي، من خلال مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز، وهي مواطنة أمريكية، وأيضا من خلال وزارة الدفاع الروسية التي تُوجهُ عناصر «فاغنر» من خلف الستار.

«فاغنر» ما زالوا هنا

أكثر من ذلك أظهر تقرير لـ«مودرن ديبلوماسي» بثت مقتطفات منه «قناة 218» التلفزيونية الليبية، أن أكثر من 30 ألف مرتزق ينحدرون من سوريا وتشاد وغيرهما شاركوا في القتال في ليبيا، لا يزالون موجودين في البلد، على الرغم من الاتفاقات التي تم التوصل إليها بشأن انسحابهم. وأفادت تقارير إعلامية أن أنظار هؤلاء العناصر باتت متجهة حاليا إلى أوكرانيا، حيث يتوقعون أن تأمرهم موسكو في أية لحظة بالالتحاق بجبهات القتال هناك.
مع ذلك يُرجح أن تُعزز الحرب الدائرة حاليا النفوذ الروسي في البلدان الحليفة. وفي ليبيا حيث يعتمد اللواء المتقاعد خليفة حفتر على الحليف الروسي، منذ زيارته لموسكو في العام 2017 ولقائه مع وزير الدفاع سيرغي شويغو، سيجد ذلك الحضور أبوابا مفتوحة، ليس فقط لتحصيل صفقات في مشاريع إعادة البناء والإعمار، أو لعقد صفقات شراء أسلحة متنوعة، وإنما أيضا لتحصيل نفوذ اقليمي يشمل منطقتي جنوب المتوسط والساحل والصحراء. فروسيا التي كانت علاقاتها باردة مع البلدان المغاربية، طيلة السنوات الماضية، عدا الجزائر، ستضع قدما ثابتة في الفضاءين الأفريقي والمغاربي، بعدما أُبعدت عنهما بوسائل مختلفة.

فرصة تاريخية؟

أما ليبيا فتُعتبر كميات الغاز المستخرجة من أراضيها غير كافية للتعويض، وإن جزئيا، عن الطلب الأوروبي. وهذا ما يُفسر، ربما، أن دي مايو وداسكالزي لم يزورا ليبيا للبحث في هذا الموضوع. وأفاد خبراء أن حقلين بحريين جديدين سيُباشر العمل في إنشائهما مطلع العام المقبل، بعد إنهاء جميع الدراسات الفنية الخاصة بنقل الغاز إلى ساحل البحر ومن ثم توجيهه إلى السوق المحلية أو تصديره. بيد أن تطوير الإنتاج واستثمار الفرصة التاريخية المتمثلة في إعراض أوروبا عن صادرات الغاز الروسية لا يستقيمان مع بقاء الأوضاع الراهنة في الحقول الليبية، التي تأثرت سلبا من عدم الاستقرار السياسي والعنف بين الجماعات، ما أجبر السلطات على إعلان حالة القوة القاهرة في أكثر من مرة. وطالما لم توجد سلطة تنفيذية قوية تبسط سيطرتها على كافة الحقول النفطية والغازية، لن تتسنى الاستفادة من عوائد النفط والغاز، التي ارتفعت مع حرب أوكرانيا. وهذا الاستقرار ليس متاحا حاليا ولا في المدى المنظور، بسبب الصراع الدائر بين الزعيمين الدبيبة وباشاغا، الذي كاد يُشعل لهيب حرب أهلية جديدة يوم الخميس الماضي في العاصمة طرابلس، لولا التدخل القوي لوجهاء مصراتة، التي يتحدر منها الزعيمان، وضغط السفير الأمريكي نورلاند. وأكد الأخير أنه هاتف الدبيبة وباشاغا ووجد لديهما استعدادا لتهدئة التوترات والسعي إلى حل الخلاف السياسي الحالي من خلال المفاوضات وليس بواسطة القوة. لكن ما زال الإعلام الموالي لهما يُحرض ويحشد، عن طريق منابر التواصل الاجتماعي، للدفع باتجاه الصدام. وأدت تلك الحملات إلى بث حالة من الشك والحيرة والبلبلة بين سكان العاصمة. وضاع صوت النواب الـ93 المُعترضين على مبادرة ستيفاني وليامز في غُبار تلك البلبلة، مع أنهم يُمثلون حوالي نصف أعضاء مجلس النواب. وتتمثل المبادرة في تشكيل لجنة لوضع قاعدة دستورية توافقية تصل بالليبيين إلى الانتخابات، بواقع ستة ممثلين عن كل مجلس.
غير أن النواب الـ93 اعترضوا على المبادرة، معتبرين أنها «أتت بشكل مفاجئ» وأنها «تشكل مساراً موازياً وغير مبرر، خصوصاً بعدما توافق المجلسان على إصدار التعديل الدستوري الثاني عشر».

خطوة تصعيدية

في موازاة ذلك، وفي خطوة اعتُبرت تصعيدية، أمر وزير الداخلية في حكومة باشاغا، اللواء عصام بوزريبة، مديريات الأمن وكافة الإدارات والأجهزة والقطاعات الأمنية بعدم التعامل مع حكومة الدبيبة، مشدداً على ضرورة الالتزام بالتعليمات والأوامر. وتزامن هذا الأمر مع تنفيذ وحدات من القوات الموالية للواء خليفة حفتر التمرين العسكري المُتمثل بإطلاق صواريخ أرض أرض في منطقة سلوق جنوب غرب بنغازي، مثلما أسلفنا. ويدل التوقيت على أنه جزء من استعراض القوة لحمل الدبيبة على إخلاء مقعده لباشاغا. وفي المقابل شكل الدبيبة، بصفته وزيرا للدفاع في حكومة الوحدة الوطنية، قوة مسلحة أطلق عليها اسم «قوة دعم الانتخابات والاستقرار» وهي الجهة المسؤولة عن احتجاز ثلاثة وزراء في حكومة باشاغا قبل أيام. في هذا المناخ المحتقن يشعر سكان العاصمة طرابلس بخوف شديد من قادم الأيام، لأن المدنيين هم أول مُتضرر من الحروب. وما زالت ذاكرتهم تحتفظ بالذكرى الأليمة لحرب طرابلس في 2019 التي أوقعت خسائر بشرية ومادية كثيرة، فضلا عن نزوح عشرات الآلاف من السكان من الضاحية الجنوبية… لكن ليست بأيديهم حيلة.

تعليقات